د. رشا سمير تكتب: حكاية بنت اسمها "صوفي"

مقالات الرأي



اختلف الفلاسفة والكُتاب والرسامون فى وصف المرأة...

المرأة فى لوحات دافينشى ليست إلا جسدا ممشوقا ووجها جميلا..والمرأة فى قصائد نزار قبانى ليست إلا فارسا يبحث عن حريته.. والمرأة فى أقوال فولتير هى مثال الرقة والجمال..

هكذا احتار الرجال فى وصف المرأة..وهكذا انقسمت الآراء ما بين كونها عقلا راجحا أو جسدا فائرا..وقلما اجتمعت لأى امرأة تلك الصفتان معا..

تصور آدم أن المرأة التى خُلقت من ضلعه هى أضعف المخلوقات وأنها لا تبحث سوى عن السكن إلى جواره..والحقيقة أن المرأة بعد آلاف السنين خلعت ثوب الحمل وارتدت رداء الذئب..خرجت من كهفها المسحور إلى أرض المعركة تحمل جمالها وذكاءها فى جعبتها لتنتصر على السيوف وأسنة الرماح بطرف من عين حالمة وقدٌ مياس..

كانت شابة ذكية، رائعة الجمال وطموحة..تكونت نبضات صباها من قلب روايات إحسان عبد القدوس..

لا تقرأ فقط..بل تتعلم..وتقتدى، فتحلم يوما بأن تُصبح مادى فى (النضارة السوداء) حتى يقع فى حبها الرجال دون أن تتخفى وراء نظارة سوداء لأنها لا تخشى المجتمع..أو ربما تصبح سميحة فى (أيام فى الحلال) لو لم تشعر بكيانها مع زوج مهزوز..أو تصبح أمينة فى (أنا حُرة) لتصبح رحلتها فى البحث عن كيان هى الطريق للقمة.

المؤكد أن أكثر ما تأثرت بهن هى شخصية سارة فى رواية (قلبى ليس فى جيبي)..على الرغم من أنها لم تأت من القاع مثلها لأنها من أسرة ميسورة الحال، لكن سارة كانت فتاة طموحة تبحث عن النجاح..لا تنظر إلى القاع لأنها لا ترتضى سوى القمة..لم تكن طفلة تعلمت الحبو لأنها تعجلت الوثب..لا تؤمن بأن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة لأن الألف ميل بالنسبة إليها خطوة واحدة..

هكذا تخرجت «صوفى» فى كلية السياسة والاقتصاد وعين أباها على السلك السياسى وعين أمها على بنك كبير، أما عينها هى فلم تتزحزح لحظة من على الثروة..

تركت السياسة ولفظت الاقتصاد وقررت أن تبحث عن طموحها فى أكبر شركة استثمار عقارى لها فرع كبير بمدينة دُبى..وقررت أن يصبح لديها ثروة ضخمة تضاهى ثروة أغنياء البلد، فهى ليست أقل منهم ذكاءً ولا تفتقر إلى إمكانيات الإدارة..

تقدمت بطلب التحاق بوظيفة فى الشركة وبالفعل بعد أول مقابلة تم قبولها وأصبحت واحدة من فريق المبيعات فى الشركة..

منذ الأسبوع الأول حققت مبيعات اعتمدت فيها على ذكائها فى التسويق وجمالها فى التخطيط!.

وضعت خطة محددة وقررت أن تنفذها ببراعة وهدوء..

وقفت أمام ماكينة الكابوتشينو صباحا ليس حبا فى القهوة ولكن فى مهمة من نوع آخر..مهمة تبدأ من عند الرجل الذى يمتلك قلب الشركة..مدير عام الموارد البشرية!.

قدمت نفسها إليه ووضعت ساقا على ساق قبالته وبدأت تتحدث عن نفسها وعائلتها وطموحها ودراستها..حتى السياسة والثقافة لم تتركهما إلا وقد تحدثت عنهما بلباقة ومعرفة..

هكذا ملكته وأصبحت من صديقاته المقربات وهكذا حققت الخطوة الأولى فى خطتها الطويلة..

وقتها تجرأت أن تطرق بابه وتطلب منه طلبا رفضه بشدة فى البداية ثم استسلم لها بعد فقرة قصيرة من الدلال وألف وعد بألا تزج باسمه فى أى مشكلة..قالت له:

« أريد قائمة بأسماء موظفى الشركة ورواتبهم!».

وحين أصبحت القائمة بين يدها، جاءت اللحظة لتنتقل إلى الجزء الثانى من خطتها..

أمسكت بالقائمة..وأخذت تتصفح الأسماء والوظائف والرواتب..فوقعت عينيها دون تعمد على خمسة أسماء..

خمس رجال يشغلون وظائف فى غاية الأهمية بالشركة، أقلهم مركزا يحصل على مائة ألف جنيه شهريا ويركب سيارة مرسيدس ويسكن فى أحد الكمبوندات الفاخرة..

ولأنها تعودت أن يتغلب طموحها وأحلامها على كل العوائق البشرية، بدأت فى تنفيذ الجزء الأخير من خطتها..

لقد وضعت هؤلاء الرجال الخمسة صوب عينيها مثل الهدف وانطلقت لتلقى بشباكها حولهم عل أحدهم يقع ضحية شباكها، فتحقق مرادها..

لم يكن الأمر سهلا فى البداية..كيف تصل إليهم وما الحجة التى تسمح لها بحضور الاجتماعات التى تجمعهم؟ وما الوسيلة المتاحة لخلق حوار أو حجة مشتركة؟

مرت شهور وهى تحاول وترتب وتخطط وتعمل فى صمت..ولا يعلم نيتها سوى صديقها الذى أعطاها الكشف..

قرب نهاية العام كانت الدعوات تصل إلى مكاتب كل الزملاء..دعوة لحضور حفل زفاف «صوفى» على «عادل»..

عادل لم يكن فقط شابا فى أوائل الأربعينيات بل هو شاب ذكى وسيم الملامح يمتلك من العقل رجاحته ومن حب الدنيا منتهاه.. يعمل فى منصب نائب رئيس مجلس الإدارة والعقل المدبر لكل التفاصيل الموجودة فى كل إدارة بالشركة، يمتلك المال الوفير ومحبوب من الجميع وعلى وجه الخصوص من كل زميلاته فى العمل لأنه مهتم بكل التفاصيل الصغيرة التى تجعله محببا إلى قلوبهن من أول الإشادة بأناقتهن وإلى تسريحة الشعر التى تليق والأكل الصحى وآخر أخبار الموضة.. هكذا انجذبت هى فى البداية لحديثه المختلف وخفة دمه..ثم قررت أن تُطلق النيران تجاه الهدف..ومع الوقت اتضح لها أنه كان هدفا صحيحا لا يجوز الطعن عليه باحتساب أوفسايد!.

ثم كانت السيارة الجاجوار والبدل الايف سان لوران والبارفانات التوم فورد، ما أكد لها دقة اختيارها.

منذ اليوم الأول للزواج انتقلت صوفى على الرغم من مستواها الاجتماعى المعقول إلى مكان آخر..زوجة أحد أهم الرجال فى عالم البيزنس، وأحد أغنى أغنياء قطاع المال والأعمال فى مصر..

ركبت سيارة آخر موديل وارتدت أغلى الفساتين وأصبح الماس هو الحجر الكريم الذى احتل أغلب أصابعها..وعلى الهامش، تمت ترقيتها فى العمل لتحتل مكتبا كبيرا يُطل على نيل القاهرة، فأصبحت مثارا للكثير من الأحقاد التى أثيرت ضدها من كل المحيطين بها..

منذ اليوم الأول أيضا اكتشفت أن عادل (بليد) فى لغة المشاعر و(شبه أُمي) فى قراءة لغة أجساد النساء..كان يأخذها بين أحضانه بلغة البيزنس مان..يضع العقود فى الأدراج فور الانتهاء من توقيع الصفقة ويغادر المكان بحثا عن صفقة جديدة!.

وتبقى هى فى انتظار المزيد..وتتمنى لو بقيت بصمات أصابعه على جسدها..وتحلُم بخيوله لتغزو أراضيها، ثم تفاجأ حين تفيق من أحلامها بأنه لا يمتلك خيولا بل يركب سيارة كابورليه وكل ما يشغله أن يجد لها مكانا فى الباركينج!.

باختصار هزم رومانسيتها بواقعيته.. وهدم تطلعاتها فى العشق بإمكانياته المحدودة.

مر عامان على زواجهما وهى تتمتع بكل ما تحلم به أى فتاة فى مثل عمرها وتعانى من حرمان شديد لا تعرف سببه، فهو لا يقصر فى أى شىء ولكنه يؤدى كل الأشياء ببلادة الطالب المستهتر.

فى أحد الأيام شعرت بدوار شديد وهى فى العمل وبحثت عن عادل فلم تجده، وكان أمامها يوم شاق وطويل واجتماعات كثيرة لكن التعب أعياها فاعتذرت للزملاء وانصرفت إلى البيت..

أدارت المفتاح فى الباب..فسمعت أصواتا لم يكن مصدرها الخادمة ولا الطاهى بل كان مصدرها غرفة نومها!..

صعدت ببطء على سلالم الفيللا وقلبها يدق بشدة، فقد توقعت مثل كل الأفلام العربية القديمة أن تجده بين أحضان الخادمة وتكشف سر المدة الطويلة التى يبتعد فيها عنها والسبب الحقيقى لبلادة أحاسيسه..

لكن القدر أهداها مفاجأة من نوع مختلف..

فتحت باب غرفة النوم بهدوء شديد لتكتشف أن زوجها بين أحضان رجل آخر!.

توقف قلبها عن النبض وتجمدت الدماء فى عروقها وماتت أنفاسها المتهدجة..

فى لحظات متلاحقة دار عقلها فى ألف اتجاه..هل تهاجمه وتصرخ فى وجهه؟ هل تتوارى؟ هل تهرب وتفكر بهدوء؟..

لكن عينيه قطعت عليها التفكير.. فقد لمحها..وابتسم..ثم طلب منها الدخول..تقدمت وقدماها لا تكاد أن تحملاها..انهارت على أقرب مقعد بينما هرب صديقه إلى الخارج.

قال لها:

«أتمنى ألا تكون المفاجأة ثقيلة»

قالت والدموع تسابقها:

«لا أصدق ما أراه..لماذا تزوجتنى؟»

قال بهدوء شديد:

«أنا لم أتزوجك، بل تزوجتينى أنت..هل تظنين أنى ساذج إلى هذه الدرجة؟ هل يعقل أن أكون فى مثل هذا المنصب ولا أميز الأمور.. يا زوجتى الحبيبة أنت تزوجتينى من أجل ما أنت فيه الآن..وأنا وافقت لأننى أحتاج لوجهة عائلية لكى يكف من يثرثرون عن الثرثرة»

لم ترد وانتفض العرق غزيرا من كل أنحاء جسدها..فعاد يقول وهو يهم بالخروج من الغرفة:

«أمامك طريق من اثنين.. إما أنك تحافظين على مكتسبات معركتك الطويلة وإما أنك تعلنين عن استسلامك وترحلين فقط بالفستان التى كنت ترتدينه يوم قابلتك».

صمتت قليلا..وغادرت المكان لتفكر بشكل أعمق..سافرت بمفردها لمدة أسبوع لم تكف فيه عن التفكير لحظة...

وهنا قررت صوفى أن تضع خطة بديلة..الخطة (ب)!..

بعد ثلاثة أعوام من تلك الواقعة كانت صوفى تجلس فى حديقة الفيللا وتلهو بالكرة مع ابنها الصغير وهو يحبو حولها فى انتظار رحيل الشمس..عندما انفتح الباب وخرج عادل من داخل الفيللا ومعه شاب فى الثلاثين من عمره.. لمحته بطرف عينيها ولم ترفع عينيها لترى ملامحه..

ارتدى الشاب نظارته الشمسية وابتسم لعادل ثم ركب سيارته وغادر المكان.

نزل عادل من فوق السلم إلى جوارها واقترب منها ليقبلها.. فأشاحت بوجهها بعيدا عنه ثم مالت على الأرض تلتقط يد صغيرها..فسألها:

«ماذا أعددت لنا على العشاء اليوم؟»

وأخرج من جيبه علبة قطيفة بها خاتم من الماس..

لمعت عينيها من شدة الفرح.. فوضع الخاتم فى إصبعها واحتضنها...

ثم غابت الشمس..