طارق الشناوي يكتب: جولييت بينوش "سيدة الدببة".. الفن قبل المرأة أحياناً!

الفجر الفني

طارق الشناوي
طارق الشناوي


فيلمان يحملان اسم السودان الشقيق، بينما الشعب فى تلك اللحظات يرفع شعار إسقاط النظام، ورغم ذلك فإن مهرجان (برلين) لا يمارس دورا سياسيا، ولا يختار أفلامه طبقاً لتلك المعايير الصارمة المباشرة، وإلا انتفت أساسا هويته، تحكم المهرجان- مؤكد- محددات جمالية فى اللغة السينمائية، إذا توافرت يتم فقط على أساسها اختيار العمل الفنى.

لا يوجد مهرجان يلعب دورا نضاليا من أجل بقاء أو إسقاط نظام، كل أنماط التجمعات الفنية والثقافية تعتبر قضيتها الأساسية هى الدفاع عن الحرية كقيمة مطلقة، وعندما تناصر مبدعا بعينه فإن المظلة التى يقف تحتها الجميع هى الدفاع عن الحق فى التعبير وليس فقط حق هذا الفنان، وربما كان أوضح الأمثلة على تبنى هذا الاتجاه، ترصدها فى المهرجانات الكبرى، فهى كثيرا ما أحاطت السينما الإيرانية بقدر لا يُنكر من الدفء، لا تنسَ أن تلك السينما صارت تحمل توصيف (فاكهة المهرجانات) من فرط تعلق الجماهير بها، لديها قدر لا يُنكر من الخصوصية والوهج فى التعبير، وهو ما انعكس رقميا فى عدد الجوائز التى حصدتها فى العقود الأخيرة، رغم الحكم الإسلامى، الذى يطبق معايير أخلاقية مباشرة على الفن، خاصة السينما، متعلقة فى جزء كبير منها بالمرأة، ليس فقط القبلات ممنوعة، بل السلام بالأيدى ممنوع أيضا، إلا أن السينما تناضل بجرأة لكسر تلك (التابوهات)، لم يقتصر الأمر فقط على المخرجين الذين هاجر جزء منهم خارج الدولة بل من ظل على الأرض واصل الدفاع من خلال هامش من المشاغبة، وتمكنوا من زيادةالمتاح، وهو بالمناسبة قابل بحكم الزمن للاتساع.


رغم الفارق الشاسع بين السينما الإيرانية صاحبة التاريخ والسينما السودانية التى تحاول أن تبحث عن تاريخ وترنو رغم كل شىء للمستقبل، فهى أيضا تعانى من ضيق الهامش، فى ظل رؤية أخلاقية مباشرة، ربما بإطلالة متسرعة ومع تواجد فيلمين من السودان ضمن فعاليات برلين، والسودان أساسا دولة غير منتجة للسينما، يبدو ظاهريا أن هناك سبق إصرار، خاصة أن الفيلمين ينشدان الحرية، الأول يتناول تاريخ السينما فى السودان (التحدث عن الأشجار) لصهيب جاسم الذى عُرض فى قسم (البانوراما)، وسبق أن تناولناه فى تلك المساحة، والثانى (أوفسايد خرطوم) عن كرة القدم النسائية للمخرجة مروة زين، عُرض فى قسم (الفورم) وهو فعالية موازية تمنح مساحة للأفكار الجديدة، الفيلمان لهما بناؤهما الفنى الخاص فى إطار الفيلم التسجيلى الطويل، ورغم تصويرهما قبل اندلاع الثورة الشعبية فى السودان، التى حددت هدفها بإسقاط النظام، إلا أنهما لمسا أن فلسفة الحكم القائمة على المرجعية الدينية هى التى أدت بهذا البلد الثرى- بشعبه صاحب الحضارة وأرضه الخصبة المعطاءة- إلا أنه يعيش فى جزء كبير منه تحت خط الفقر، فيلم (الأشجار) وهى المعادل الموضوعى لهؤلاء الرجال الواقفين كالأشجار فى مواجهة من يريد مسح ذاكرة شعب بإهمال تاريخه السينمائى ومصادرة شغفه بالفن السابع، الحكم الإسلامى فى الخرطوم له مواقف متشددة مع النساء، يحرم حتى لبس الجينز ويمنع على المرأة ممارسة لعب كرة القدم، المخرجة مروة زين، التى قضت جزءا كبيرا من حياتها الشخصية والمهنية فى مصر، تسعى لكى تمسك بالفكرة، حق ممارسة لعبة كرة القدم، التى باتت كجذوة مشتعلة وكأنها تقبض أيضا على الحرية، الفيلم يتجاوز 70 دقيقة ولو تم اختصاره نحو 20 دقيقة لصرنا بصدد شريط سينمائى أكثر جاذبية، جزء من المعلومات التى يقدمها الشريط تتم إعادة تدويره أكثر من مرة، ورغم كل تلك الملاحظات فإن لدينا فيلما مشاغبا ومخرجة واعدة وقادمة.


المرأة لاتزال هى صاحبة اليد الطولى فى المهرجان، الكل ينتظر مساء السبت المقبل ما الذى سوف تعلنه الأيقونة الفرنسية جولييت بينوش التى صارت فى هذه الدورة تحمل لقب (سيدة الدببة)، حيث إنها ستمنح الدب الذهبى والفضى لمن يستحق، ولم تكن فقط إطلالة بينوش مقصورة على رئاسة لجنة التحكيم، لأن تواجدها الرائع رأيته فى فيلم عُرض على هامش المهرجان، وهو أحدث أفلامها الذى حمل اسم (هل تعتقد أنك تعرفنى؟) إخراج صافى نيبو، الفيلم به ملمح واضح من التماهى بين الشخصية الدرامية وبينوش، فهى فى نفس العمر الزمنى الذى تعيشه 55 عاما، وبالتالى تملك تماما القدرة على التعبير بدقة وصدق عن مشاعر المرأة التى تعيش فى العقد السادس من عمرها، نرى قصة حب مع شاب هى التى صنعتها بخيالها، السيناريو البطل الحقيقى لهذا الفيلم، القصة لأن بينوش تكتب وتعيش أكثر من مرة، وبأكثر من نهاية، فى البداية يموت البطل فى حادث، إلا أنها ترفض الاعتراف بالموت، فتعيده على الورق للحياة وتكتب مذكراتها للطبيبة النفسية، تغير من النهاية لتموت هى فى حادث سيارة، ثم نرى نهاية ثالثة وهى أن البطل أساسا لم يمت وأنها عاشت فى خدعة.


الفيلم يلعب مع الجمهور مباراة فى الذكاء، فهو يتجاوز فى كثير من الأحيان خياله، تلك هى الخطوط المباشرة العريضة للشريط، فهو يدخل فى مشاعرنا، لنروى نحن أيضا الحكاية كما نريدها وليس كما حدثت على الشاشة، كل منا لديه حكاية يريد أن يرويها ويرسم هو كل تفاصيلها حتى لو لم يمتلك جرأة بينوش ويبح بها، حياة الإنسان هى مزيج من واقع يعيشه وخيال أيضا يتمنى أن يعيشه، فيعيشه.. ونكمل غدًا.