طارق الشناوي يكتب: "برحمة الرب" فيلم يحرض الأطفال على فضح من اعتدوا عليهم!

الفجر الفني

طارق الشناوي
طارق الشناوي


التعبير عن الغضب واحد من من حقوق الإنسان، والإعلان بمظاهرة يتم عادة بلا أدنى اعتراضات، كبت الرأى يخصم من قدرة المجتمعات على الإنجاز فى عملها، وعلى الجانب الآخر حماية الآخرين من تبعات هذا الإعلان المباشر هى أيضا حق أصيل للإنسان، وهكذا شاهدنا العاملين فى واحدة من دور العرض الرئيسية بمهرجان (برلين) والتى تضم ما يزيد على 30 شاشة مختلفة السعة وهم يضجون بالغضب، حيث يطالب العاملون فى السينما بزيادة أجورهم واختاروا توقيت إقامة المهرجان ليصبح للموقف دلالته وقوته الإعلامية، حيث إنه بالضرورة سوف تتداوله العديد من المنصات الإعلامية الحاضرة لتغطية الحدث، ولكن هذا الاحتجاج لم يمنع أحدا من مواكبة العروض بكل تفاصيلها ولم يتأخر موعد أى من الأفلام عن توقيته، ولم يشعر ضيوف المهرجان وهم يعدون بالآلاف أن هناك عراقيل أمامهم أو ضاع بعض الوقت عليهم، ولم تكن فقط المظاهرة خاصة بأجور العاملين فى السينما، ولكن شركة (نتفلكس) العالمية والتى باتت لها قوتها كمنصة رئيسية لعروض الأفلام والدراما والمنوعات على (النت) أضحت واحدة من المعضلات التى تهدد من وجهة نظر أصحاب دور العرض اقتصادات السينما بوجه عام، فى عروضها التقليدية عالميا داخل دار العرض، وهو ما أدى لتباين ردود الأفعال فى مواجهة تلك (الميديا) التى يبدو كأنها تسعى لتغيير نمط المشاهدة المستقر عالميا.

منعت إدارة مهرجان (كان) فى الدورة الأخيرة ولا يزال الأمر قائما فى الدورة القادمة، عروض أفلام (نتفلكس) بالمهرجان، استجابة لأصحاب دور العرض فى فرنسا، الذين اعتبروا أن أفلام هذه الشركة موجهة أساسا للعروض عبر منصات بديلة، وهذا لا يعنى سوى خسارة اقتصادية فادحة لهم فكيف يحتفى بها المهرجان الأول فى فرنسا، خاصة أن مهرجان (كان) يتلقى دعما مباشرا وغير مباشر من أصحاب دور العرض، ولكن دعونا قبل أن نسهب أكثر فى تلك القضية الشائكة والمتعددة الأوجه، نتوقف أمام الحدث الأهم لنا كعرب فى هذه الدورة، وهو أن نجد بالمهرجان صوتا عربيا.

لأول مرة فى هذه الدورة نستمع إلى فيلم ينطق فى أجزاء منه باللغة العربية، حيث إن العرب فى هذه الدورة، أقصد طبعا السينما العربية، مهمشون ومبعدون وبنسبة كبيرة عن العروض الرسمية، والأمر قطعا لا يمكن سوى أن يقع فى إطار الاختيار للأفضل، وهو بطبعه نسبى، وببساطة لم يكن لدى السينما العربية ما هو يستحق، وبين 400 فيلم كان بينها قطعا أفلام عربية ومصرية، ولكن المهرجانات الكبرى، والمفروض أيضا ولا الصغرى، يحق لها أن تعلن عن أسماء الأفلام التى رفضتها، وبالطبع هناك أقسام أخرى فى المهرجان مثل (البانوراما) الذى استضاف المخرج الفلسطينى الجذور الدنمركى الهوية عمر شرقاوى بفيلمه (عرب ويسترن) يمزح المخرج بعين ثاقبة بين التوثيق والخيال ليقدم إطلالة سينمائية أقرب لنظرة عين الطائر فهو يتناول جزءا من حياته لأب ينتمى لفلسطين وأم دنمركية، والأب لم يفقد ذاكرته بعد، بل نستطيع أن نقول إن الذاكرة تسكنه وهو ما أورثه أيضا لابنه، الذى لا يتنازل عن كون تلك هى قضيته، هناك فيلم داخل الفيلم يجرى تصويره ويتناول أيضا الأحداث برؤية تفصيلية خيالية إلا أنها تصب فى قالب الحقيقة، حتى ثورات الربيع العربى، وعلى رأسها 25 يناير تواجدت فى جزء من الحكاية الرئيسية من الشريط، وذلك بعد أن اختفت تماما من المشهد، وذلك فى كل المهرجانات على اختلاف توجهها، باتت وكأنها مرفوضة بنسبة لا يستهان بها من الشعوب، لم تعد ترتاح إليها، لأنها فى النهاية لم تسفر عن تحقيق الأحلام، لم يعد السينمائى العربى متحمسا لها، أو فى الحد الأدنى لو كان لا يزال متحمسا، فهو ليس قادرا على أن يجهر بصوته ويعلن المؤازرة، ربما لن يجد الظهير الشعبى، كما أن الدول رسميا، سواء عاشت الربيع أو لم تعشه لم تعد سعيدة أبدا بتلك الأيام.

فيلم «شرقاوى» يلهث فى رؤيته وفى ملامحه كشريط فنى لديه طموح وجنوح فكرى للتعبير ولا تصنفه وأنت مطمئن تحت أى عنوان فهوعصى على التصنيف، سوى أنه يعتمد فى جزء كبير منه على أن يمس وجدانيا المتلقى حتى الذى لا يعرف تاريخ النضال الفلسطينى، الجزء الحميم فى الفيلم هو أنه يُقدم العادات والتقاليد العربية بنظرة تحمل تقديرا وليست استهجانا، المخرج متمسك بملامحه كعربى وأيضا لا يتبرأ من وقوفه على خط التماس بين عمق الهوية الفلسطينية التى تشمل فى بعدها الثقافى كل تفاصيل التعاطى مع الحياة وحياته فى مجتمع يفرض ثقافته بالضرورة على الجميع، ناهيك عن أنه يحمل هويته وبقدر اعتزاز المخرج بجذوره بقدر ما استحق الفيلم بعد نهاية العرض من حفاوة. ننتقل إلى فيلم المسابقة (محطمة النظام) الألمانى الجنسية وهو يعرض حالة مرضية لطفلة تقف على باب المراهقة، تعيش حالة مرضية وذلك لوجود خلل فى خلايا المخ تجعلها تميل لفرط استخدام العنف تجاه الآخرين، كنت أفضل للمخرجة نورا فنجشاديت التى شاركت فى كتابة السيناريو أن تقدمه فى قالب تسجيلى طويل، فهو يستحق دراسة تتعدد فيها الأوجه، لكى ندرك ونرى كجمهور الحالة الإنسانية التى نتعامل معها، العنف هنا فى توجهه الأساسى مرضى حتى لو ارتكن إلى أسباب اجتماعية فإنه يظل حالة خاصة جدا والفيلم التسجيلى كان هو القالب الأفضل.

والفيلم الفرنسى (برحمة الرب) يقدم جانبا من الاعتداء الجنسى على الأطفال فى الكنيسة، ومن خلال شاب لم ينس ما حدث له فى مرحلة الطفولة وبات يشكل له حالة مرضية فى شبابه، ويفضح رجل الدين الذى اعتدى عليه وعلى غيره. طبعا العديد من الأفلام العالمية تناولت حتى بجرأة أكبر تلك القضية الشائكة ولكن الفيلم يبدو فى جانب منه وكأنه يحرض من تم الاعتداء عليه فى طفولته أن يفضح هؤلاء، المعتدين، ومهما مرت السنوات فإن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، الفيلم لا يحمل فى إطاره التعبيرى إضافات جمالية بل هو أقرب لسرد الحكاية.

والفيلم الثالث الذى عرض رسميا من منغوليا (وندونج) جريمة قتل لامرأة عثر عليها فى أحد السهول. الفيلم للصينى وانج كوان، الحفاظ على الجو العام للحدث هو العنوان الأساسى لجمال هذا الفيلم، هنا الحكاية لا تعى شيئا ولكن روح المخرج المسيطرة والتى تمكن من ضبطها فى كل التفاصيل هى البطل الحقيقى، والموسيقى والمؤثرات تلعبان دورا رئيسيا مع الطبيعة الفقيرة والصدق الذى ينقل فيه ولادة البقرة، وكأنه فيلم لتوثيق الحقيقة، رغم أنه يقع فى إطار الفيلم الروائى.

وتبقى (نتفليكس) والمظاهرات الغاضبة على أبواب المهرجانات والتى لا أظنها ستتوقف بل سنجد قريبا تنويعات لها فى عالمنا العربى، علمتنا الأيام أن أى (ميديا) جديدة تقابل عادة بالتخوف وربما الرفض المطلق وبعدها يبدأ التعامل معها بمنطق مغاير، مثلما كان التليفزيون قبل أكثر من 70 عاما يبدو وكأنه سوف يطيح بالسينما فإن ما حدث هو أن السينما طورت من أدواتها وحفزها التليفزيون أكثر على الإجادة لجذب الجمهور، وأتصور أن هذا هو ما سوف يتكرر مع (نتفلكس) وأخواتها!!