مصطفى عمار يكتب: الانتهازيون

مقالات الرأي



لا يريد أحد أن يقتنع أن الحرية ليست فى إعلان المواقف وإلقاء الاتهام بالخيانة والعمالة على من نختلف معهم، لا يريد أحد أن يقتنع أن ما نتفق عليه أو نختلف معه يقبل الشك واليقين، يقبل أن تكون وجهة نظر من تختلف معه هى الصحيحة وأن تكون وجهة نظرك هى الخاطئة والعكس صحيح، لا توجد قضية أو رأى فى الكون منذ بداية الخليقة وأجمع عليه الأغلبية، أو حتى رفضوه، فكما قلت كل شىء قابل للنقاش والاقتناع به أو رفضه، دون تخوين أو تهديد أو أى نوع من أنواع الضغوط..

بالطبع لم أكون وجهة النظر هذه بين يوم وليلة، ولكن لن أخفى عليك أنها استغرقت منى سنوات طويلة منذ اندلاع ثورة يناير وحتى وقتنا هذا، كل هذا الوقت وكل هؤلاء الأصدقاء الذين فقدتهم لاختلاف التوجهات ووجهات النظر، بعضهم من رحل عن عالمنا ونحن على خلاف والبعض الآخر تحول إلى غرباء عنا، نقابلهم فى المناسبات ونكتفى بتمثيل دور الصديق فى السلام والعناق، ولكن وكل منا على يقين بأننا لن نعود أصدقاء كما كنا.

كل هذه الخسائر الإنسانية التى تعرضنا لها، جعلتنى أتيقن أننا مارسنا الديمقراطية بنفس مفهوم ممارستنا للدين، نأخذ ظاهره وما يجعل الناس تشير علينا بأننا مؤمنون ونترك جوهره الحقيقى، شغلنا نفسنا بالممارسات الدينية وبناء المساجد والكنائس وعلامات الصلاة والجلباب القصير وإطلاق الذقون، ونسينا أن جوهر الدين هو المعاملة والصدق والشرف والأمانة، بنفس المنطق تناسينا أن قلب الديمقراطية هى احترام الآخر، واحترام اختلافك معه سواء دينياً أو عقائدياً أو عرقياً أو حتى سياسياً، بدون هذا الاحترام، تصبح الديمقراطية باطلة وناقصة، تصبح قنبلة موقوتة مستعدة للانفجار فى أى وقت..

لا حديث يعلو حالياً على حديث التعديلات الدستورية، وبالطبع حملات التخوين والتشويه جاهزة ومفصلة ومعبأة لكل فريق على حدة، الفريق الذى يرى التعديلات الدستورية ضرورية ولا غنى عنها، لضمان الاستقرار للبلاد ومنح الرئيس فرصة للانتهاء من مشروعاته القومية والاقتصادية ومتابعة نتاج هذه الإصلاحات، فهذا الفريق يرى من يرفضون التعديلات الدستورية خونة وعملاء وإخوانًا ومنحطين ويجب حرقهم فى أقرب مقلب للقمامة، كيف يجرؤون ويقفون أمام طلبات بتعديل الدستور لمنح الرئيس فرصة أطول لحكم مصر وتنفيذ خطة الإصلاح والنهوض، قد يبتكرون لاحقاً طريقة للانتقام بتقديم بلاغات للنائب العام أن الشخص الفلانى كان رافضاً للتعديلات الدستورية، وللأسف نفس المنطق يحكم الفصيل الآخر الذى يدعى الثقافة والمعرفة عن الجميع، ويرى أن التعديلات الدستورية خيانة للوطن وللدستور، وأنها خطوة فى طريق تأليه الحاكم من جديد، وبالطبع إلصاق تهمة الأمنجية والعملاء والدولجية على كل من يطالب بالتعديلات الدستورية جاهزة وحاضرة، ونظرة الاشمئزاز والدونية جاهزة لكل من تسول له نفسه بكتابة حرف واحد أو نطق كلمة واحدة تعبر عن موافقته على التعديلات الدستورية، هل هذه الديمقراطية التى فقدنا بسببها أجمل سنوات عمرنا وأفضل شبابنا بين قتل وسحل واستشهاد وتفجيرات على مدار ثمانى سنوات، متى سنتعلم الدرس، متى سيكون اختلافنا متحضرًا ودون التشكيك فى وطنية أو انتماء؟ ولكن يبدو أن هذا حل بعيد ربما لن تراه عيوننا.

وربما لم يكن هذه الظاهرة المستمرة منذ سنوات الأكثر إزعاجاً بالنسبة لى، فظاهرة الانتهازيين هى من استوقفتنى خلال معركة التعديلات الدستورية، والانتهازيون هم أصحاب المصالح والمنفعة، والذين ارتفع صوتهم الآن للمعارضة والاختلاف مع الدولة فوز انتهاء مصلحتهم وزوالها لسبب أو لآخر، فبعد سنوات من الصمت والتجاهل لجميع الأحداث السياسية، منذ عام 2014 وحتى بداية هذا العام، تحولوا فجأة لمعارضين شرسين لا يرضون عن حكم السيسى ولا عن تصرفات الحكومة، ويعلنون فى كل مكان أنهم دفعوا ثمن اختلافهم مع النظام بإبعادهم عن مناصبهم ومراكزهم وعملهم، وهم يعلمون أنهم كذابون لأنهم حققوا ما يطمحون وأكثر خلال 8 سنوات وأكثر، ولكنهم كانوا يطمحون فى الأكثر، وبعد أن توقف قطار المصلحة، بسرعة بارعة قرروا أن يقفزوا فى قطار النضال والمعارضة.. ولكن خطتهم مفضوحة ومكشوفة للجميع، ولن يصدق أحد عواءهم!