سنوات النهب من البنوك والهروب بمليارات القروض.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (51)

العدد الأسبوعي

عادل حمودة
عادل حمودة


سألت رئيس الحكومة عاطف عبيد: لم ينفق رجال أعمال القروض فى شراء الفيللات والسيارات والصحف والفضائيات والأحزاب؟ فأجاب: يبدو أنهم يفكرون فى الهرب

المكاتب الاستشارية قيّمت الأراضى بأضعاف قيمتها لتصبح ضمانات القروض أقل من حقيقتها

مبارك أراد أن يظل رئيس ديوانه إلى جانبه بعد التقاعد فتم عمل قانون «زكريا عزمى»

ادعى عبد الله طايل مدير بنك مصر إكستريور أننا سكتنا عنه بمقابل دفعه فأقسمت على أن أدخله السجن!

ساعدنى ضابط فى مباحث الأموال العامة ولكنهم عاقبوه بنقله إلى الترحيلات!

تخرج كلمة فساد من بطن فعل فسد.. فسد الشىء أى تلف.. وفى اللغة العربية يعنى الفساد اللهو والعبث.. وفى معجم أوكسفورد: الفساد هو تدمير النزاهة بين مسئولى الوظائف العامة.. وبعد سنوات وساعات وعشرات الجلسات انتهت الأمم المتحدة إلى أن الفساد هو استغلال النفوذ لجلب مصلحة أو لمنع ضرر.

ويمتد التفسير من الثروة إلى السلطة حين تفرق فى تطبيق القانون بين أنصارها وخصومها وحين تتجاوز الدستور وتعتدى على الحريات الخاصة والعامة وحين تفصل التشريعات على هواها مستغلة سيطرتها على البرلمان.

لقد أراد مبارك أن يظل رئيس ديوانه إلى جانبه بعد سن التقاعد فخرج قانون من مجلس الشعب عرف بقانون زكريا عزمى وتكرر ذلك كثيرا فى حالات أخرى حسب قاعدة: الدفاتر دفاترنا والنواب نوابنا.

واستخدمت حكومة الدكتور كمال الجنزورى سلطتها على البنوك العامة فأفرطت فى منح القروض لرجال أعمال دون ضمانات كافية وعندما رفض محمود عبد العزيز رئيس مجلس إدارة البنك الأهلى الاستجابة أصبح عدوا للحكومة وفى النهاية عجز المقترضون على سداد المليارات المنهوبة ووجدت البنوك نفسها فى ورطة سجن بسببها بعض مديريها مثل أحمد أبو الفتح مدير بنك القاهرة لتنفيذه تعليمات شفهية بمنح تسهيلات ائتمانية بلا ظهر يؤيدها ومات الرجل فى زنزانته وحيدا مظلوما مقهورا.

ولكن على الجانب الآخر استغل بعض رجال البنوك الحصانة التى منحتها لهم عضوية مجلس الشعب فى غرف الأموال بلا حساب حتى فاحت الرائحة فقدمت الحكومة بعضهم للمحاكمة فى قضية شهيرة عرفت بقضية نواب القروض وسميت بهذا الاسم لوجود أربعة من النواب بين المتهمين هم توفيق عبده إسماعيل (كان وزيرا ورئيسا للجنة الخطة والموازنة) وخالد محمود ومحمود عزام وإبراهيم عجلان وكانوا رجال أعمال ووصل عدد المتهمين فى القضية إلى 32 متهما وبدأ نظر الدعوى فى 8 إبريل 1997 وبلغ عدد محاضر الجلسات 265 محضرا و15 مذكرة وضمت الملفات 461 حافظة مستندات أما عدد صفحات الملفات فزاد على 4 آلاف صفحة وتراوحت الأحكام بين السجن 15 سنة والبراءة ولكن ما لفت النظر أن المحكمة لم تطالب المتهمين برد ما اقترضوه من أموال بلغت 600 مليون جنيه.

وما أثار الدهشة أن نجوم القضية نجحوا فى الهروب من مصر قبل الحكم عليهم.. سافرت علية العيوطى إلى باريس بقرار من النائب العام رجاء العربى.. ولحق بها مصطفى البليدى الذى سافر إلى كاليفورنيا.. وسافر حسن أبو المكارم إلى جنيف.. وسبقهم حاتم الهوارى الذى هرب بقروض بنكية تصل إلى مليار و200 مليون جنيه وطارده النائب العام ماهر عبد الواحد عبر الإنتربول ولكنه نجا من القبض عليه.

والحقيقة أن هروب رجال الأعمال ليس ظاهرة جديدة فى مصر فقد فتحت لهم أبواب الخروج على مصاريعها.. هرب توفيق عبد الحى الذى اتهم بالتجارة فى المواد الغذائية الفاسدة وإطعام المصريين أكل القطط والكلاب.. وهرب بشرى توما إلى الولايات المتحدة بعد أن بنى أبراجا سكنية بأموال البنوك وباع الشقة الواحدة إلى أكثر من ساكن وباع الأبراج نفسها قبل تشطيبها قبل أن يلحق ببناته فى لوس أنجلوس.. وهرب أشرف السعد هو أيضا بقرار من النائب العام رجاء العربى.. ولا يزال مقيما فى لندن.

وحسب ما صرحت به مصادر قضائية فإن 20 رجل أعمال هربوا بما اقترضوا بينما وضع 1126 غيرهم على قوائم الممنوعين من السفر.. وحسب المصدر نفسه فإن ما يقرب من 36 مليار دولار خرجت من مصر منها 25 مليار دولار عمليات خفية.

أما جملة القروض التى منحتها البنوك فى تلك السنوات السوداء فتصل إلى 207 مليارات جنيه (طبقا لنشرة وزارة الاقتصاد فى يناير 2000) منها 20 مليار جنيه تعثر أصحابها فى سدادها واضطرت البنوك المقرضة إلى زيادة مخصصات دعم مركزها المالى إلى 27 مليار جنيه لمواجهة الديون المشكوك فى تحصيلها (حسب تقرير البنك المركزى عن الفترة من يوليو إلى سبتمبر 1999).

لم يكن لى فضل فى كشف قضية نواب القروض ولكنى نجحت فى إحالة أحد رؤساء البنوك إلى القضاء بعد حملة صحفية طويلة النفس على صفحات صوت الأمة فى شتاء عام 2001 لينال ما يستحق من عقاب مسجلا نجاحا لفت النظر إلى الصحافة المستقلة.

دخل عبد الله طايل مجلس الشعب فى عام 1995 وكان عضوا منتدبا لبنك مصر إكستريور قبل أن يتولى رئاسته وسلك طريقه إلى اللجنة الاقتصادية عضوا فيها قبل أن يصبح رئيسا عليها ليكون عجينة فى يد الحكومة بعد أن تخلصت من الدكتور مصطفى السعيد الذى كان وزيرا للاقتصاد ورمزا لامعا فى الحزب الوطنى.

سامح طايل وزير الاقتصاد الجديد يوسف بطرس غالى على تأخره فى حضور اجتماعات اللجنة الاقتصادية دون اعتذار وسمح له بمناقشة ما يشاء من تقارير وتجنب ما يشاء من تقارير أخرى مما ألغى الرقابة البرلمانية على التصرفات الحكومية.

كان أبرز ما نسب إلى طايل أنه أدخل ابنه فخرى شريكا فى إحدى شركات المشروعات العمرانية التى يرأسها مجدى يعقوب وهو واحد من أكبر المقترضين من البنك كما أدخل طايل ابنه شريكا فى شركة سامسونج إيجيب المدينة المقترضة من البنك بل وطالب طايل من رئيس هيئة الاستثمار الدكتور إبراهيم فوزى إعفاء الشركة الأخيرة من رسوم الرهن التى تصل إلى ثلاثة ملايين جنيه.

الملفت للنظر أن تلك الشركة التى رهنت لبنك مصر إكستريور بخمسين مليونا سبق رهنها للمصرف العربى بعشرة ملايين وسبق رهنها لبنك القاهرة بخمسة وسبعين مليونا لتصل الجملة إلى 135 مليونا مع أنها لا تساوى أكثر من عشرة ملايين.

بسبب العبث بأموال البنك خرج الشريك الإسبانى منه وكانت حصته تصل إلى ثلاثين فى المائة لينفرد طايل وحده بالقرارات التى وضعت البنك فى حرج مالى صعب تجاوزه.

أكثر من ذلك فرط طايل فى أموال البنك عندما تنازل عن قرض منحه لشركة الدواجن المصرية بعد أن شب حريق فى مزرعتها دون أن يهتم بالحصول على قيمة التأمين كاملة وفاء للقرض.

وما دام رئيس البنك بالدف ضاربا فلم لا يرقص مساعدوه.

إن رئيس فرع البنك فى مدينة نصر سيد عميرة وجد نفسه أمام النيابة للتحقيق فى بلاغ تقدم به رئيس البنك السابق نبيل إبراهيم يشير فيه إلى وجود تجاوزات فى منح 45 رجل أعمال قروضا دون ضمانات كافية ودون مراعاة للقواعد المصرفية المعروفة.

تبين من تحقيقات النيابة أن عميرة يقيم فى شقة على نيل المعادى فى عمارة يملكها أحد عملاء البنك هو عاطف سلام.. وقبل أن يترك عميرة البنك جاء نبيل إبراهيم بمدير جديد كان ضابطا فى الرقابة الإدارية هو عادل يوسف ما أن جرد مخازن مقترض آخر من البنك هو محمد الجارحى حتى اكتشف اختفاء بضاعة قيمتها 25 مليونا كانت ضمانا للقروض التى أخرجها البنك وكان أن أخذ الجارحى أول طائرة إلى بيروت واختفى هناك لينضم إلى الهاربين بمليارات مصر واخترت تلك الجملة عنوانا لكتاب رصدت فيه أشهر حالات الهروب التى سبق الإشارة إليها.

ولا شك أن طايل وجد حماية ممن جاءوا به إلى مجلس الشعب بعد أن ساهم فى حملاتهم الانتخابية بأموال البنك.

والغريب أن الفاسدين فى مصر يجدون فى صحف متنوعة من يساندهم بنشر إعلانات على صفحاتها.. بل أكثر من ذلك يجدون بين محرريها من يشهر بنا فى أخبار كاذبة مضللة مدفوعة الثمن.. أكثر من ذلك أسس بعضهم صحفا ترك رؤساء تحريرها يسبون ويقذفون فى حقنا وتولوا عنهم مصاريف المحامين ودفع الغرامات فى القضايا التى كسبناها ضدهم.

وقد وصلت الجرأة بطايل إلى حد الاعتراف علنا بأنه منح ابنه قرضا من البنك الذى يرأسه بل أكثر من ذلك اعترف بأن ما فعل مخالفا للقانون.

والحقيقة أننى عندما بدأت الحملة على طايل لم يكن لدى سوى القليل من المستندات التى تدينه.. نشرتها دفعة واحدة.. وتوقفت.. فلم يكن لدى ما أضيف.. لكنه.. استغل توقفى ليوحى بأنه نجح فى إسكاتنا.. ووجد من يؤكد أن سكوتنا كان مدفوع الثمن.. وشعرت بالظلم.. واشتعلت غضبا.. وأقسمت بينى وبين نفسى على أن أوصله إلى السجن.

جندت فريقا من المحررين للبحث عما يؤكد إدانته ورصدت ميزانية مفتوحة للتنقلات والمكافآت وشراء المستندات التى تثبت فساده فعندما يصل الأمر إلى السمعة فكل شىء يهون.

وفى الوقت نفسه لم أعد استقبل فى مكتبى رجل أعمال متهم إلا فى حضور المستشار القانونى للصحيفة أحمد شقير بجانب عدد من المحررين فالفساد الذى نحاربه فاجر.. لا يخجل.. ولا يتوارى.. إنما يهاجم بجرأة وضراوة مستخدما ما يتاح له من أسلحة قذرة.

إن الفاسد فى اليابان ينتحر.. والفاسد فى أوروبا يحاكم.. والفاسد فى الصين يعدم بلا محاكمة.. والفاسد فى بعض دول أمريكا اللاتينية يلقى به من طائرة.. أما الفاسد فى بلادنا فكثيرا ما يجد نفسه محصنا بالسلطة المتحالفة معه والمستفيدة منه.

وخلال البحث عن مستندات جديدة ضد طايل فوجئت بضابط فى مباحث الأموال العامة يتصل بى ويطلب مقابلتى والمؤكد أنه ساعدنى كثيرا بما يملك من ملفات.. ولكن.. الغريب أنه عوقب فيما بعد بنقله إلى إدارة الترحيلات.. مما يعنى أن طايل وجد من يتدخل لصالحه.. على أن ما نشر ضده كان كفيلا برفع الحصانة عنه ومحاكمته والنيل منه.

إن من السهل أن تتحدث حديثا عاما عن الفساد.. زكريا عزمى نفسه صرح بأن الفساد فى المحليات للركب.. ولكن الصعوبة فى نشر وقائع بعينها.. تتهم بها أشخاصا بذاتهم.. هنا ستجد نفسك تضرب فى الجزء الظاهر من جبل الجليد دون أن تعرف ما تحت سطح البحر من أسماك قرش مستفيدة من وجود الفاسدين.. لن ترضى أسماك القرش باصطياد الأسماك الصغيرة التى يعيشون عليها.. سيتدخلون لحمايتها.. وسيهاجمون من يقترب منها.. لتنقلب الآية.. الفاسدون يعيشون فى نعيم.. والصحفيون يطاردون ويعاقبون.

مخطئ من يتصور أن الفساد شخص.. أو حالة منفردة.. الفساد مؤسسة تضم مسئولين فى جهات مختلفة تحمى رجالها وتقتسم معهم الغنيمة.

أذكر أن مستشارا فى جهة قضائية طلب منى أن أقابل محاميا صديقا له يتولى قضية لواحد من المتهمين بنهب قروض البنوك قائلا: لو قابلت المحامى سيحصل من موكله على عشرين ألف جنيه ولو قابلت المتهم نفسه فسيحصل المحامى على خمسين ألف جنيه ووجدت أن مقابلة المحامى أفضل.

المحامى كان مأمور قسم فى القاهرة.. استغل علاقته وهو فى الشرطة ليتولى قضايا الفساد بعد أن ترك الخدمة وأصبح محاميا.. ولاحظت أنه غير متمكن من القانون الذى غاب عن ممارسته سنوات طوال.. وكل مواهبه السهر مع شخصيات لها نفوذ.

فوجئت به يقدم لى مستندات ضد موكله تصور أنها تفيده وطلب نشرها.. ومن باب الأمانة نبهته إلى خطورة المستندات على موكله.. ولكنه أصر على نشرها.. وما أن نشرتها حتى قبض على موكله ووجد نفسه فى السجن.. لقد ترجم المحامى بجهله النكتة الشائعة التى طالب فيها الدفاع المحكمة بتوقيع أقصى العقوبة على موكله.

ولم يستفد المحامون من قضايا الفساد وحدهم وإنما استفاد منها قبلهم أصحاب مكاتب استشارية لجأت إليهم البنوك لتقييم الأراضى التى يقدمها رجال الأعمال ضمانا للقروض التى يحصلون عليها بأضعاف أضعاف قيمة الأراضى.

تبدأ لعبة النهب بشراء قطع أراض فى أماكن متفرقة.. يضع رجال الأعمال كل منها أمام بنك من البنوك ليقترض بضمانها سبعين أو ثمانين فى المائة من قيمتها حسب العرف السائد فى عمليات الائتمان.. يضع البنك قطعة الأرض أمام أحد المكاتب الاستشارية الفاسدة الذى يقيم الأرض بضعف قيمتها ليصبح القرض الممنوح أكبر من قيمة الأرض الحقيقية.. ومع تكرار العملية تكون جملة القروض متجاوزة الضمانات المطلوبة بأكثر مما يحلم به رجال الأعمال الذين لا يهمهم استرداد الأراضى بعد الثروة الطائلة التى حصلوا عليها وإن دفعوا بعضا منها لمسئولى البنوك وأصحاب المكاتب الاستشارية.

ويفسر ذلك المشهد الذى سيطر على كثير من الأراضى الفضاء على طول وعرض خريطة البلاد حيث انتشرت لافتات تؤكد أن هذه الأرض ملكا لبنك القاهرة أو غيره من البنوك.

وربما لهذا السبب اعترف لى الدكتور عاطف عبيد وهو رئيس الحكومة بأن القطاع الخاص هش وضعيف.

جرى الحديث بينى وبينه فى الجو على ارتفاع 30 ألف قدم.. كنت فى طريقى إلى جاكارتا عاصمة إندونيسيا لتغطية اجتماعات قمة مجموعة الـ 15.. على متن الطائرة وجدت الرجل إلى جوارى متجها للهدف نفسه حيث سيرأس وفد مصر فى هذه الاجتماعات.

كان عبيد قد نام فى مقعده فور إقلاع الطائرة وبعد ساعة استيقظ ليدعونى إلى فنجان شاى وسألته: لم ينفق رجال الأعمال المقترضون أموالهم فى شراء الصحف والفضائيات ونجوم الكرة؟ فأجاب: أنا لا أعرف لم ينفق هؤلاء الناس ما اقترضوه من أموال بكل هذا السفه؟ يبدو أنهم مطمئنون إلى عدم سدادها أو أنهم سيهربون إذا ما ضاق الخناق عليهم.

وهبطت الطائرة فى دبى فتوقف الحوار.. وركب كل منا طائرة مختلفة إلى جاكارتا.. وفى بيت السفير عزت سعد تناولت العشاء معه على شرفه لنتفق على مواصلة الحوار فى الفندق الذى يقيم فيه على مائدة الإفطار وشهد عليه الدكتور صفوت النحاس أمين عام مجلس الوزراء وهو واحد من أكفأ القيادات الإدارية فى مصر وتولى فيما بعد رئاسة الجهاز المركزى للتنظيم والإدارة.

اعترف عبيد بأن ما لا يقل عن 12 مليار جنيه خرجت من البنوك ولم تعد.. وأن ذلك أثر على الاحتياطى النقدى فهبط إلى 14 مليار دولار.

وجاء السؤال المحرج: لم تمددون لطايل فى رئاسة البنك رغم كل ما نشر عن فساده؟.. وجاءت الإجابة محزنة: أن فى رأسه كل المعلومات عن البنك ولو أخرجناه منه فسوف يرتبك البنك.

ساعتها أدركت أن رئيس الحكومة رجل لا يملك قراره وإنما ينفذ قرارات غيره ولم أجد مفرا من القتال بمفردى حتى أوصلت طايل إلى السجن كما تعهدت بينى وبين نفسى ردا على ما ادعاه فى حقى.