حكايات المشردين مع "البرد" على أرصفة القاهرة

العدد الأسبوعي

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية


ثابت طرده أشقاؤه بعد وفاة زوجته.. وعجوز الأزبكية ألقاها زوجها بالشارع.. ومرتضى هارب من الثأر


أصبح وصف الطقس فى مصر بـ«دافئ ممطر شتاء.. حار جاف صيفاً» أشبه بنكتة، خصوصاً أن الواقع يثبت بوضوح أن شتاء مصر يشبه الحياة داخل «فريزر» ثلاجة، وأن صيفها نوع من الإقامة فى الأفران.

شتاء 2019 كان قاسياً على المقيمين فى البيوت، لدرجة استعانتهم بأعداد إضافية من البطاطين، وهو ما يعنى أن هؤلاء المشردين الذين يعيشون فى الشوارع معرضون للموت، وهى أزمة ضخمة خصوصاً أن عددهم يصل لمئات الآلاف فى المدن الكبرى، وقد يكسر حاجز المليون.


أطلقت وزارة التضامن الاجتماعى حملة «إحنا معاك» لمساعدة ورعاية كبار السن والأطفال الذين يعيشون بلا مأوى مع اشتداد موجة البرد خلال الأيام القليلة الماضية حيث تجوب الحملة شوارع مصر بسيارات متنقلة لإيداع المشردين دور رعاية، كما أعلنت الوزارة عن أرقام ساخنة لتلقى البلاغات عن المشردين، وتعد هذه الحملة من أفضل ما تبنته الوزارة بالسنوات الأخيرة، ولاقت استحسان جموع المواطنين.

«الفجر» تجولت بالشوارع لمعرفة كيف وصل المشردون إلى أن تصبح الشوارع مكانا دائما للإقامة وليس وسيلة للعبور بين المناطق وبين العمل والمنزل، واكتشفنا أن وراء كل رجل أو شاب أو امرأة مأساة..

فى القاهرة كان التعامل مع المشردين بمناطق وشوارع العاصمة، صعب للغاية لأن منهم من فقد عقله بسبب إقامته فى الشارع ليلاً وتعرضه للأذى من البعض نهاراً، ما جعلهم يخشون التعامل مع من يقترب منهم أو حتى يتحدث معهم وقد يواجهونه بالاعتداء.

وفى منطقة رمسيس، أمام مقر شركة الصرف الصحى بالقاهرة وبجوار مستشفى السكة الحديد، تفترش الأرض امرأة يتخطى عمرها الـ70 عاماً، ترتدى جلباباً وطرحة لونهما أسود، يبدو على ملامحها الحزن الشديد، فى البداية رفضت التحدث لنا وبعد محاولات وافقت ولكنها اشترطت ألا نسألها عن اسمها وقالت إنها كانت متزوجة من رجل وأنجبت منه بنتا، ثم توفى وبعدها تزوجت بآخر وأنجبت منه ولدا، ولكن الأخير ومنذ 35 عاماً خطف ابنها عندما كان عمره 4 أعوام سافر به إلى الفيوم وتزوج بامرأة أخرى وعاد ليطردها من المنزل، فلم تجد سوى الشارع تحتمى به خاصة بعد أن سرق أخوها عقد منزل أبيهما بمنطقة شبرا الخيمة وحرمها هى وشقيقاتها من ميراثهن، قبل أن يطردهن من المبنى.

سألنا محمد صاحب الكشك الذى تجلس بجانبه العجوز، فقال إنها تفترش هذا المكان منذ أكثر من 10 سنوات وفى الفترة الأخيرة ذهب عقلها تماماً، مشيراً إلى أنها كانت تعيش قبل هذه الفترة فى الحديقة التابعة لحى الأزبكية الموجودة أمام مستشفى السكة الحديد ولكن عمال الحى طردوها، كما أن البعض يعاملها معاملة سيئة جداً ولم يرحموا ضعفها وعمرها المتقدم. أضاف محمد إن هناك سيدة أخرى تجلس مع العجوز من وقت لآخر، يظن البعض أنها ابنة السيدة المشردة خصوصاً أنها دائمة التشاجر مع الأخيرة، وتستولى منها على النقود التى يتبرع بها بعض المارة كمساعدة إنسانية للعجوز. أوضح محمد أن الأيام الماضية التى تعرضت فيها مصر لموجة باردة، كان أهل الخير يعطون العجوز أغطية لتدفئتها ولكن أحد المشردين سرق «البطانية» مطالباً المسئولين بانتشال هذه السيدة المسكينة من الشارع وإنقاذها من البرد ووضعها فى أى دار رعاية.

وفى منطقة رمسيس وجدنا أيضاً رجلاً يبدو فى الـ50 من العمر اسمه ثابت شعره أبيض اللون وطويل ولحيته يملأها الشيب يرتدى بنطلون جينز مهلهلا، وجاكت رصاصى اللون تحول إلى اللون الأسود، يعيش فى الشارع منذ 7 سنوات حيث كان متزوجاً وتوفيت زوجته التى عاش معها أجمل قصة حب، وبعدها شعر أنه تائه بدونها ولم يعد يعرف للحياة طعماً منذ وفاتها ولم يشعر به أحد، واستغل أخوته حالته النفسية الصعبة وطردوه من المنزل واستولوا على شقته خاصة أنه لم ينجب أطفالاً.

أوضح ثابت أن الشارع كان أحن عليه من أخوته، الذين رفضوا محاولاته المتعددة للعودة إلى شقته، وبعدها أصبحوا يشعرون بالعار من هيئته الجديدة رغم أنهم السبب فيما وصل إليه، متمنياً أن ينتشله أحد من الشارع ويضعه فى دور رعاية حتى يستعيد شعوره بأنه إنسان له منزل يحتمى به ويستره فى برد الشتاء.

وفى منطقة وسط البلد أمام دار القضاء العالى يفترش الأرض شاب يدعى سيد أحمد، أسمر اللون يبلغ من العمر 23 عاماً من إحدى قرى مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، ترك منزل عائلته منذ 3 سنوات، وهرب مع أحد أصدقائه من القرية، دون سبب، إذ كان يعمل «مبلط سيراميك»، وتدخين السجائر كان يغضب أسرته، ولكنه هرب مع أحد أصدقائه وعندما أتى إلى القاهرة عمل فى أحد المحال ولكن بطاقته الشخصية ضاعت فتم طرده.

منذ وصل سيد إلى القاهرة كان يعيش بالشارع وأصبحت حياته صعبة للغاية لأن بعض الأطفال يستفزونه ويحاولون ضربه كما يتعرض لبعض المضايقات من المارة، لدرجة أنه أصبح يخشى التعامل مع الناس خوفاً من أن يؤذوه.

يستيقظ سيد فى الصباح ويتجول فى الشوارع للبحث عن زجاجات المياه الغازية الفارغة «الكانز» ليجمعها ويبيعها حتى يستطيع توفير أموال قليلة للعيش بها بالإضافة إلى بعض المساعدات من أهل الخير، مؤكداً أنه عانى كثيراً أثناء الموجة الباردة التى مرت بها البلاد الأيام الماضية، ولذا يتمنى أن ينتشله أحد من الشارع ليعيش فى إحدى دور الرعاية.

أما سعاد فلم تتزوج ولكن تخلى عنها أشقاؤها بعد وفاة والديها وطردها من منزل الأسرة فلم تجد سوى الشارع، وجاءت من محافظة الغربية إلى القاهرة لتحتمى بزحامها وللبحث عن فرصة لأى عمل تستطيع الإنفاق على نفسها من عائده ولكن الأمر كان صعباً خاصة بالنسبة لفتاة ريفية مثلها لا تعرف أحدا بشوارع العاصمة الواسعة فلجأت لبيع المناديل وهى المهنة التى يتعامل معها الناس على أنها مجرد ستار للتسول، وما تستطيع الحصول عليه يومياً لا يكفى كى تستأجر غرفة فاضطرت للنوم بالشارع مع عدد من البائعات اللاتى لا مأوى لهن مثلها ودفعتهن الظروف للجوء للأرصفة.

أما محمد فهو رجل يبدو من هيئته أنه تجاوز الـ60 عاماً على أقل تقدير، فأصبح أحد سكان الشارع بعد تركه أولاده وتخلى عنه أقاربه ولم يجد من ينفق عليه أما المسئولون عن دور المسنين فعاملوه بطريقة سيئة، ولكن الشارع كان أفضل لأنه لم يجد من يطرده منه، ولذا استمرت حياته على الأرصفة قرابة 3 سنوات، وحال مرضه دون إيجاد عمل فلجأ للتسول والجلوس بلا مأوى يستعطف الناس ليحصل على قوت يومه.

وقرب محطة مترو كوبرى القبة، يجلس مرتضى، 73 عاماً، وجاء إلى القاهرة من قرابة 40 سنة، هرباً من ثأر فى قريته التى لا يتذكر اسمه، وتنقل بين عدة مناطق بالقاهرة حتى استقر بجوار محطة المترو حيث يعطف عليه سكان المنطقة ويمنحونه طعاما ونقوداً بالنهار وليلاً ينام أسفل الكوبرى الموجود قرب المحطة، وعندما هاجم البرد القاهرة أعطاه أحد الأهالى لحافاً وبطانية كى تجلب له الدفء.