طارق الشناوي يكتب: سيناريو إبراهيم عيسى سر الألق والتعثر!

الفجر الفني

ابراهيم عيسى
ابراهيم عيسى


وأنا فى طريقى لمغادرة دار العرض قرأت على جدران الشارع المواجه تلك الكلمات المطبوعة بالأسود (شروط الحجاب ألا يكون ملفتًا)، تعجبت لثلاثة أسباب: أولاً يعنى إيه ملفتًا، هم لا يتحدثون عن بنطلون قد يضيق فى مناطق ما أكثر مما ينبغى، أو فستان قد يرتفع عن الركبة بضعة سنتيمترات زائدة عن المتوسط المتعارف عليه أكثر مما ينبغى، فهل الحجاب الأبيض مثلًا غير ملفت والأحمر ليس كذلك؟ دعونا من أولًا، ننتقل إلى ثانياً، هذه أول مرة ألحظ فيها تلك الكلمات التى يبدو أنها مكتوبة قبل سنوات بعيدة، رغم أن هذا هو طريقى الدائم للسينما، مئات المرات رايح جاى، 20 عاما ولا أكتشف هذا التحذير. ثالثا انتهيت من مشاهدة فيلم «الضيف» ولا تزال تسكننى الشحنة الفكرية التى ملأنى بها الشريط السينمائى، الغريب أن تلك الكلمات تبدو كأنها جزء مكمل للفيلم، لا شعوريا لدى الإنسان حالة انتقائية، عندما تتجول فى الشارع تقتحم أذنك عشرات الأصوات، بينما لو كنت مثلى مغرماً بالغناء، ربما لا تلحظ سوى أغنية ليلى مراد يبثها راديو بائع الطرشى، بينما هو يصرخ بأعلى صوته متغزلا فى الفلفل والبنجر واللفت، وأنت تردد (من بعيد يا حبيبى بسلم).

الشحنة التى ملأتنى دفعتنى لكى أدقق فى هذا التحذير المكتوب عدة مرات على الجدران، بالإضافة إلى أن تحديد إقامة الأبطال الأربعة، والمشاهدين بالتالى، فى فيلا البطل يحيى التيجانى، وجهنا لا شعوريا للتطلع للخروج، بعيدا عن تلك المساحة الضيقة ما بين غرفة صالون ومائدة طعام وصالون ومكتبة وحمام. شاهدت الفيلم مع الجمهور الذى كان يومها محدودا بفعل البرد والعواصف الترابية، لا أستطيع أن أحمّل الطقس مسؤولية الإخفاق الجماهيرى، الشريط السينمائى لعب هذه المرة دور البطولة فى تلك الهزيمة الرقمية، والتى تعنى أن الرسالة لم تصل لمستحقيها.

كُثر يعتبرون الفيلم امتدادًا لبرنامج (توك شو)، من تلك التى تحمل أفكار الكاتب الكبير إبراهيم عيسى بحضوره المميز على الشاشة، وفى هذه الحالة يُصبح المخرج هادى الباجورى هو المسؤول الأول.

هادى فى فيلمه الروائى الرابع، وهو واحد من المخرجين الذين يتميزون بالعصرية فى التعبير على الشاشة، بإيقاع شبابى يقرأ جيداً (شفرة) جمهوره، قبل عامين عرض أهم أفلامه الذى يحمل رقم 3 (هيبتا)، بناؤه الفنى أقرب إلى روح (المونولوج) المنفرد بالحوار الطويل، إلا أنه يتقاطع فى خطوط متعددة، تنتقل بتوازٍ فى حديثه عن مراحل الحب السبع، مستندا إلى رواية محمد صادق المكتوبة بروح سينمائية؛ هذه المرة فى (الضيف) لدينا قضية واحدة وشائكة أقرب إلى بناء (الديالوج) الثنائى، بين القطبين المتنافرين خالد الصاوى وأحمد مالك، وتتدخل فى مساحات مقننة كل من شيرين رضا الزوجة وجميلة عوض الابنة.

هادى أخلص تمامًا لفكرة الفيلم، حتى إنه ألغى الموسيقى التصويرية لتظل ظلال الحوار هى التى تخلق موسيقاها الخارجية، ولكنه لم يقدم المعادل السينمائى الذى يكسر رتابة الطرح الساكن.

بالتأكيد لا أعنى أن نرى معالجة (أكشن)، وهو ما كان ممكنا أن يُقدمه ببساطة لو أعيد مونتاج الشريط، ليبدأ مثلًا بالنقطة الساخنة، خالد الصاوى يُصوّب فوهة مسدس إلى رأسه، وعندما يتسع الكادر وتتراجع الكاميرا نرى على الجانبين أحمد مالك يغرز السكين فى رقبة جميلة عوض، بينما شيرين رضا مقيدة اليدين وعاجزة عن الحركة، من السهولة قطعًا تحقيق ذلك، ثم نبدأ بسرد الأحداث عن طريق (الفلاش باك) العودة للماضى، وقد يدخل طرف فاعل لزيادة جرعة التشويق، مثلا رجال الشرطة المكلفين بحراسة المنزل، وبدلًا من أن نرى محمد ممدوح الذى أدى دور الضابط فى لقطة واحدة، يجعله المخرج يشعر بشىء من الريبة، فيعاود طرق الباب أكثر من مرة، وهو ما ينطبق أيضًا على ماجد الكدوانى خال جميلة عوض، إلا أنه سيخون فى هذه الحالة قضيته، من السهل مثلًا أن يلعب دور الخطيب مصطفى خاطر، فيضفى لمحات كوميدية تُصبح هى حديث الناس ويتلاشى تماما البُعد الفكرى.

المعالجة جزء حميم من بناء الفيلم لأنه يخاطب العقل أولاً، والقضية لا تحتمل أن تزيد جرعة التشويق أو مساحات الكوميديا، فهو مبارزة عقلية، ولا تنسى أن السيناريو يرقص على حد السيف، فهو ليس ضد ارتداء الحجاب، فقط يؤكد فقهيا أنه ليس فريضة والفارق شاسع بقدر ما هو شائك.

لو قلت إن نحو 70% من نساء مصر محجبات هل تعتبر تلك النسبة مبالغًا فيها؟ ليس لدينا أرقام موثقة، ولكن ما ترصده عينى فى الدائرة التى أعيش فيها تُشير إلى أن النسبة من الممكن أن تتجاوز ذلك، هناك عدة أسباب، ليست كلها دينية، منها اقتصادية متعلقة بأن تكلفة خلع الحجاب أغلى من ارتدائه، المرأة غير المحجبة ستضطر إلى الذهاب للكوافير وما يعنيه هذا من عبء مالى، كما أن العدوى تلعب دور البطولة فى المسارعة بارتداء الحجاب، الناس عادة فى سلوكها لا تخالف السائد فى الشارع إلا فيما ندر، المجتمع يفرض على الجميع عدم الخروج عن الصف، وكلها كما ترى أمورا تتجاوز الإطار الفقهى.

المخرج حصر أبطاله داخل جدران الفيلا التى يقطن فيها (يحيى التيجانى)، المفكر المطلوب من المتطرفين، وفى نفس الوقت تناصبه الدولة الرسمية العداء، ولأن الصحفى داخل إبراهيم عيسى دائما فى حالة يقظة، فهو يفترض أن ليس بالضرورة كل ما هو متداول معروفا، ولهذا يضطر أن يشرح للجمهور بين الحين والآخر العديد من الكلمات، مثل (العنعنة) وغيرها، ومثل تلك الأمور ممكن التعامل معها ببساطة فى مقال، ولكن فى الفيلم تُثقل كثيرًا من تدفق الإيقاع.

هل تتذكرون الفيلم الأمريكى (خمن من سيأتى للعشاء) الذى تم إنتاجه قبل خمسين عاما؟، عريس يطرق باب الفيلا لعائلة ثرية بيضاء، الفيلم يناقش قضية العنصرية، بطولة سيدنى بواتييه، إخراج ستانلى كريمر، الذى يعد واحدًا من أفضل 100 فيلم فى تاريخ أمريكا.

فيلمنا المصرى لم يتمتع ببناء سيناريو جيد، فقط أخذ من الفيلم الأمريكى سخونة القضية، والتقط خيط (الضيف) الذى يطرق الباب فيحرك ما هو ساخن، حيث كان وقتها فى أمريكا الزواج المختلط بين البيض والسود لا يزال ممنوعا من الناحية القانونية فى عدد من الولايات الأمريكية، كما أنه ظل غير مقبول، حتى بعد إباحته تشريعيا.

هناك ولا شك قدر ملموس من الطغيان لإبراهيم عيسى، وفى جزء منه هو غير مسؤول، إبراهيم مثل عدد استثنائى من الشخصيات فى مختلف المجالات يمتلك حضورا جاذبا يجعل من يقترب لو لم تكن لديه قوته الداخليه فهو فى هذه الحالة يدور فى فلكه، وهكذا تلك المغناطيسية تسيطر على الأعمال التى يشارك فيها، حتى الجماعى منها، الفيلمان المنسوبان له (مولانا) وبعده (الضيف) بهما ولا شك أنفاسه مسيطرة على كل المفردات، مع الفارق أن عمرو سعد فى (مولانا) أفلت بنسبة لا بأس بها من تأثير إبراهيم عيسى، إلا أنه أيضا لم يبتعد تماما، بينما خالد الصاوى لم يكتف فقط بالتأثير اللاشعورى الكامن داخل الشخصية، ولكنه ذهب إليه شعوريا أيضا ومع سبق الإصرار، لم يكن ينقصه سوى أن يستعير منه حمالات البنطلون.

الفيلم يتحسس الموقف، لحساسية القضية فى تفاعلها الدينى والاجتماعى والاقتصادى والنفسى، دخل المعركة فاقدا الأغلبية التى تنحاز وتدافع عن الحجاب، مهما تعددت الأسباب فإن هناك رغبة داخل البشر فى الإبقاء على ما تعودوا عليه.

مأزق الفيلم ليس فى أن ارتكانه إلى الحوار، مقولة (السينما صورة أولا)، غير مطلقة ولا هى ملزمة فى كل الأنماط السينمائية، حتى لو تبناها أساطين مبدعى الفن السابع فى العالم، كما أن محدودية الزمان والمكان، ليست عائقا أمام تحقيق المتعة، كم شاهدنا من أفلام فى مساحات مكانية وزمنية أقل، راجعوا (اثنا عشر رجلا غاضبا) لسيدنى لوميت الفيلم البريطانى الحائز على الأوسكار فى نهاية الأربعينيات، تذكروا مثلا لصلاح أبوسيف (بين السماء والأرض) 1960، والذى قال لى صلاح أبوسيف عنه، إنه ارتدى (الكرافت)، حيث كانت هناك طقوس يجب مراعاتها، وذهب لمشاهدة الفيلم مع الجمهور، واختار أن يجلس فى الصف الأخير من الصالة ليتابع بدقة ردود فعل الناس، فوجد مشاهدا بعد نهاية الشريط، وقد تعرف عليه وانطلق مسرعا من أول الصف إليه، توقع أبوسيف أنه سوف يأخذه مثلا بالأحضان، إلا أنه اكتشف وقد أمسك بالكرافت وأراد خنقة، لأنه اعتبر أن أبوسيف بهذا الفيلم هو الذى بدأ بخنقه.

البناء الدرامى فى (الضيف) يعوزه المنطق، شاب ناجح مكلف بقتل الأستاذ، إلا أنه يجرى فى البداية حوارا طويلا وكأنه موجه لنا كمشاهدين، المفروض لسنا طرفا مباشرا فيه، كل الأفلام تحكى للجمهور، ولكنها تتعمد أن توحى بأنها حكايات بين أبطال الفيلم، البرنامج التليفزيونى فقط هو الذى يفعلها؛ كان ينبغى حتى نصل إلى تلك الحالة أن نستند إلى بناء مختلف، مثلا أحمد مالك متردد فى القتل ويريد أن يمنح خالد الصاوى فرصة لكى يتراجع عن أفكاره، حتى لا يزهق روحه، إلا أن إصراره يجعل اغتياله حتميا.

يقولون إن من يقتنع بأفكار إبراهيم سيحب الفيلم والعكس صحيح، لا أتصور ذلك، فأنا أحب إبراهيم الإنسان، ولدى قناعة تامة بأن الحجاب أبدا ليس فريضة، ورغم ذلك، وجدت الفيلم لا يمتلك على الشاشة مصداقية.

الشاب الخطيب أحمد مالك لديه هدف واحد هو اغتيال المفكر، فلماذا يناقشه ويُدخل نفسه ويبدد طاقته فى حوار حول صحة مثلًا أحاديث البخارى. الدراما لعبت دورا سالبا فى التعايش مع الفيلم، فلا يمكن أن شخصية مثل الدكتور يحيى لا يعلم عنها الجميع خاصة من المخالفين له أنه متزوج مسيحية، وهى معلومة تلعب دورا محوريا ولا شك فى تحليل أفكاره، بينما نكتشف أن الشاب يفاجأ، وتعتب الأم على ابنتها لأنها أخفت تلك الحقيقة عن عريسها القادم.

المخرج أجاد تسكين ممثليه خالد الصاوى وشيرين ومالك وجميلة، وكل منهم وصل لذروة، حضور مميز لضيفى الفيلم ماجد الكدوانى ومحمد ممدوح، ولكن لم يستطع الباجورى أن يمنح الشريط بالتقطيع بين اللقطات تلك الومضة السينمائية الساحرة.

(الضيف) دخل تاريخنا، لأنه لأول مرة يناقش شرعية الحجاب، سيظل وثيقة فكرية، لولا أنها لم ترتد ثوبًا سينمائيًا!.