الحرب الأهلية تحت جلد نظام مبارك بين الحرس القديم وتيار الإصلاح الجديد.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (49)

العدد الأسبوعي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة


مجموعة جمال مبارك أجهزت على كمال الشاذلى وإبراهيم سليمان وحجّمت قوة صفوت الشريف

حوار عابر بينى وبين مبارك حول مادة الشريعة فى الدستور بحضور نواب من الإخوان دخلوا رئاسة الجمهورية لأول مرة منذ ثورة يوليو

فى بلاط صاحبة الجلالة أكثر من يهوذا الذى باع المسيح لليهود بل أشد منه فقد ندم على ما فعل برد المال وقتل نفسه بنفسه


لكى تدخل إلى العقل السياسى لتستوعب كثيرا مما جرى فى سنوات حكم مبارك يجب أن تلغى عقلك وتكون سرياليا.. السريالية هى الطريقة الوحيدة لفهمه والوصول إلى أعماقه.

والسريالية ظهرت فى فرنسا.. فرضت على الفن والأدب نوعا من التعبير يصعب توقع ما يصوره مبدعوه فهو بعيدا عن تضاريس الواقع.. ويختلط فيه الحلم بالوهم.. والظاهر بالباطن.. لنصل فى النهاية إلى ما يشبه الحمى.

هناك إجماع على أن مبارك ظل حتى عام 2005 يحكم مصر بأسلوب تقليدى محافظ يتجنب التحولات الحادة والتغيرات الصادمة ولكن ما أن أصيب بفيروس التوريث حتى تحولت الست سنوات التى بقيت من حكمه إلى لوحة سريالية.

لوحة تتقاطع فيها الخطوط والظلال والألوان بالمصادفة.. وتفترق بالمصادفة.. وتتصادم فيها الأحداث والأزمات والمؤامرات والصراعات والطموحات فلم نعرف فى تلك السنوات لماذا احتضن رجال أعمال مجهولين وبعض رجال أعمال مساندين؟.. لماذا تنكر لرؤساء تحرير خدموه بإخلاص ليأتى بغيرهم من مكاتب مجهولة فى المؤسسات الصحفية؟.. لماذا خلط البيزنس بالسياسة وعين رجال أعمال وزراء.. والأهم والأخطر لماذا أفقد النظام تجانسه وفرض عليه الانقسام والتناحر بين ما عرف بالحرس القديم الذى حافظ عليه مبارك وبين ما سمى بتيار الإصلاح الذى قاده ابنه جمال؟.

انفضت وحدة النظام.. وتراجع تجانسه.. وراح الصدأ يأكله.. وأصبح للسفينة ريسان.. أحدهما تقليدى يسعى جاهدا للحفاظ على سلامتها وسط عواصف وأنواء مدمرة ولو بقيت السفينة على البر.. والآخر سريالى مغامر دفع بها إلى عرض البحر دون أن يستوعب طبيعة الأمواج.. متى تهدأ؟.. ومتى تغضب؟.. ومتى تنام فى فراش الجنيات؟.. وكان أن دفع بالسفينة إلى مصير مجهول انتهى بتحطمها فى النهاية.

وراحت كرات الدم البيضاء تلتهم كرات الدم الحمراء مهددة بأنيميا قاتلة.. وبدأ تيار الإصلاح فى التخلص من رموز الحرس القديم لينفرد وحده بالساحة.

ما أن سافر مبارك لإجراء جراحة فى ألمانيا حتى أقيل صفوت الشريف من منصب وزير الإعلام تمهيدا لنزع أظافره.. ولكن مبارك تدخل لإنقاذه فى البقاء عليه فاختاره رئيسا لمجلس الشورى.. ولكنه لم يتمتع بكافة صلاحيات المنصب الجديد.. فاختيار رؤساء تحرير الصحف الجدد جرى من وراء ظهره رغم رئاسته للمجلس الأعلى للصحافة بحكم منصبه الأخير.. وتولى زكريا عزمى إبلاغ المختارين بنفسه فى سابقة لم تحدث من قبل.

تولى وزارة الإعلام الدكتور ممدوح البلتاجى وهو من أنجح من تولوا حقيبة السياحة ولكنه لم يعمر طويلا فى ماسبيرو وأثاروا كثيرا العواصف ضده فضاعفت من شدة المرض الذى أصابه فى المخ فترك الجمل بما حمل وانزوى فى بيته تاركا وزارة الإعلام لشاب ارتبط بالتيار الجديد هو أنس الفقى وللإنصاف فإنه حاول جاهدا زيادة جرعة الحرية فى قنوات التليفزيون ومحطات الراديو.

وفى وزارة الدكتور أحمد نظيف أقيل كمال الشاذلى من منصب وزير شئون مجلسى الشعب والشورى.. ولكن.. الأهم أنه فقد أمانة تنظيم الحزب الوطنى ولم يعد زعيما للأغلبية.. ولم يجد مبارك ما يعوضه به سوى تعيينه رئيسا للمجالس القومية المتخصصة.. وكان توليه هذا المنصب اعترافا من النظام بكراهية الأبحاث والدراسات المفروض أن تساعده فى اتخاذ القرارات.. فالرجل كان بعيدا عما كلف به.. وكان ملفتا للنظر رئاسته لخلاصة العقول المصرية فى كافة المجالات.. وربما كان المبرر الوحيد لوجوده هناك هو الحفاظ على ماء وجهه والاحتفاظ بوجاهة الوظيفة ومميزاتها.. السيارة والسكرتارية والسفريات المريحة والتواجد فى المناسبات العامة.. وكانت هذه عادة مبارك.. تعيين رجاله المخلصين فى أماكن مريحة.. مكافأة نهاية الخدمة.

ولكن كمال الشاذلى لم يتمتع طويلا بتلك المكافأة فقد أصيب بمرض صعب وسافر للعلاج فى الخارج.. وبعد شهور استجابت عائلته لنصيحة الأطباء وأعادوه إلى مصر كى يقضى أيامه الأخيرة فيها.

وظهر تحت قبة البرلمان نجم جديد تولى قيادة الأغلبية هو أحمد عز الذى ورث كمال الشاذلى فى الحزب.. أمينا للتنظيم والعضوية.. والأهم أنه كان بمثابة القوى الدافعة والمحركة فى الانقلاب الذى قاده جمال مبارك فى الحزب.

وتجاوزت المقارنة بين الشاذلى وعز حدود الصفات الجسدية إلى أسلوب السيطرة على النواب.. اعتمد الشاذلى على ما يعرف عن النواب من نقائص لتوجيههم إلى حيث يشاء.. كما استغل رغبتهم فى إعادة الترشح من جديد ليزيد من تحكمه فيهم.. بينما استفاد عز من أمواله بحجز قاعات فى الفنادق الخمسة نجوم للاتفاق على ما سيفعلون فى البرلمان.

وقد التقيت عز بناء على طلبه قبل أن يبرق نجمه ذات صباح فى فندق شهير يطل على نيل الجيزة وراح يحدثنى عن التغيرات السياسية التى يستعدون لإعلانها وفهمت أن شرحه المفرط لما سيحدث بمثابة دعوة منه للمشاركة ولكنى اعتذرت وكان تبريرى: إن إيمانى باستقلال الكاتب بعيدا عن الأحزاب نوعا من الدعم الضرورى لحريته واستقلاله كما أننى لا أجد فى الحزب الوطنى أكثر من حزب بيروقراطى يضم أصحاب المصالح ولو أعلن الرئيس خروجه منه فإن قاعاته ستصبح خاوية وهو ما حدث من قبل عندما انتقل السادات من حزب مصر إلى الحزب الوطنى.

والحقيقة أن أحمد عز شخص شديد الذكاء.. عقلية منظمة.. قادرة على الاستفادة من الخبرات الأكاديمية فى تجهيز الأبحاث والتقارير قبل أن يتخذ القرار.. وهو ما يفسر وجود عدد لا بأس به من أساتذة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجانبه.

ونجح عز فى السيطرة على أمناء الحزب فى المدن والمراكز بشبكة من التليفونات المحمولة.. سمعت من زكريا عزمى وقتها أن عددها وصل إلى 60 ألف خط ولم تكن هناك مشكلة فى تمويلها بسبب ما يتمتع به عز من ثروة هائلة أثير حولها كثير من الجدل ولكنه فى النهاية تجاوز كل ما تعرض له من مشاكل بعد ثورة يناير.

وزكريا عزمى ينسب إلى الحرس القديم أيضا ولكن نجاحه فى إدارة الديوان الرئاسى أبقاه فى مكانه بجانب أنه كان مسئولا عن الشئون المالية والإدارية فى الحزب وجمع التبرعات لمؤتمراته ومساندة جمال مبارك وتوليه الإشراف على مشروعات السيدة الأولى.

وظل زكريا عزمى فى منصبه إلى ما بعد تنحى مبارك بشهور وبعد اتهامات بالكسب غير المشروع جرت تبرئته نهائيا من محكمة النقض.

والمؤكد أن إبراهيم سليمان كان أحد رموز الحرس القديم المقربين من مبارك وهو أمر ملفت للنظر أن يحظى وزير إسكان ومرافق بكل هذه الأهمية.. ولكنه.. فى الحقيقة نجح فى أن يسيطر على غالبية الشخصيات المؤثرة فى البلاد بتخصيص أراض وفيللات لهم كسبوا من ورائها الملايين.. وفى الوقت نفسه لم يكن ليتردد فى إصلاح السباكة بنفسه فى بيت الرئيس.. وعندما توفى حفيد مبارك أجهش سليمان بالبكاء أمام المقبرة وكأن ابنه هو الذى توفى.

ويشهد أرشيف الصحف أننى كنت أول من كشفت تجاوزاته وخضت ضده معارك كانت حديث البلد.. ولم يكن أمامه سوى إبلاغ النيابة العامة ضدى.. وبعد تحقيقات استمرت ثمانى ساعات كتب رئيس النيابة المستشار حامد راشد شهادة براءتى أنا وزميلى محمد الباز ومنال لاشين.. ولكن.. فى نفس المذكرة التى رفعها إلى النائب العام المستشار ماهر عبدالواحد طالب بالتحقيق مع سليمان فيما نسبته إليه.. ولكن اكتفى مبارك بإخراجه من حكومة أحمد نظيف واختير أحمد المغربى ليخلفه بعد شهور قليلة قضاها وزيرا للسياحة.

وفيما بعد حوكم سليمان فى أكثر من قضية وأجبر على دفع غرامات مالية قدرت بالملايين ولم تتردد زوجته فى أن تعلن أن ثروته لا تزيد على المليار جنيه دون أن تثبت من أين جاء أستاذ جامعة استفاد من مجانية التعليم بكل هذه الأموال؟.

ولو كان سليمان أسوأ رموز الحرس القديم فإن فتحى سرور أفضلهم.

أستاذ قانون يندر تكراره.. مؤلفاته الأكاديمية لا تزال أهم المراجع فى كليات الحقوق.. تولى وزارة التربية والتعليم قبل أن يصبح رئيسا لمجلس الشعب.. وهو شخصية اجتماعية بسيطة.. قادر على التفاهم مع التيارات السياسية والفكرية المختلفة.. وحاول جاهدا أن ينجو مما يتعرض له النظام من انتقادات.. ولكنه.. وجد نفسه سجينا على ذمة قضية موقعة الجمل بعد ثورة يناير.. ومن داخل زنزانته حمل لى ابنه طارق رسالة بخط يده شرح فيها الكثير مما مر به وطلب نشرها.. ولم أتردد فى تنفيذ ما طلب رغم مدافع الغضب التى كانت تصوب ضد كل من يدافع عما أطلق عليهم الفلول فى ذلك الوقت العصيب.. ولكنى كنت واثقا من براءة الرجل وهو ما ثبت فيما بعد.

بدأت كرامات تيار الإصلاح فى الظهور عام 2005 عندما جرى تعديل الدستور ليصبح منصب الرئيس بالانتخاب لا بالاستفتاء.. ودخل أيمن نور منافسا لمبارك فى أول انتخابات رئاسية بواسطة الاقتراع المباشر.. ولكنه اتهم بتزوير استمارات تأسيس حزب الغد.. وحكم عليه بالسجن خمس سنوات.. وأفرج عنه بعفو صحى بسبب ما يعانيه من أمراض السكر والضغط والكوليسترول وهو ما حرمه من الترشح للانتخابات الرئاسية التى جرت بعد ثورة يناير.

والحقيقة أن نور شخصية مريبة.. مدعية.. ملتوية.. يصعب الوثوق بها.. لا يتردد فى التحالف مع الشيطان ليحقق مصالحه.. وهو يعرف جيدا أننى لم أصدقه ولم أثق فيه.. وكثيرا ما حيرتنى ثروته التى يتمتع بها رغم أنه من عائلة متوسطة اكتفت بتعليمه فى كلية الحقوق.. سيارات فارهة.. مكتب فى وسط القاهرة.. وشقة على مساحة دور كامل فى عمارة تقع على نيل حى الزمالك بها حمام سباحة.. وقد نجحت زميلتى فى صوت الأمة حنان شومان فى دخول الشقة وتصويرها.. وأثار تحقيقها الكثير من الإعجاب.

وما أن خرج نور من السجن حتى تنكر لزوجته الإعلامية النشطة جميلة إسماعيل متباهيا بعلاقاته الخاصة فلم تتردد جميلة إسماعيل فى أن تكشف لى كل ادعاءاته ولم يجرؤ نور على الرد بعد نشرها بمانشيتات عريضة على الصفحة الأولى من صوت الأمة.

واستغلت إدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش قضية نور فى الضغط على مبارك للإفراج عنه كما ضغطت عليه لتغيير طبيعة نظامه السياسى وفى عام 2005 استجاب مبارك شكلا لما طلب منه.

فى ذلك العام أيضا أجريت الانتخابات التشريعية على مراحل.. وبثقة التيار الجديد فى نفسه جرت المرحلة الأولى من الانتخابات دون تزوير.. وكان أن نجح الإخوان فى الفوز بنحو ثمانين مقعدا.. وأثار ذلك فزع مبارك.. وهنا تدخل الحرس القديم ليكمل ما تبقى من مراحل الانتخابات بطريقته المعتادة.. وأنقذ أغلبية الثلثين التى يحتاجها الحزب الوطنى لتمرير القوانين فى مجلس الشعب وتنفس الحكم الصعداء.

وكان حدثا لا ينسى عندما أقام مبارك احتفالا سياسيا بمناسبة تعديل الدستور.. وحضرت الاحتفال لأجد بجانبى مجموعة من نواب الإخوان كان من بينهم محمد مرسى دخلوا رئاسة الجمهورية لأول مرة دون أن يخطر ببال أحد أنهم سيأتى يوم ويستولون على المكان.

كان الاحتفال بمثابة رسالة إلى بوش تفيد بأن مصر تأخذ خطواتها الأولى ناحية الديمقراطية.. وتجنب مبارك بما فعل تهديد وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بفرض نظرية الفوضى الخلاقة التى تهدم كل ما هو قائم من مؤسسات وتشريعات على أمل أن يخرج من تحت الأنقاض نظام ديمقراطى.. والمؤكد أنها نظرية مريبة.. فلا يخرج من تحت الأنقاض عادة إلا الفئران والثعابين.

وعندما طبقت هذه النظرية فى العراق بالقوة العسكرية خرجت العراق من الخريطة العربية.. وعندما طبقت فى سوريا واليمن وليبيا انتهت تلك الدول إلى دول ضعيفة مفككة عاجزة عن التماسك تطحنها حروب أهلية دفعت بملايين من شعوبها للهجرة بعيدا عنها.. واحتاجت تلك الدول إلى سنوات صعبة حتى تستعيد سلامتها.. واحتاجت إلى سنوات مضاعفة حتى تسترد عافيتها.

والمؤكد أن مصر نجت من ذلك المصير بمعجزة حققها شعبها بخروج ثلاثين مليوناً من شعبها فى 30 يونيو 2013 مطالبين برحيل حكم الإخوان الذين لا يؤمنون بالدولة الوطنية فى ظل حلمهم بتحقيق الخلافة الإسلامية.

وفى ذلك الاحتفال لم أتردد فى الحديث إلى مبارك بصراحة قائلا:

ــ سيادة الرئيس لقد أبقيتم عند تعديل الدستور على المادة الثانية منه والتى تنص على أن الشريعة مصدرا رئيسا للتشريع.. لقد وضع السادات تلك المادة عندما عدل الدستور ليبعد الأنظار عن فتح مدد الرئاسة بلا حدود.. وقد استغلت التنظيمات الإرهابية هذه المادة لتكفير النظام وشن حرب دينية ضده لن تتوقف بسهولة.

قال مبارك:

ــ لكننا وضعنا فى الدستور مادة تحذر قيام أحزاب سياسية بمرجعية دينية.

قلت:

ــ إن من السهل إخفاء الصبغة الدينية للحزب والدليل على ذلك تأسيس الإخوان فى تركيا لحزب العدالة والتنمية وتولى التأسيس فى صيف عام 2001 رجب طيب أردوجان وعبد الحميد جول نافيان أنه حزب إسلامى وهو يحكم تركيا الآن ولن يتردد فى تحويلها إلى وجهته المؤمن بها خطوة خطوة.

ولكن مبارك استهان بما يجرى فى تركيا متصورا أن العلمانية التى فرضها كمال أتاتورك على الدستور ستحمى تجربته السياسية المميزة ولكن ثبت فيما بعد خطأ ذلك التصور.

يوما بعد يوم نجح تيار جمال مبارك فى تحجيم تأثير الحرس القديم ولكن الطرفين فوجئا بطوفان يناير الذى أغرق الجميع.

وسمع مبارك نصيحة الحرس القديم بتحويل مجموعة من رموز التيار الجديد منهم أحمد عز وأحمد المغربى للتحقيق بتهم تتعلق بالفساد السياسى فى محاولة يائسة لإنقاذ النظام ولكن المحاولة فشلت فالسجون التى فتحت بأمر من مبارك سرعان ما دخلها الجميع بمن فيهم هو وولديه وراحت الدوائر تدور وتدور وتدور.