طارق الشناوي يكتب: ممنوع من التداول!

الفجر الفني

طارق الشناوي
طارق الشناوي


فى حديث عابر مع صديقتى المخرجة اللامعة، قرأت لها حوارا أثنت فيه على الرقيب ووصفته بالمستنير، لأنه وافق على السيناريو الذى تقدمت به وبلا أى ملاحظات، قلت لها طالما الرقيب وافق بكل تلك الرحابة فهذا يعنى أن فيلمك القادم ابتعد عن أى منطقة أو شخصية شائكة، فيلم شرعى لا يهش ولا ينش ربما فقط يكش، والرقيب الذى وصفته بالمستنير لم يجد ما يمكن أن يُغضب الدولة، جهاز الإضاءة الذى يحمله يؤكد أنه عين الحكومة الساهرة لاكتشاف أى مخالفة، ولهذا وضعوه على قمة هذا الجهاز الحساس، يُمسك من خلاله (ترمومتر) لقياس المسموح، وهو بالمناسبة ليس مطلقا، ما كان مصرحا به أمس قد تكتشف أنه قد صار فى الغد على قمة الممنوعات.


المستنير لن يقف أبدا فى صف الإبداع، هو دائما مع الدولة، قالت لى أعلم أنه يقف مع الفنان حتى لحظة فارقة سيبيع وقتها كل شىء للحفاظ على الكرسى، وأشارت إلى نفسها ضاحكة وأنا أول من سيضحى به، وهو يعلم أننى أعلم ذلك، وهو ما اعتبرته بزاوية ما نوعا أيضا من الاستنارة!!.

لم تمض سوى أيام قلائل حتى قرأت طلب المستنير حذف شخصية عميد الشرطة من مسرحية (3 أيام فى الساحل) التى كان يؤديها محسن منصور، بعد أن أجرى بروفات على مدى أكثر من شهرين، المسرحية يلعب بطولتها محمد هنيدى ومعه فريق من المضحكين بيومى فؤاد وأحمد فتحى ومحمد ثروت، من السهل طبعا أن تدرك أن الاعتراض سببه أن شخصية الضابط تُقدم بأسلوب سلبى ساخر، يتعارض مع ما تريده الرقابة، وتماشيا مع القواعد الصارمة التى صار الالتزام بها لا يحتمل أى قدر من المرونة.

تردد بقوة فى الكواليس أن هناك غضبا عارما تعرضت له الرقابة العام الماضى للسماح بتقديم ضابط شرطة فاسد فى فيلم (تراب الماس) لمروان حامد.

من الواضح أنهم لم يتحملوا رؤية تلك الشخصية، خاصة أن ماجد الكدوانى أداها بأستاذية أهلته ليحصل أكثر من مرة على جائزة الأفضل.

قبل أكثر من ربع قرن شاهدنا فى فيلم (الإرهاب والكباب) لشريف عرفة، شخصية وزير الداخلية التى لعبها باقتدار وخفة ظل كمال الشناوى، ولم يعترض أحد، ستكتشف أن كمال الشناوى التقط بعض تفاصيل من وزير الداخلية الأسبق عبدالحليم موسى، وامتلكت الدولة الجرأة للسماح بتداول الفيلم، الذى أعتبره الأهم فنيا وفكريا بين الأفلام الستة التى جمعت بين الثلاثى، الكاتب وحيد حامد والمخرج شريف عرفة والنجم عادل إمام.

كلنا نُدرك أن صورة ضابط الشرطة صارت من بين المحاذير وغير مسموح بتناولها، لديهم قناعة بأن الدراما سوف تلعب دورا حيويا فى تغيير الصورة الذهنية لضابط الشرطة، رغم أن الواقع كفيل تماما بإحداث هذا التغيير، وبالتالى سينعكس على الدراما.

قانون الفن يفرق بين القيمة الموضوعية والقيمة الدرامية، الشخصيات التى تنطوى على ضعف ما هى التى تملك القسط الأكبر من الجاذبية، شخصية الضابط والصحفى والقاضى والطبيب المنحرف، وغيرهم هى التى تدفع الفنان لتناولها، تابع كم مرة قدمت الدراما السفاحتين (ريا وسكينة)، وكم مرة رأيت على الشاشة محررة المرأة هدى شعراوى.

قائمة المحظورات تنتقل حاليا بين شركات الإنتاج، والكاتب الملتزم سيجد عمله مضيئا على الشاشة، بينما الرقيب المستنير سوف يزداد قطعا شراسة وهو يحذف بضمير مستريح كل الممنوعات، بينما المبدعون يشيدون باستنارته!.