ياسمين الخطيب تكتب: "القسيس مات"‬

الفجر الفني

ياسمين الخطيب
ياسمين الخطيب


في طفولتي كان أبي يصطحبنا كل صيف إلى مدينة رأس البر، لم تكن وقتذاك أرقى مصايف مصر، لكن قلبه تعلق بها مذ كانت قبلة المصيفين من أبناء الطبقة المخملية، فحاول أن يستعيد مجدها السابق معنا، وأظنه نجح في نقش أجمل ذكريات الطفولة بوجداني في عِشة مُطلة على البحر، أغدقت عليّ حديقتها الخلفية الصغيرة المُظلَلَة بكرمة عنب عملاقة ونخلة وحيدة، بالياسمين البلدي والبلح، ونفحني في ذلك العام أغسطس، رغم قسوة حرارته، بنسمات تحمل فيوض من السعادة، على شاطئ الجِربي وشارع ١٠١ وپلاچ الجميل وشارع النيل واللسان والطفطف، وتمت اللذة بالتهام السندوتشات على الپلاج، ثم التحلية بمشبك بلبول، وزجاجة كوكاكولا مُثلّجة.

 

‫وتظل أكثر اللحظات انتشاءاً، هي تلك التي كنت أُحلّق فيها على البسكلته الوردية، التي اشتراها لي أبي من بورسعيد.. كانت أجمل وأسرع بسكلتة في رأس البر، لها كرسي جلدي أحمر، مُبطن بطبقة سميكة من الإسفنج إمعاناً في الرفاهية، ولها كلكس يعمل بالبطارية ويصدر ٣ أصوات مختلفين، وفي مقدمتها سبت صغير جداً لا يتسع لأي شيء سوى زهوي الكبير به.. كانت أسطورة تتفحصها رفيقاتي بوجل يليق بجلالها، وكنت أتقدم بها الركب على أجنحة البهجة، بأقصى سرعة من العشة وحتى مشارف الكنيسة الضخمة الواقعة في نهاية الشارع.

 

‫أمام الكنيسة تعرفت على مجموعة من البنات والصبيان من مدينة دمنهور غرب الدلتا، كانت إحدى البنات خرساء، وقد أفزعت ابتسامتها الصامتة قلبي، فتجنبتها، ولعبت مع الآخرين استغماية وصلح، وجمعني انسجام غامض بفتى يُدعى "شادي"، حدثني بعين مندهشة وأخرى حالمة، عن خطته للانتقال من دمنهور إلى القاهرة، لرؤية عادل إمام ويسرا وأحمد زكي، كان المسكين يظن أن أهل العاصمة يصادفون نجوم السينما يومياً في شوارعها، فأقسمت له أني أصادف ليلى علوي مراراً في السوبر ماركت، بصحبة إلهام شاهين وآخرين مغمورين لا ألتفت لهم. وقد أشعرني إنبهاره بفخر لم أدركه من قبل، لمجرد انتمائي لأهل المحروسة.

 

‫اختتمنا الليلة الهانِئة باللف بالبسكلتات حول الكنيسة، وأنا أشاركهم الغناء بأعلى صوتي عمداً، لتحريض الصدى على ترديد الغنوة : "الكنيسة وقعت والقسيس مات.. القسيس مات صوتوا يا بنات"، لكن أحدهم نبهني لجهلي بكلمات الأغنية، التي تنتهي بـ "زغرتوا يا بنات" وليس "صوتوا يا بنات"! سألته ببراءة غير مُفتعلة : "يزغرتوا ليه؟" فرد بثقة بلهاء: "عشان الكنيسة وقعت والقسيس مات".. انتاب قلبي فزع كذاك الذي غزاه بابتسامة الخرساء، هربت مُسرعة مُمتطية بسكلتتي الوردية، والأصداء الكئيبة تطاردني.. القسيس مات زغرتوا يا بنات.. زغرتوا يا بنات.. صوتوا يا بنات

 

ياسمين الخطيب

من المجموعة القصصية طعم الأفراح - تصدر قريباً عن دار ميريت.