أعلنا سقوط خرافة كمال الشاذلى قبل تخلى نظام مبارك عنه بخمس سنوات.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (48)

العدد الأسبوعي

عادل حمودة
عادل حمودة


فى عام ألفين كان الشاذلى الرجل القوى فى النظام: زعيم أغلبية فى مجلس الشعب وأمين تنظيم الحزب الحاكم ولسان الحكومة فى وزارة عاطف عبيد

مسلسل فساد المسئولين بدأ بهدايا من الثياب ثم انتقل إلى بناء حمامات السباحة وبعد مشتريات العائلة ظهرت شراكتهم فى المشروعات التى يسهلونها لرجال الأعمال

لم يصل مشاهير الثروة «مثل بيل جيتس» والسلطة «مثل نابليون بونابرت» والصحافة «مثل موسى صبرى» إلى تشبيه مناسب للنجاح أفضل من وصفه بـ«الهيروين».. كلما تناولوا جرعة منه احتاجوا إلى مزيد من الجرعات حتى يظلوا عند نفس المستوى من نشوة الغيبوبة وإلا ظهرت عليهم أعراض الانسحاب المؤلمة التى قد تنتهى بهم إلى الفشل.

ولكن هيكل يرى أن مشكلة النجوم اللامعة أنهم مثل راكبى الدراجات عليهم أن يواصلوا الحركة باستمرار وإلا تعرضوا للسقوط على الأرض.. بل إن عليهم أن يتحركوا أسرع وأسرع ثم أسرع لأن السباق فيما بينهم يتصل ارتفاعه كأنه صعود جبل.

ولكن النجاح فى تصورى مثل ركوب سفينة فضاء كلما ابتعدت عن جاذبية الأرض كلما احتاجت إلى كميات أكبر من الوقود وإلا تحولت السفينة الطائرة إلى خردة تتناثر أجزاؤها فى الفراغ الهائل الذى يحيط بنا.

ولو كان النجاح يجبرنا على صعود درجات السلم درجة بعد درجة فإن الفشل لا يحتاج سوى الضغط على زر أسانسير سريع الهبوط يهوى بنا إلى القاع فى ثوان.

والمؤكد أن من يجرب النجاح مرة يركب المستحيل ليحافظ عليه مهما كانت الصعوبات والتحديات والحماقات.

وقد جربت النجاح فى «روزاليوسف» حتى حرمت منه قهرا وقسرا وظلما وغدرا.. وعشت نحو عامين بعيدا عن الصحافة التى أدمنها وأهواها دون أن يعوضنى عنها تأليف الكتب السياسية مهما كان صداها.. وما أن بدأت خطوات العودة إلى الميدان فى صحيفة خاصة هى «صوت الأمة» حتى تساءلت غارقا فى بحر القلق: كيف أسترد النجاح المسلوب من العدد الأول؟.. وما ضاعف من صعوبة السؤال أن المجتمع كان يترقب الصحيفة وينتظرها.. ربما لتعوضه عن الحرية المفقودة فى الصحف القائمة؟.. ربما ليجد نفسه على صفحاتها.. ربما ليختبر من جديد لياقتى المهنية التى خشيت أن يكون الصدأ قد أصابها.

كان لابد من جرعة صحفية وسياسية قوية ندشن بها العدد الأول وتشعر القارئ بأن الضربات التى تلقيناها لم تغيرنا ولم تكسر إرادتنا ولم تجهز على حرفتنا.. والأهم أن نجدد ثقة القارئ الذى وضعنا بالقطع فى اختبار جديد صعب.. والأكثر أهمية أن يصل إليه الشعور بأن الصحيفة التى نصنعها لها أشواك وأنها يمكن أن تعض.

اخترت شخصا سمينا.. مهما.. مؤثرا.. شرسا.. لا يقبل المساس به.. ولا يتردد فى الإجهاز على كل من يقترب منه مستخدما كل خبرات النظام فى الضرب تحت الحزام والقتل بدم بارد.. ولكنه لم يكن شخصا محبوبا بما يكفى.. وكان يثير من علامات الاستهجان ما يتجاوز مؤشرات الاستحسان.. وفى الوقت نفسه كان الانتصار عليه مستحيلا.

اخترت كمال الشاذلى ليكون تبة ضرب النار فى العدد الأول.. أو لكمته المؤلمة.. أو دفعته القوية «بيج بوش» والتعبير الأخير مقتبس من علم مواجهة التخلف.. حيث لامفر للخروج من الدوائر المغلقة للفقر بدفعة قوية تكسرها وتوقف دورانها.

فى ذلك الوقت من شتاء عام 2000 كان كمال الشاذلى يوصف بالرجل الأقوى فى النظام وتأكد ذلك من خلال السلطات الهائلة المتنوعة التى تمتع بها.. تمتع بسلطة سياسية بصفته أمين التنظيم فى الحزب الوطنى الحاكم.. وتمتع بسلطة تشريعية بصفته زعيم الأغلبية فى مجلس الشعب.. وتمتع بسلطة تنفيذية بصفته وزير مجلسى الشعب والشورى فى حكومة الدكتور عاطف عبيد.

توليت بنفسى كتابة التحقيق الذى اخترت له عنوان: سقوط خرافة كمال الشاذلى ورحت سرا أجمع مادته ووثائقه من منافسيه وخصومه فى الانتخابات البرلمانية التى جرت قبل أسابيع قليلة فى دائرة الباجور «منوفية» وكاد أن يخسرها لولا أجهزة التدخل السريع التى حقنته بلترات عاجلة من الدم ومحلول الجفاف أعادت إليه عضويته.

وحتى تكتمل الصورة طلبت من سعيد عبدالخالق أن يجرى حوارًا معه حتى لا يقال: إننا أطلقنا النار على ظهره دون مواجهة ووافق الشاذلى على الحوار دون أن يعرف ما نخبئه له وكتمت الأمر على كل محررى الصحيفة حتى يخرج الجن من القمقم.

كان سعيد عبدالخالق أحد الذين هاجمونى بضراوة فى صحيفة الوفد وساهم فى دعم جبهة كمال الجنزورى ونجيب ساويرس التى تصورت أنها تخلصت منى بإخراجى من «روزاليوسف» قبل أن تنكفئ على وجهها طويلا.

ساهم عبد الخالق فى إثارة عاصفة. الصحافة الصفراء لتغطية عملية الاغتيال التى نالت من الهامش المتاح لحرية الصحافة ليتأكد لنا أن أسلحة القتل فى كثير من الأحيان صناعة صحفية.

لكن ما فعل عبد الخالق لم يزد عن ذرة فيما فعل غيره.. ليتأكد لنا أن أعداء المهنة هم فى كثير من الأحيان منها.. يأكلون أكلها.. ويسكنون فى بيتها.. وينامون فى فراشها.. ويكتبون بحبرها.. ولكنهم مثل يهوذا سمعان الاسخريوطى الذى خان السيد المسيح وسلمه لليهود مقابل ثلاثين قطعة فضة.. بل إن يهوذا أفضل منهم.. فهو على الأقل ندم على فعلته ورد المال لليهود وانصرف ليقتل نفسه بنفسه.

كان عبد الخالق رئيسا لتحرير الوفد ولكن دون مقدمات أطيح به رغم أنه كان واحدا من أبرز صناعها.... ولارتباط عصام فهمى بالحزب ولصداقته بفؤاد سراج الدين ولصلته بعبد الخالق ألح على فى ضمه إلى أسرة تحرير صوت الأمة وسارعت بالرفض.. لكننى.. بعد قليل من التفكير وافقت.. فوجوده فى صحيفة أتولى رئاسة تحريرها اعتراف منه بأنه كان على خطأ فيما نسبه لتجربة «روزاليوسف».. ومن جانبه لم يتردد عبد الخالق فى الاعتراف بالخطأ والاعتذار عنه علنا.

وفى الحقيقة لم يستمر عبدالخالق طويلا بجانبى فلم يكن ينتمى إلى المدرسة الصحفية التى أؤمن بها كما أن صلاته الخفية برموز فى السلطة ضاعفت من الشك فيه بجانب أنه لم ينجح فى التعامل مع المحررين وعجز عن إقناعهم بمهارته فانصرفوا عنه.

ولم يعرف عبد الخالق بالقطع بما كنت أجهزه للشاذلى.

ولد كمال الشاذلى فى عام 1934.. تخرج فى كلية الحقوق.. ولكنه لم يجد نفسه فى مهنة المحاماة.. فالريفيون فى قريته لا يملكون ما يدفعون لمن يتولى قضاياهم ولو كانت أمام محاكم الجنايات.. خاصة أن الشاذلى خرج من بيت متواضع لم يتح له سوى امتلاك دراجة يتنقل بها.. أما إذا أجبرته الظروف على الذهاب إلى المركز أو البندر فكان يركب تاكسيات بالنفر مع البسطاء وما يحملون من متاع وما يجرون من حيوانات.

وجد الشاذلى أن السياسة يمكن أن تحقق له ما تعجز عنه المحاماة.. فى ستينيات القرن الماضى انضم إلى الاتحاد الاشتراكى.. التنظيم الحزبى الوحيد فى ذلك الوقت.. ولفت نظر قياداته بقدرته المتميزة فى حفظ التاريخ الشخصى للمسئولين فى المنوفية وجذورهم العائلية بما يكشف عن نقاط ضعفهم التى تسهل السيطرة عليهم لو كانوا موظفين فى الحكم المحلى أو نوابا فى مجلس الأمة.

لكن الموهبة الأهم للشاذلى كانت فى قدرته على إثارة الغبار على كل من يفكر فى المساس بالنظام وساعده فى ذلك صوته الجهورى وجسده الضخم.

على أن ذلك لم يكن ليكفى لاحتراف السياسة والوصول إلى البرلمان فاللعبة لها خبايا عليه تعلمها والتدريب عليها.. وتولت هذه المهمة نوال عامر التى مثلت دائرة السيدة زينب فى مجلس الأمة لعدة دورات بدأت فى عام 1964.. وكان والدها أحمد أمين المحامى سكرتير هيئة التحرير ــ أول تنظيم سياسى لثورة يوليو ــ عن نفس الدائرة.. وبجمعياتها الخيرية تمتعت بشعبية واضحة فى الدائرة.. سرعان ما امتدت خارجها بعد استجواباتها الشهيرة عن نقص المواد التموينية وأسباب رفع سعر القطن واختفاء الأقمشة الشعبية.. بجانب مشروعات القوانين التى تقدمت بها عن الرسوب الوظيفى وإعانة الغلاء وجمع المرأة بين مرتبها ومعاش الزوج المتوفى.

وتحمست نوال عامر للشاذلى أكثر بعد أن تزوج شقيقتها.. ولفت الأنظار مبكرا تحت قبة البرلمان فى سنوات حكم عبد الناصر.. فقد كان بارعا فى الحديث عن الاشتراكية وحقوق الطبقات الكادحة وفضائح الطبقات الرأسمالية التى استحقت ما جرى لها بتأميم مصانعها.. ولكنه.. فيما بعد أصبح أكثر ثراء ممن هاجمهم وشهر بهم.. فقصره الذى بناه فى الباجور أطلق عليه البيت الأبيض.. وبعد أن خرج من قريته على دراجة عاد إليها فى سيارة مرسيدس.. وسكن فى حى جاردن سيتى فى شقة زهيدة الإيجار كانت تحت الحراسة.. وحصل من وزير الإسكان والمجتمعات الجديدة على ثلاث قطع متميزة فى القاهرة الجديدة.. وامتلك فيللا على لسان الوزراء فى مارينا.

كانت تلك المقارنة جزءا من التحقيق الصحفى ولكن بعيدا عن الشاذلى رحت أرصد تطور أسلوب إفساد المسئولين فى نظام مبارك.. بدأوا بثياب ذات ماركات شهيرة وغالية يدفع ثمنها رجال الأعمال.. ثم تطورت الرشوة حتى أصبحت مساهمة فى تغيير أثاث البيوت.. أو تنفيذ منشآت إضافية مثل حمامات السباحة.. ثم تطورت أكثر لتصل إلى مستوى المجوهرات والسيارات وترتيب رحلات مشتريات العائلة فى الخارج.. وأخيرا أصبحت هناك مشاركة بنسبة فى المشروعات.

بعد وفاة عبد الناصر حاول الشاذلى التقرب من السادات بمساعدة السيدة جيهان لدخول المجلس المحلى عن ميت أبو الكوم مسقط رأس السادات الذى رفض الفكرة وأخذ موقفا حذرا من الشاذلى.

لكن ما أن جاء مبارك حتى برق نجم الشاذلى.. فقد نجح فى أن يأتى إليه بمجلس شعب لا يثير المتاعب.. كما نجح فى السيطرة على الأغلبية بإشارات بسيطة من وجهه.. ونجح فى تحجيم المعارضة بالشوشرة على أعضائها بأكثر من أسلوب اعتبره البعض غير لائق.. وسرعان ما أصبحت السلطة التشريعية تحت تصرفه.. وبتوليه أمانة التنظيم والعضوية فى الحزب الوطنى نافس الأمين العام صفوت الشريف وأمين الشئون المالية والإدارية زكريا عزمى فى الحصول على ثقة الرئيس.. ومن جانبه لم يخذله الرئيس بل جعله لسان الحكومة بتعيينه وزيرا لمجلسى الشعب والشورى.. باختصار أصبح الشاذلى أهم مراكز القوى فى النظام.

ما أن نشرت تلك المعلومات عن الشاذلى حتى انفجر بركان الغضب فى داخله فلم يكن يتوقع ما قرأ ولشعوره بذاته وقوته وسلطته كان من الطبيعى أن يهدد بغلق الصحيفة ولكن كل ما نجح فيه هو تحريض رجال الأعمال على عدم نشر إعلاناتهم فى صوت الأمة ووجدت بعضهم يتجنبنى ويخشى الاقتراب منى فى الأماكن العامة خشية عقاب الشاذلى.

والحقيقة أن صوت الأمة صدرت منذ العدد الأول وفيها مساحات إعلانية تقترب من ثلث صفحاتها وهو أمر لم يحدث كثيرا من قبل أن تصدر صحيفة وبها كل هذه الإعلانات.. المعلن عادة لا يغامر بالنشر فى صحيفة إلا بعد أن يتأكد من رقم توزيعها.. وحجم تأثيرها.. وملاءمة نوعية قرائها للمنتج الذى يروج له.. ولكن.. صوت الأمة كسرت هذه القاعدة.. وجاء معلنون متنوعون إليها مطالبين بمساحات قبل صدور العدد الأول.

وفى تفسير الدكتور محمد الباز وهو يرد على أسئلة الدكتورة عواطف عبد الرحمن المشرفة على رسالته: أن السمعة التى نلتها فى «روزاليوسف» جعلت من السهل توقع نجاح أى مجلة أو صحيفة أخرى أتولى تحريرها ومن ثم فليس غريبا أن يأتى الإعلان إلينا قبل صدور العدد الأول.

والحقيقة أن قضية الإعلان فى الصحف الخاصة قضية شائكة.. فهناك تصور أن ما تنشره من تحقيقات حول فساد البيزنس هو نوع من الضغط على رجاله وابتزازهم للحصول على إعلان منهم.. ولو كان ذلك صحيحا فى بعض الأحيان فالصحيح أيضا أن ذلك الاتهام استخدمه فاسدون لا حصر لهم فى تبرير ما ينشر عن فسادهم.. فلو كان هناك ابتزاز فلم يخضعون إليه؟.. ولم لا يبلغون عمن يبتزهم؟.

وفى كثير من الأحيان كنت أنشر ما أحصل عليه من مستندات ضد شخصيات لها ثقلها ونفوذها مثل حسين سالم فكان يرد علينا بنشر إعلانات فى صحف أخرى وكان لبعض هذه الصحف ظروفها المالية الصعبة مثل صحيفة العربى الناطقة باسم الحزب الناصرى فتضطر لنشر إعلاناته بل ترحب بها.

وعندما اشتبكت مع أحمد فؤاد نجم على صفحات مجلة الأهرام العربى لم تخل أعداد المجلة التى نشرت فيها مقالات المعركة الصحفية بيننا من إعلان لإحدى شركات نجيب ساويرس الذى كان داعما لنجم ومساندا له.

وما أن فتحنا ملفات أحمد بهجت حتى أنتج دقائق من الرسوم المتحركة عرضها فى قنواته الفضائية وأوحى أنها تمسنى وحاول بها الإساءة إلينا ولو كان يملك ردا عما نشرنا لوفر على نفسه الكثير.

وأشهد أن صفوت الشريف شعر بأن ذلك لا يليق بالقواعد الأخلاقية للتليفزيون وحسب ما عرفت فإنه تدخل لإيقاف بث تلك الرسومات.

ولعل ذلك أوحى لكثير من رجال الأعمال بامتلاك صحف وفضائيات خاصة تلعب أحيانا دور البلطجى الذى يصد عنه مفجرى الحملات الكاشفة لفساده ليضيف إلى تهمة نهب المال العام تهمة الخروج على القانون باستخدام العنف.

والمؤسف أن هناك صحفيين لم يترددوا فى بيع ضمائرهم واشتركوا فى سب زملائهم مقابل لقمة عيش مغموسة بمال حرام.

بالتأكيد أثرت تحذيرات الشاذلى للمعلنين بالابتعاد عن «صوت الأمة» فى نصيب الصحيفة من الإعلان خاصة أنها نجحت بأسرع مما نتوقع وتجاوزت أرقام توزيعها المائة ألف نسخة أسبوعيا.

ولكن فى الوقت نفسه لم تتأثر الصحيفة ماليا فقد بنينا اقتصادياتها على أساس عائد التوزيع وعلى هذا الأساس أيضا حددنا سعر البيع.

ولابد من الإشادة بقدرات عصام فهمى المتميزة على إدارة الصحيفة.. فقد كان يضع كل قرش فى مكانه.. وكان يتابع التوزيع بنفسه فى شوارع القاهرة.. يأخذ من أماكن بها فائض إلى أماكن تحتاج المزيد من النسخ.. كما كان قادرا على ابتكار ملاحق وصفحات مبتكرة تجذب المعلنين.. كما أغراهم بأسعار خاصة للحملات والعقود طويلة الأجل.

وفشلت حملات الشاذلى التحريضية ضدنا وعندما تأكد أننا لم نتأثر ولم نهتز ولم نذهب إليه راكعين نادمين قرر بذكاء أن يكف عن العداء لنا وأن يسعى بنفسه إلى صداقتنا.

لكن الأهم أن سقوط خرافة كمال الشاذلى كانت نبوءة منا قبل أن يقضى عليه جمال مبارك بخمس سنوات على الأقل وهذه قصة أخرى.