د. حماد عبدالله يكتب: ذكرى زيارة الكعبة المشرفة !!

مقالات الرأي

د. حماد عبدالله
د. حماد عبدالله


إسمح لى  صديقى القارىء المتابع لمقالاتى اليومية بجريدة الفجر بأن أعيد نشر مقال لى صدر فى جريدة الفجر فى عام 2011 لإرتباط هذا المقال بمشاعر إعترتنى حينما زرت بيت الله الحرام الأسبوع الماضى .
والمقال كما جاء تحت عنوان " لحظات شفافة من العشق الإلهى فى قلب بيت الله الحرام " .
اليوم السبت أول شعبان .. يوم غسيل الكعبة وتغيير القباه والكسوة الشريفة التى نالت مصر حظها فى تطريزها عشرات السنين حتى عام 1958.
لا أصدق أن الله كتب لى أن أشهد هذه اللحظات التى سيحسدنى عليها ملايين المسلمين وأحقق حلماً لم أتوقعه أن أمكث فى بيت الله الحرام ولو دقائق معدودات.
جاءت الدعوة من المهندس "محمد الأمين" عبر صديقى  المهندس"شريف سالم" وحين وصلت مساء الأربعاء إلى الصالة الرابعة فى المطار كان العدد قد إكتمل فأقلعت طائرتان صغيرتان تحمل كل منهما عشرة ركاب وقيل لنا أنهما أول الطائرات الخاصة التى أقلعت بعد 25 يناير .
فور وصولنا إلى المدينة مثلنا فى حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وبقينا فى مسجده حتى صلاه الفجر .. كنا أربعة عشر رجلاً .. نتحرك معاً .. ولا نتناول إلا قليلاً من الزاد .. وفى منتصف الليل تحركت الطائرتان إلى جدة .. ومنها بالسيارات إلى مكة .. لنبداء على الفور فى العمرة التى إنتهينا منها فى الساعة السابعة والنصف صباحاً .. وكان يطوف حول الكعبة نحو مائتى ألف مسلم .. ومثلهم يسعون بين الصفا والمروة .. كأننا فى موسم حج.
ظللنا حول الكعبة إلى ما بعد العشاء .. وفى منتصف الليل تسلمنا تصاريح دخول الكعبة .. ومن جمال التنسيق وروعة تناسق ألوانه تمنيت أن أحتفظ به .. لكنهم يستعيدونه فور إنتهاء الزيارة . بعد صلاة الفجر مباشرة توافد المدعوون إلى مكان قريب من إذاعة الحرم .. حيث قسمت المنطقة إلى مربعات محصورة بشبابيك نحاسية .. وفى تنظيم دقيق كنا فى المربع الأول .. وأمامنا الكعبة والطائفون يتحركون حولنا .. وفجأة .. ظهرت قوات من الصاعقة السعودية يصل عددها إلى ألفى جندى ليحيطوا بالكعبة مشكلين دائرة كاملة .. فإذا بجميع الظائفين يزدادون تلاحماً وازدحاماً دون إزعاج .. وبعد نصف دقيقة خرج من شمال الحرم " سلم خشبى "  له منصة يتحرك على عجل وراح يشق طريقة إلى الحرم أمام باب الملتزم .. وأصبح ملاصقاً للكعبة .. لياتى الرجل الذى يحمل المفتاح (وهو من أل شبيبة ورثة حملة المفتاح) وصعد وفتح الباب .. فانطلقت حناجرنا بصوت لا أنساه " الله أكبر" .. " الله أكبر" .. بينما مئات الألوف من المتابعين لهذا المشهد العظيم .. المتفرد للكثيرين وأنا منهم .. فى حالة ذهول .. وجاء أمير مكة بصحبة عدد من الأمراء أدوا الصلاة .. ركعتين أمام الحجر الأسود .. وصعدوا السلم .. ودخلوا إلى قلب الجامعة .. وبعد عدة دقائق سمح لنا .. أول الزوار بالنزول من السلم الرخامى كى نمر داخل أنبوب من البشر .. ووسط حائط من الجنود .. كل ضلع فيه سمكه عشرة جنود ولكنه لايسمح إلا بمرور شخص واحد .. وكل عشر خطوات كان هناك من يفحص تصاريحنا .
كان الطائفون مشدوهين وهم ينظرون إلينا وكأننا جئنا من كوكب أخر .. ولسان حالهم يسأل . من يكون هؤلاء المحظوظون؟ .. كيف نالوا هذا الشرف العظيم ؟ .. كل هذه الأسئلة تقرؤها فى العيون .. مما جعلتنى أدعو بصوت مرتفع أن يرزق الله المسلمين جميعاً مثل هذه اللحظات التى وهبها لنا.
وحين وصلنا إلى الركن الأيمن كان ستار الكعبة مرتفعاً عنها فأخذت أمسح به منديلاً أبيض كان فى حوزتى .. ثم وصلت خلف زملائى إلى الحجر الأسود .. فتناولته بالقبلات .. وفى ذهنى قول عمر بن الخطاب " لولا أننى رأيت رسول الله يقبلك ما كنت فعلت" .. ولكن شعوراً أخر إجتاحنى حينما بدأت الصعود على السلم الخشبى العتيق كى أدخل من باب الملتزم إلى داخل الكعبة .
لم أصدق نفسى وأنا أرى هذال الصرح المقدس العظيم الذى يقال إنه تحت العرش الإلهى يمكث ، حجرة يرتفع سقفها على ثلاثة أعمدة مغطاة بخشب الأبنوس على ما أعتقد .
أرضيتها من الرخام الإيطالى الأبيض (كرارة) وكذلك حوائطها التى ترتفع لنحو المترين تقريباً ، منقوش على الحوائط الأربعة أيات قرأنية محفورة حفراً غائراً وبارزاً ـ ومن نصف أرتفاع الحجرة " عرق خشبى قديم " قديم معلق به أدوات نحاسية ( آنية ) مختلفة مثل ( أباريق وبعض أوانى القهوة والأطباق ) وكلها من النحاس الأحمر .
وغطيت جدران الكعبة من الداخل وكذلك سقفها الذى يرتفع إلى حوالى ثمانية عشر متراً بالقماش " الأسطبرق " الأخضر الفاتح المنقوش بالزخارف النسجية من تطريز ماكينات الجاكار ذات القوة العالية ، وأديت ما سمعت من زملائى بأن أصلى ركعتين أمام كل جدار ، وبدأت عند يمين مدخل الباب، ولم أدر كيف تسلل شريط من الناس فى ذاكرتى، أسرتى وأحفادى وأصدقائى، حتى هولاء الذين لم أرهم منذ زمن بعيد ، والأغرب أن يرد على ذاكرتى تلك العلاقات القديمة والتى رحل أصحابها كأمى ، الجميع حضر إلى ذهنى ، كى أجهش بالبكاء ، ولا أجد على لسانى غير الرجاء من الله العلى القدير أن يرحم أمى وأن ينقذ بلدى وأن يعفو عنا وأن يرزقنا رزقاً حلالاً .
تم صليت ركعتين أمام الحائط الجنوبى ، ثم صليت ركعتين أمام الحائط الشرقى ، لأستمر فى الدعاء أمام أحد المربعات التى يقال إنها تغطى شباكاً فى الكعبة ، وقبل خروجى من الباب وقفت أمام الحجر الأسود ، ولكن من داخل الكعبة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عند خروجنا وجدت الرجل حامل المفتاح يجلس على الباب فوق الدرجة الأولى من أعلى السلم فأخذت بيده وسلمت عليه فسألنى " أنت مصرى ؟" فقلت ، نعم فقال ، دعاؤك مستجاب يابنى " ، حمدت الله وأنا أقف عالياً أواجه الطائفين وهم ينظرون إلينا ونحن نخرج من نفس الباب الذى دخلنا منه ، وإذا بى جهش بالبكاء ، فقد إستكثرت على نفسى هذا الشرف العظيم ، وسرعان ما أصبحت بين طوفان البشر ، ولم يتردد بعضهم فى لمسى ووضع يده على رأسى ، فقد تصوروا أنهم يمكن أن يحظوا ببعض مما حظيت به .
إنتهى الحلم ومضت ساعات لا تزيد على أربع ، ركبت بعدها الطائرة عائداً إلى صخب الحياة