طارق الشناوى يكتب: نادية.. سيدة اللمسة السحرية

مقالات الرأي

طارق الشناوى
طارق الشناوى


فى السنوات الأخيرة حظيت نادية لطفى بأكثر من تكريم، وأكثر من جائزة، تكريم من المستشار عدلى منصور رئيس الجمهورية المؤقت السابق بعد عودة عيد الفن، كما أن مهرجان القاهرة بعدها يهدى دورته إليها، وأكاديمية الفنون تمنحها درجة الدكتوراة الفخرية، وتنال قبل أشهر قلائل جائزة الدولة التقديرية، وأخيرًا وليس قطعا آخراً، تحمل هذه الدورة بمهرجان الإسكندرية اسمها، لنشعر أن الأيقونة المصرية، تمنحنا دائما الإحساس بالفخر والثقة عندما تتصدر صورتها واسمها المشهد، فهذا يعنى أن الإبداع والرقى هما العنوان.

فى كل مكان تتواجد فيه نادية لطفى تشعر أن الدنيا وفى لحظات قد امتلأت طاقة إيجابية تشع فى جنبات المكان، فيضا من الحضور والألق، هكذا تجدها داخل مستشفى المعادى العسكرى، بعد أن صار هذا المكان هو مقرها الدائم لاحتياجها إلى رعاية خاصة، بينما الحقيقة التى من السهل أن تلحظها هى أن نادية لطفى تمنح كل من يقترب منها رعاية خاصة، وقبل ذلك تملأه بالدفئ والسعادة، وهى لا تتعمد أبدا ذلك، أنها تمارس فقط الحياة، لنشعر بعدها بجدوى الحياة.

تقطن فى الدور الخامس غرفة 502، وكثيرا ما ذهبت إليها، بدون أى أغراض صحفية، فقط لأنها نادية، التى أتوق لرؤيتها، فهى بالنسبة لى ليست مجرد فنانة كبيرة، أسعى للاقتراب منها، إنها الإنسان أولا الذى تسعد عندما تلتقيه لأنه يحمل إليك شيئا خاصا وحميما، بينما أنت لا تستطيع بدقة تحديده، ولكنك بالتأكيد، تكتشف أنك لا تجده سوى عندها.

نادية لطفى من هؤلاء القلائل الذين أطلق عليهم توصيف شخصيات مدارية، إنها تلك الشخصية التى تحمل جاذبية خاصة كإنسان بعيدا عن الكاميرا، وهؤلاء ليسوا بالضرورة ممن يمارسون الفن، ولكن لديهم فيض أعمق من الممارسة الفنية وهو الإنسان الذى يسكنهم وكأنه مغناطيس جاذب، فهو يمثل الجانب الأكبر من تكوينهم، هؤلاء هم الاستثناء الذين قد منحهم الله، دائرة جذب خاصة تنفذ للعمق، ومن يدخل إلى دائرة هؤلاء، يظل من الدراويش والحواريين، ولا شعوريا يجد نفسه وقد تحلق بدون أن يدرى فى هذا الفلك، وتلك هى الفنانة «المدارية» نادية لطفى، بعد كل لقاء ستكتشف أن إحساسك بالحياة والبشر قد أضيف له شىء مختلف، وتقييمك للكثير من الأمور التى كنت تعتقد أنها بديهية، لم تعد أبدا مسلما بها، نادية تحفزك، بعد كل لقاء على إعادة التأمل لكى تفهم أكثر، وتجد إجابات أخرى، لأسئلة، كنت تعتقد أنها لا تحتمل أبدا إجابة أخرى، فهى تحفزك وتشحذك لمزيد من التأمل.

بالنسبة لى لم تكن نادية مجرد فنانة عظيمة، الشاشة قطعا تشهد بذلك، ولا يحتاج الأمر إلى شهادتى، شىء ما خاص جدا وحميم أيضا جدا، يجعلها قريبة منى وكأنها جزء من بنائى النفسى، فلقد كانت ضمن عدد من الموهوبين الذين تبنى وبشر بموهبتهم الشاعر والصحفى الكبير كامل الشناوى، وذلك منذ بزوغ ومضة الإبداع عام 1958، كان عمى يقطن فى 24 شارع «النباتات» بحى «جاردن سيتى»، والذى صار يحمل بعد رحيله عام 65 اسمه ليصبح شارع «كامل الشناوى النباتات سابقا»، بينما نادية تقطن فى رقم 5 من نفس الشارع، المسافة سيرا على الأقدام لا تتجاوز ربما 7 دقائق، ولكن لا أتصور أن أيا منهما كان يحتاج لكى يصل للآخر، بأن يقطع تلك المسافة، حيث إن التواصل بينهما دائما لا ينقطع.

نادية لطفى أيقنت منذ اللحظة الأولى وهى تطرق الباب، أن الثقافة هى التى تمنح الفنان كل هذا الفيض من الحضور، إنها البنية التحتية التى تضمن أن يدرك من يتعاطى معها، أن هناك ما هو أبعد وأرحب وأبقى مما يتحمس إليه من الأعمال الفنية، وأن عليه أولا أن يفهم الحياة، قبل أن يشرع فى ممارسة الفن، لم تكن نادية مجرد فنانة فائقة الجمال، كان فى العمق ما هو أكثر جمالا، وهكذا تجد أسماء من أهم الكتاب داخل الدائرة القريبة من نادية، برغم تباين أفكارهم ومشاربهم، ومع كامل الشناوى، ستلمح أسماء إحسان عبد القدوس ومصطفى أمين ويوسف إدريس وسعد الدين وهبة وجليل البندارى ومحمود السعدنى وغيرهم، نادية بطبعها وفى تلك المرحلة من العمر كانت تُنصت أكثر مما تتكلم، فهى تسعى أساسا لكى تزداد فهما وإدراكا لكل ما يجرى حولها.

تتجاوز دائما نادية لطفى دائرة النجمة المشغولة بمعاركها الخاصة، وبمكانتها على الخريطة، لم تكن ممن يعتبرون أنفسهم فى سباق مع الآخرين، ويجب أن يصل بسرعة للمركز الأول متقدما كل الصفوف، ولا يكتفى بهذا القدر بل يضع العراقيل لمن يجده يحاول الاقتراب، فقط أكرر يحاول، هى تعلم جيدا أن القمة تتسع بل تنتظر كل من يستحق، وأن البصمة الخاصة تظل بصمة خاصة، فلا أحد يصلح أن يكون بديلا لأحد، طالما كان لديك ما تمنحه، ستظل فى الدائرة.

نادية حاضرة بقوة فى كل تفاصيل الحياة، على كل المستويات ومختلف الأصعدة ستجدها بدون أن تتعمد ذلك، الإنسان المصرى والعربى وهمومه هى الزاوية التى تُطل منها، لتقفز بعيدا عن الدائرة التقليدية التى يُكبل عادة فيها المبدع ليصبح منتهى طموحه وجُل اهتمامه، أن يمنح البريق فقط لاسمه، قفزت بل قل تمردت أو الأصح أن تقول نادية أرادت أن تمنح الإنسان بداخلها المقومات اللازمة لكى يعيش كما يريد، لا كما هم يريدونه أن يعيش، وهكذا صارت نادية دائما هى بولا محمد شفيق، بعيدا تماما عن أى مكياج، إنه الاسم الحقيقى والذى يناديه بها الأصدقاء المقربون، نادية لطفى هى فقط التى نراها على الشاشة الفضية، ونقرأ اسمها على «الأفيشات» و«التترات»، تلك حكاية أخرى، لا تدخل أبدا فى صراع مع بولا محمد شفيق.

بولا اعتركت الحياة فى دُنيا الله الواسعة، فلم يقيدها «كادر» العدسة ولا بريق الشاشة ولا تصفيق الجماهير، عندما وقفت مرة واحدة ويتيمة على المسرح لتؤدى دور «بمبة كشر» التى أخرجها حسين كمال، أيقنت أنها يجب أن تظل مرة واحدة ويتيمة ولن تكررها، وتتعجب برغم النجاح الطاغى الذى حققه العرض المسرحى، إلا أن نادية لطفى قاومت إلحاح صديقها المنتج سمير خفاجة، رفضت أن يتم تصويرها تليفزيونيا، وعندما سألتها لماذا؟ أجابتنى ما عنديش رأى قاطع ولا سبب مباشر، ولكنى فقط وقتها قلت إن تاريخى الذى أود أن يعيش للزمن القادم هو السينما، وليس المسرح، الذى له فنانوه، فلماذا أقحم نفسى بينهم؟

منحها الله حضورا وألقا إلا أنها لم تكتف بهذا القدر، اشتغلت أكثر على الفنانة بداخلها، فهى تعلم كما يقولون أن الآلهة تمنح الموهوبين مطلع القصيدة، وعليهم أن يكملوا الباقى، فقدمت لنا أروع القصائد السينمائية فى فن أداء الممثل، منهجها على الشاشة ليس فقط عنوانا مضيئا للتمثيل، بل صار هو فى الكثير من الأحيان يساوى فن التمثيل، العديد من الشخصيات الدرامية صارت وكأنها «الكتالوج» الذى ينفذه بدقة كل من جاء بعدها على الشاشة ليؤدى شخصيات مشابهة دراميا فكانت هى المرجعية والمرشد.

احتلت فى نهاية الخمسينيات مكانة استثنائية على الخريطة بعد جيل ذهبى من علاماته فاتن وماجدة وشادية وسميرة وهند، لتستطيع نادية ومعها رفيقة المشوار سعاد حسنى أن يثبتا أن عنقود الذهب لا يتوقف عند حدود جيل، النجومية ليست قرارا شخصيا، بل هى منحة من السماء، على الإنسان الحفاظ عليها، وهى لا تكتب كلمة النهاية بالتوقف عن العمل، ولكن فقط يحدث ذلك عندما تذبل الومضة الداخلية، وهكذا غابت عقود عن الشاشة ولكن الومضة بداخلها لم تفقد الإشعاع، فهى دائما فى حالة ألق.

نادية تتحمس للفكرة والهدف قبل الدور، مثلا فى عز نجوميتها نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، قرأت بحدسها أن أهم فيلم مصرى وعربى- وهذا هو ما أكدته كل الدراسات والاستفاءات اللاحقة- سيصبح هو «المومياء» لصديقها الرائع شادى عبد السلام، طبعا هى لم تتحمس فقط لإدراكها أنه الأهم أو سيحتل هذه المكانة، فهذا كله مجرد توقع، قد لا تؤكده الأيام، ولكنها فقط اقتنعت تماما بموهبة شادى وسعة أفقه ورحابة خياله وعمق مخزونه الفكرى، وصدقه الشخصى والفنى، وتفرده كمبدع، الفيلم كان معرضا للتوقف لأسباب متعلقة بالتسويق، فلا يوجد اسم نجم «سوبر ستار» يتصدر الأفيش، حيث إن مؤسسة السينما التى كانت هى المسئولة فى تلك السنوات عن الإنتاج، أو للتوثيق التاريخى القسط الأكبر من الإنتاج السينمائى أنتجته الدولة، خاصة تلك الأفلام التى تحمل مغامرة فنية، والتى يتحرج القطاع الخاص من الحماس لها، وجدت أن تسويق الفيلم فى الداخل والخارج معرضا للفشل وبالتالى تراجعوا عن الإنتاج، تحمست نادية للتجربة وكانت، فى هذا الزمن نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات، هى الاسم الأكثر جاذبية، والقادر أيضا على تسويق الشريط السينمائى، وأدت نادية دورا صامتا فى مساحة زمنية لا تتعدى بضع دقائق ليصبح واحدا من أهم أدوارها، بل أهم فيلم عربى قدمته كل الشاشات، وذلك طبقا لاستفتاء أجراه مهرجان «دبى» 2013.

العطاء الفنى يمكث فى الوجدان وتتناقله الأجيال عبر الشاشات، وما نجحت الفضائيات فى تحقيقة، أنها احتفظت بالمادة الفيلمية وصارت ملكا للناس، وهكذا أعاد الجمهور مجددا المشاهدة والتأمل بل الاكتشاف أيضا، لما قدمته لنا نادية من سحر فى تفاصيل الأداء، واستحقت بين عدد محدود جدا، جائزة الدولة التقديرية فى فن التمثيل، تظل تلك من الحالات النادرة فى دُنيا الفنون، التى تمنح للمؤدى ممثلا كان أو مطربا، جائزة عن إبداعه فى توصيل الشخصية الدرامية، المؤدى عادة يتشككون فى كونه مبدعا أصلا، وهو ما استتبع تدخل الرئيس جمال عبد الناصر شخصيا، حتى يتم منح أم كلثوم جائزة الدولة التقديرية مطلع الستينيات من القرن الماضى، لأنهم قالوا إن وراء أغانيها شاعر بحجم أحمد رامى وملحن بقامة رياض السنباطى، وهى فقط كانت الجسر لتوصيل تلك الكلمات والنغمات، متجاهلين أن شحنة الإحساس الكامنة هى التى تمنح الخلود، للكلمة واللحن، ولولا تلك اللمسة السحرية لأم كلثوم ما رشقت تلك الأغانى فى قلوبنا، وهو ما ينطبق قطعا على نادية لطفى بكل ومضاتها الخاصة ولمساتها السحرية.

فهل تنسى «لويزة» فى «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين، و«فردوس» فى «أبى فوق الشجرة» لحسين كمال، و«العالمة زوبا» فى رائعة حسن الإمام «قصر الشوق».

هل تتخيل «الأطلال» بدون صوت أم كلثوم أو «السمان والخريف» بدون نادية لطفى «ريرى»!.

أكثر من جهة نقابية ورسمية رشحت بقوة نادية لطفى على رأسها نقابة الممثلين وأكاديمية الفنون، لنيل الجائزة التقديرية، مع يقينى أننا لو فتحنا باب التصويت للجماهير لحُسم الترشيح النهائى لصالحها ومن الجولة الأولى وبالأغلبية المطلقة، التقديرية ذهبت لمن تستحقها.

إنها «نادية ولطفى» فى نفس الوقت، كما كان يُطلق عليها الشاعر والكاتب الكبير كامل الشناوى، فهى تتمتع برقة الأنثى «نادية» وصلابة الرجال «لطفى»، وقبل وبعد كل ذلك الفيض الإنسانى الذى يسع العالم كله.

وعندما أصبحت فى عام 2018 هى عنوان مهرجان الإسكندرية، فهى قطعا جائزة خاصة جدا ومستحقة لعطاء لم يتوقف، فهو يبعث من جديد وفى كل لحظة، ليؤكد على تفردها، المهرجان أطلق على دورته اسمها لتحتل الغلاف، وهى منحت المهرجان أيضا جائزة خاصة، اسمها مقترن بالمهرجان فى حقيقة الأمر صار هو الجائزة.

أتيح لى أن التقى قبل أكثر من 30 عاما فى العديد من البرامج والندوات والمهرجانات، بنادية لطفى، ولم تكن كلها بهدف العمل الصحفى، بل كان آخر ما يعنينى هو أن أوثق الحديث أو الندوة فى حوار أو مقال أو تقرير، ولكن هى نادية الحاضرة دائما، أشرع فى إقامة ندوة لمواجهة الإرهاب أجد اسم نادية يتصدر المشهد، أريد أن أعرف كيف يختار فى عالمنا العربى الفنان موقفه السياسى، وهو ليس أمامه من اختيارات متاحة سوى أن يتبنى الموقف الرسمى للدولة، لا أجد أمامى سوى نادية لطفى التى تقدم الإجابة، فهى لا تعرف سوى أن تنحاز لضميرها فتختار دائما الوطن، وليس الشخص، لتعلن ولاءها الدائم للحرية.

أتذكر عندما تقرر تكريم سعاد حسنى فى مهرجان القاهرة قبل رحيل سعاد بعامين فقط، طلبت سعاد من صديقتها نادية أن تتسلم بالنيابة عنها وسام المهرجان، لتواجدها فى لندن للعلاج، فهى الأقرب إليها، برغم كل المحاولات لصناعة صراع بينهما، إلا أن نادية، كانت تعلم أنها لعبة صحفية للإثارة، فلم تسمح لأحد بأن يلعب على مشاعر الحب والتقدير التى تكنها لسعاد حسنى، بعض ورثة سعاد، حاولوا أن يتزايدوا فى الزج باسمها فى قضية قتلها أو انتحارها، فأغلقت تماما هذا الباب، وقالت سعاد لم تخبرنى بأى مخاوف، تلقتها من أجهزة حساسة أو غيرها، سعى البعض فى ظل الكثير من اللغط الذى أحاط برحيل سعاد، الدفع بنادية لطفى، أو حتى الإشارة إلى أنها لديها الكثير من الأسرار الخاصة، التى باحت بها سعاد وعن طريقها نكشف غموض الجريمة، إلا أنها قالت أبدا لم يحدث، سعاد لم تقل لى شيئا خاصا يصلح اعتباره مفتاحا لحل اللغز.

نادية لا تتحدث إلا عن الحقائق التى لامستها وليس مجرد حكايات مثيرة، فهى على عكس الكثيرين، ممن صاروا شهودا على الماضى، فقرروا أن يكتبوا الماضى وفقا لأهوائهم وأيضا مصالحهم، ليصبحوا هم فى البؤرة، قالت لى أبدا لم أتعرض لمضايقات أو تضييقات أمنية فى مرحلة الستينيات، وعندما سألت نادية هل حاولت الأجهزة الحساسة فى الدولة استقطابها؟ أجابت أبدا لم يحدث أن طُلب منى شيء مباشر أو حتى غير مباشر، وأضافت: أنا فقط أتحدث عن تجربتى، ولا يعنى هذا أننى أكذب روايات الآخرين.

نادية لطفى، فى كل مواقفها وأحاديثها، هى الصدق يتحرك على قدمين سواء أمام أو خلف الكاميرا، ولهذا كانت وستظل هى واحدة من الاستثناءات القليلة جدا فى تاريخنا الفنى، ومهما قلنا نكتشف أن هناك لا يزال الكثير، الذى لم نقله.

تلك كانت بعض ومضات حاولت أن أمسك بها، وما قدمته عنها اعتبره مجرد شروع لأطل بزاوية على نادية لطفى.

عطاؤها الفنى والإنسانى يستحق أن نعيد تأمل العديد من التفاصيل حتى نستطيع مجرد الاقتراب من سيدة اللمسة الساحرة فى السينما المصرية، حاولت الاقتراب، وأعدكم بتكرار المحاولة والاكتشاف لهذا النبع الذى لا ينضب من الإبداع الفنى والإنسانى!