يا وزان زن وأرجح

إسلاميات

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


من طبيعة البشر التي جبلت عليها نفوسهم، استنظاف حقوقهم، والنقص من حقوق غيرهم، ولهذا جاء الإسلام بالالتفات إلى هذا المعنى، وضرورة التركيز على الوفاء بالواجبات، ولم يمنع من المطالبة بالحقوق، ولكن لما كان التفريط المعتاد هو في إنقاص حقوق الآخرين، لا في التفريط في حقوق النفس، باعتبار أن السعي وراء الحقوق طبيعة بشرية، فجاء الاهتمام بحقوق الآخرين، لدرجة الأمر بالاحتياط فيها، وتجاوز العدل معهم إلى الإحسان إليهم؛ تحقيقا لهذا المعنى العظيم.

فقد روى ابن ماجة وغيره عن سويد بن قيس، قال: جلبت أنا ومخرفة العبدي بزا من هجر، فجاءنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فساومنا سراويل، وعندنا وزَّانٌ يزِنُ بالأجر، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- : «يا وزَّانُ زِنْ وأرْجِح» [قال الألباني]: صحيح.

فقد زادهم النبي -صلى الله عليه وسلم-في الثمن تحقيقاً لهذا المعنى، ولا غرابة فقد كان -صلى الله عليه وسلم- من أوفى الناس، وأكملهم سماحة، في بيعه وشرائه، يوفي بالواجب ويزيد عليه.

وإنما قال له "زن"؛ لأنهم كانوا فيما سبق يتعاملون بالنقود وزناً لا عددا، وإن كانوا يتعاملون أيضا بها عددا لكن الكثير وزنا، كما جاء في الصحيحين: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة»  فوزن له النبي _صلى الله عليه وسلم_ وأرجح يعني زاده أكثر مما يستحق.

قال ابن الأمير الصنعاني: وفيه الندب إلى إرجاح الوزن، وهو الزيادة على القدر، قيل فيه فائدتان: الأولى لأنه لا تتحقق براءة الذمة في العدل نفسا إلا بالإرجاح، فيصير قليلُ الرجحان في طريق الورع والعدل كالواجب، الثانية: أنه إحسان إلى من له الحق وخياركم أحسنكم قضاء، وفيه صحة هبة المجهول المشاع فإن الرجحان هبة وهو غير معروف القدر.
 

ولذلك جاء التوجيه عاما في حديث آخر رواه البيهقي عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وزنتم فأرجحوا»، وهو من باب الاحتياط في باب الحقوق وقد يكون واجبا؛ لعظم شأنها عند الله، سيما فيما لا يتميز فيه حد العدل، فيزيد في الأداء قدرا يندفع به احتمال النقص، والوقوع في التطفيف، كالمتوضئ يغسل جزءا من مقدم رأسه تحقيقاً لاستيعاب غسل وجهه، ولها نظائر كثيرة.

وقد جاء هذا التوجيه النبوي تنبيها على خطورة التطفيف وعظيم جرمه، ويتبن ذلك من خلال العقوبة المترتبة عليه في الدنيا قبل الآخرة؛ فهو سبب من أسباب القحط ومنع الرزق وضياع البركة من الأرض.

روى الطبراني بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين- أي بالفقر». 

ونبهت آية المطففين إلى قبح انتقاص الحقوق وخسرانها، وأن المطالبة بوفاء كيله وحقه مع نقص حق غيره، فهو ضمُّ جُرْم إلى جرم، وخطيئة إلى أختها، وهو ما يسمى (بالازدواجية في معيار التعامل) أو (الكيل بمكيالين)، وهذا من التعاملات المذمومة، الموغلة في الجور والظلم.

فالتطفيف سيئة النفوس الأنانية، والأرواح الشحيحة التي توفي كيلها، وتنقص كيل غيرها، وترى الحق، وتعمى عن الواجب، وتعامل الآخرين بالنقص والبخس، وتطلب لها الكمال والوفاء، وتلك طبائع الشح والأثرة التي تحذرنا منه الشريعة.

 وسبب نزول الآية وإن كان في تطفيف الكيل والوزن، كما روى ابن ماجة وحسن إسناده غير واحد من المحدثين، عن ابن عباس، قال: " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله سبحانه: {ويل للمطففين} [المطففين: 1] فأحسنوا الكيل بعد ذلك ".
إلا أن العلماء عمموا المعنى ليشمل كل تعامل فيه نقص من حقوقهم الحسية والمعنوية، وكما قال الإمام مالك: "لكل شيء وفاء وتطفيف"، فيسري هذا في تعاملات الناس على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، حتى جعل منه العلماء ما يكون بين المتناظرين في مسائل العلم من الاعتداد بحجته وإهمال حجة خصمه.

قال السَّعديُّ في تفسير هذه السورة: "دلَّت الآية الكريمة على أنَّ الإنسان كما يأخُذ من النَّاس الذي له، يجب عليْه أن يُعطيهم كلَّ ما لَهم من الأموال والمعاملات، بل يدخُل في عموم هذا: الحُجَج والمقالات، فإنَّه كما أنَّ المتناظرين قد جرت العادة أنَّ كلَّ واحد منهما يحرص على ما لَه من الحجج، فيجب عليه أيضًا أن يبيِّن ما لخصمه من الحُجَج التي لا يعلمها، وأن ينظُر في أدلَّة خصمه كما ينظر في أدلَّته هو، وفي هذا الموضع يعْرف إنصاف الإنسان من تعصُّبِه واعتسافه، وتواضعه من كبره، وعقله من سفهه، نسأل الله التَّوفيق لكلِّ خير".اهـ.