كلمة رئيس "الإنجيلية" في احتفال الطائفة بعيد الميلاد

أقباط وكنائس

الدكتور القس أندريه
الدكتور القس أندريه زكي


ألقى القس أندريه زكي، رئيس الطائفة الإنجيلية، كلمة في حفل الطائفة بعيد الميلاد، اليوم الجمعة بكنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية.

وجاءت نص الكلمة كالآتي: 
عامٌ جديدٌ يخطو إلينا بذِكرى ميلادِ السيدِ المسيحْ، فهيَ مناسبةٌ مُلهِمةْ، دائمًا ما نجدُ فيها جانبًا مضيئًا يفتحُ عقولَنا على آفاقٍ جديدةٍ. ففي هذهِ الأيَّامِ المجيدةِ نجدُ فرصةً جليلةً للتقاربِ وتبادلِ التهاني التي تعبِّرُ عن مشاعرَ صادقةٍ، لذا يُسعِدُني أنْ أهنِّئَكُم جميعًا بعيدِ الميلادِ المجيدْ.
الإخوة والأخوات
أحدِّثُكُم اليومَ عنِ الميلادِ ومجتمعِ المتانةِ والمرونةْ Resilience Community
نرَى في أحداثِ الميلادِ نماذجَ مضيئةً لأشخاصٍ انعكستْ في سلوكِهم سماتُ مجتمعِ المتانةِ، وتُلهمُنا ردودُ أفعالِ كلٍّ منهم تجاهَ طفلِ المذودْ؛ فمِنْهُم منِ استطاعَ صناعةَ القرارِ في وقتٍ مناسبٍ رغمَ التحدِّياتِ التي واجهَهَا، مِنْ خلالِ امتلاكِه لأدواتِ المعرفةْ، ومنهُم منِ استوعبَ الجميعْ، ومنهُم منْ آمَنَ بالتكامُلِ. وكلُّ هذهِ سماتٌ رئيسيَّةٌ لمجتمعِ المتانةِ والمرونةِ. 

القِدِّيسةُ مَريمُ العَذرَاءْ
فتاةٌ في إحدى قرى فِلَسْطينْ تأتيها بشارةٌ منَ السماءِ بأنها ستحبَلُ وتَلِدُ دُونَ زواجْ؛ كارثةٌ بمقاييسِ مجتمعاتِنا الشرقيَّةِ، وتحدٍّ خطيرْ قدْ يكلِّفُها حياتَها، وَضَعَها هذَا أمام لحظةٍ حاسمةْ، قرارٍ صعبْ، لكنَّها اتخذتْ قرارَها بقبولِ بشارةِ الملاكِ، وقالتْ بثقةْ: "هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ". امتلكتْ القِدِّيسةُ مريمُ العذراءُ أدواتِ اتخاذِ قرارِها المبنيْ على الثِّقةِ في اللهِ والتواضُع أمَامَ أمرِه. هذَا الموقفُ الذي تحلَّتْ فيهِ السيدةُ العذراءُ بالمتانةِ في وجهِ العاداتِ والتقاليدِ والشكلِ الاجتماعيّ جعلَ القِدِّيسةَ مريمَ العذراءَ مُطوَّبةً في الكتابِ المقدسِ وفي الكتبِ السماويَّةِ.

يُوسُفُ النَّجَّارْ
رجلٌ يهوديٌّ تقيٌّ، وجدَ الفتاةَ التي سيتزوَّجُها حاملًا! موقفٌ في غايةِ الحساسيَّةِ والتَّعقيدِ؛ مشكلة بكلِّ ما تحمِلُه الكلمةُ من معنى خصوصًا في مجتمعِ الشرقِ الأوسطْ. ولكونِ يوسفَ رجلًا بارًّا أرادَ تخليتَهَا سرًّا بدلًا من فَضحِها. لكنَّ الأوضاعَ انقلبتْ؛ إذْ ظهرَ لهُ ملاكٌ قائلًا: "لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ". وهُنَا وُضِعَ يوسفُ أمامَ اختيارَين كِلَاهُما صعبٌ، لكنه أظهرَ هذهِ المتانةَ والمرونةَ بأنْ قَبِلَ أنْ يكونَ تحتَ مساءلةٍ مِنَ النَّاس. اتَّخذَ يوسُفُ النجارُ قرارًا مبنيًّا على المعرفةِ وعلى الثَّقةِ في رسالةِ الله رغمَ أنَّ السماءَ لم تتواصلْ مع الأرض قبلَ ذلكَ الوقتِ بحوالي أربعمائةِ سنةْ، وهذا رُبَّما كانَ يُعَدُّ سببًا قويًّا يجعلُ يوسُفَ يرفضُ الرسالةَ، لكنَّهُ قَبِلَ بالإيمانِ وبحساسيةٍ روحيَّةٍ رسالةَ السماءِ الواضحةَ التي نقلَهَا لهُ الملاكُ بأنَّ يسوعَ المسيحَ هو المولودُ منَ الروحِ القُدُسْ. فالمَتَانَةُ والصَّلَابةُ تَتَطَلَّبُ حَسَاسِيَّةً رُوحِيَّةً.

الرُّعَاةْ
وأيضًا نَرَى رعاةً يسهرونَ طوالَ الليلِ لحراسةِ أغنامِهم، مَصدَرِ رِزقِهِم، هؤلاءِ أيضًا تتجسَّدُ في قصَّتِهِم لمحةٌ من لمحاتِ المتانةِ. يَظهَرُ لهُمْ ملاكُ الربِّ مبشِّرًا إيَّاهُم بميلادِ الطفلِ يسوعْ. ويُخبِرُنا الكتابُ المقدَّسُ أنَّهُم خافوا خوفًا عظيمًا. كانَ يُمكِنُ أنْ تَنتهيَ قصةُ هؤلاءِ الرعاةِ عندَ هذهِ النُّقطةِ لو كانوا تَجاهَلُوا هذهِ الرسالةَ. لكنْ بعدَ مُضِيّ الملائكةِ قالوا لبعضِهم: "لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ". هذَا القرارُ كانَ بمثابةِ ممارسةٍ لمبدأِ المتانةِ والمرونةِ؛ إذِ اتَّجَهوا نحوَ الاستيعابِ بقبولِ رسالةِ السَّماءِ لهُم وليسَ الاستبعادَ الذي كانَ سيُوقِفُهُم عندَ نفسِ النقطةْ.

المجُوسْ
تُخبِرُنا روايةُ ميلادِ يسوع في إنجيلِ متَّى عنْ زيارةِ المجوسِ الثلاثةْ، وهيَ منْ أشدِّ الأحداثِ اللاحقةِ للميلادِ ارتباطًا بهِ، ولا يُعرَفُ منَ الإنجيلِ كمْ عَددُهُم، لكنَّ التقليدَ اعتَبَرَهُم ثلاثةً؛ نظرًا للهدايا الثلاثِ التي قدَّمُوها (الذَّهَبُ والبَخورُ والمرُّ)، بعدَ أنْ سَجَدُوا لهُ. تُشيرُ التقاليدُ القديمةُ إلى أنهم جاؤوا منَ العراقِ أو إيرانْ حاليًا، وأنُّهُم كانُوا يَدينونَ بالديانةِ الزَّرَادِشْتِيَّةْ. وقد قادَهُم نجمٌ لامعٌ منْ بلادِهِم إلى موقعِ الميلادْ. 
ونَرَى في قدومِ المجوسِ معَ الرُّعاةِ إشارَتَيْنْ؛ الأولى لاجتماعِ الأغنياءِ والفقراءْ حولَ يسوعْ، والثانيةُ اجتماعُ اليهودِ والوثنيينْ حولَهُ أيضًا. معَ العلمِ أنَّ الوَثَنِيّينَ في الثقافةِ اليهوديَّةِ كانوا يُعدُّونَ نَجِسِينَ، وهكذَا نرَى في هذا مقاومةً صلبةً تؤكدُ على مبدأِ المساواةْ؛ فرسالةُ الإنجيلْ للجميعْ، دونَ تفرقةٍ على أيِّ أساسْ، رسالةُ الإنجيلْ عُموميَّةٌ لكلِّ البشرْ. كما يُبيِّنُ لنَا ذهابُ المجوس كيفَ كانتْ لهم أدواتُ المعرفةِ التي تقودُهم للطفلِ يسوعْ، وكيف كانتْ لديهِم المتانةُ التي منحَتْهمِ القدرةَ على اتِّخاذِ القرارِ بعدمِ الرجوعِ للمَلِكْ، وكانتْ لديهُم أيضًا المرونةُ في تغييرِ المسارِ بناءً على رسالةِ السَّماءْ. 

هؤلاءِ المجوسُ اللَّذِينَ قَرَّرُوا عَدَمَ العَودَةِ إلى القَصْرِ، دَفَعُوا المَلِكَ إلَى قتلِ كلِّ الأطفالِ ليَحمِي كُرسِيَّهُ. وهنَا وفي خِضَمِّ مشاعرَ متضاربةٍ قالَ ملاكُ الربِّ ليُوسُفَ: "قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ". ويَا لهُ منْ قَرارٍ صَعبْ على يُوسُفَ والقِدِّيسةِ مَريَمْ! تركُ بلادِهم، بيوتِهم، تركُ كلِّ شيءٍ وراءَ ظهورِهم والذِّهابُ لأرضٍ مصرَ. هذَا القرارُ تَتَجَلَّى فيهِ أعلى درجاتِ المتانةِ والمرونةِ؛ إذْ تخطَّى يوسفُ حواجزَ خوفِه، مؤمنًا بقدرتِه وقدرةِ مريم على إدارةِ الأزمةْ. وأيضًا كان ليوسف حساسيةٌ روحيةٌ جعلتْه لا ينسَى دعمَ الله حتَّى في أصعبِ المواقفْ.