من الصبر النبوي

إسلاميات

أرشيفية
أرشيفية


من المعروف أن البلاء ليس قاصرًا على أحد من البَشر، وإن تباينت صوره وتفاوتت مراتبه، ومنازل الناس فيه تبعاً لذلك، فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: (قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، فيُبْتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة، ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة) رواه أحمد.

والصبر على البلاء ـ بكافة صوره ـ خُلُق من جملة أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم العظيمة، فقد صبر على ما تعرض له من أذى، سواء من الكفار أو المنافقين، أو بعض الأعراب من المسلمين، وتحمل ذلك الأذى في سبيل تألف قلوب الناس، واستمالتهم إلى الإسلام، امتثالاً لقول الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}(المعارج:5)، ولم يكن صبره صلى الله عليه وسلم مقتصراً على أذى الكفار والمنافقين وبعض الأعراب من المسلمين، بل شمل الصبر كذلك على مشاقِّ الحياة، والابتلاءات المؤلمة من مرضٍ وموت ولد ..
 
والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف والأمثلة الدالى على جميل صبره صلى الله عليه وسلم، ومنها:

1ـ صبره صلى الله عليه وسلم على إيذاء الكفار :

لاقى النبي صلى الله عليه وسلم أذى شديداً من كفار قومه، فاحتمل ذلك وصبر عليه، ولم يتعجل هلاكهم، ولم يدع عليهم بالاستئصال رغم تكذيبهم وإيذائهم له، بل رجا الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله ولا يشرك به شيئا. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب (ميقات أهل نجد)، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟ إن شئتَ أن أُطبق عليهم الأخشبين (الجبلين)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا) رواه البخاري.

2 ـ صبره صلى الله عليه وسلم على إيذاء المنافقين :

صبر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء المنافقين له في المدينة المنورة صبراً شديداً، لأنهم كانوا يزعمون ويُظْهِرون الإسلام، وهم في الحقيقة يبطنون الكفر، ويتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويثيرون الخلاف والنزاع بين المسلمين، ويخططون للقضاء عليهم، إلى كلام هؤلاء المنافقين في عرضه صلى الله عليه وسلم كما حدث في غزوة بني المصطلق (المريسيع) التي أشاعوا فيها الإفك والكذب على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حتى وصل الأمر إلى أن قال عمر رضي الله عنه عن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول: (يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دَعْه (اتركه)، لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) رواه البخاري. قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم (دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الحلم، وفيه ترك بعض الأمور المختارة والصبر على بعض المفاسد خوفاً من أن تترتب على ذلك مفسدة أعظم منه، وكان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس ويصبر على جفاء الأعراب والمنافقين وغيرهم، لتقوى شوكة المسلمين، وتتم دعوة الإسلام، ويتمكن الإيمان من قلوب المؤلفة، ويرغب غيرهم في الإسلام، وكان يعطيهم الأموال الجزيلة لذلك، ولم يقتل المنافقين لهذا المعنى ولإظهارهم الإسلام، وقد أمر بالحُكم بالظاهر والله يتولى السرائر".

3 ـ صبره صلى الله عليه وسلم على إيذاء بعض المسلمين :

صبر النبي صلى الله عليه وسلم على إيذاء وغلظة بعض الأعراب من المسلمين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه جبذه شديدة حتّى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد مُرْ لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ ضحك، ثمّ أمر له بعطاء) رواه البخاري. 
كما صبر صلى الله عليه وسلم على إيذاء بعض أصحابه مثل مسطح وغيره ممن خاض في عرضه في حادثة الإفك تأثراً بالمنافقين.

4 ـ صبره صلى الله عليه وسلم عند المرض :

عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحداً أشد عليه الوجع (المرض) من رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك (يتألم من الحمى)، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكاً شديداً, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل (نعم)، إني أُوعك كما يوعك رَجُلان منكم، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله بها سيئاته كما تحط (تسقط) الشجرة ورقها) رواه البخاري.

5 ـ صبره صلى الله عليه وسلم على موت الحبيب والولد : 

مات عمه أبو طالب الذي كان يحوطه برعايته ويحميه من تسلط قريش عليه، وكان يأمل في إسلامه ولكنه مات على الكفر، وتوفيت زوجته خديجة رضي الله عنها التي كانت عوْناً له بنفسها ومالها، وقتِل عمه حمزة رضي الله عنه الذي كان يحبه حباً شديداً، وتوفي أولاده السبعة كلهم في حياته إلا فاطمة رضي الله عنها، وقد توالى موتهم واحداً تلو الآخر، فصبر صبراً جميلاً، حتى أُثر عنه يوم موت ولده إبراهيم قوله: (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري. قال المناوي: "فيه الرخصة في البكاء بلا صوت والإخبار عما في القلب من الحزن .. ودمع العين وحزن القلب لا ينافي الرضى بالقضاء، وقد كان قلبه صلى الله عليه وسلم ممتلئاً بالرضى". 

6 ـ صبره صلى الله عليه وسلم على الفقر ومشاقِّ الحياة : 

عن عروة رضي الله عنه أن المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: (والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال - ثلاثة أهِلَّة في شهريْن - وما أُوقِد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قال: قلتُ: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم من ألبانها فيسقيناه) رواه البخاري، وفي رواية لمسلم في صحيحه قالت: (إن كنا آل محمد صلى الله عليه وسلم لنمكث شهرًا ما نستوقد بنار، إنْ هو إلا التمر والماء). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من طعام ثلاثة أيام حتى قُبِض (مات)) رواه البخاري.
وأما فراشه صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه فيقول عمر رضي الله عنه: (إنه لعلى حصير ما بينه وبينه شيء، وتحت رأسه وسادة من أدمٍ حشوها ليفٌ .. فرأيت أثرَ الحصير في جنبه فبكيت، فقال صلى الله عليه وسلم: مَا يُبْكِيك؟ فقلتُ: يا رسول الله، إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت رسول الله، فقال: أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة) رواه البخاري.

لقد كانت حياة نبينا صلى الله عليه وسلم مليئة بالصبر والمصابرة، ولم يزل عليه الصلاة والسلام في صبرٍ جميل لا ينقطع حتى آخر لحظة في حياته، وما ذكرناه ما هو إلا بعض نماذج وصور من صبره صلى الله عليه وسلم، الذي هو من جملة شِيَمِه النبيلة وأخلاقه العظيمة التي أثنى عليها ربه تبارك وتعالى فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم:4).