د. رشا سمير تكتب: "فى ذكرى رحيل أديب نوبل" همس النجوم ..محطة قطار إبداع نجيب محفوظ الأخيرة

مقالات الرأي



يجلس الكاتب بين أوراقه مُحتضنا قلمه، يفكر قبل أن يروى ويرقب قبل أن يصبح شاهدا على العصر، يختزل أفكاره فى سطور ومواقفه فى طلقات من الحبر.

فالكاتب صناعته الكلمة وتجارته الفكرة ومحصوله قراء بذر فى عقولهم أفكاره ليحصد من أفئدتهم الإعجاب والتقدير، وكلما حقق الأديب نجاحا بحث عن آخر، وكلما حصل على جائزة تمنى الأخرى، وكلما مشى فى طريق بحث عن بديل.

وفى نهاية الرحلة يجلس مثل الكاهن فى ذلك الكهف البعيد، يلملم أوراقه المطبوعة وقصاصات من الصُحف وأغلفة إبداعاته ليغزل منها ميراثا يتركه لمن يأتون من بعده ويسكنون تلك المغارة البعيدة، مغارة الإبداع.

1- فى ذكرى أديب نوبل

منذ يومين، وبالتحديد يوم 11 ديسمبر، هلت علينا ذكرى ميلاد الكاتب الراحل نجيب محفوظ، أديب نوبل، ابن الجمالية، المصرى الذى صنع من تاريخ الأدب المصرى قلادة توج بها محبوبته مصر أمام العالم.

نجيب محفوظ لم يكن كاتبا عاديا، فهو روائى بمذاق الاختلاف والتفرد، مذاق الحارة وفتواتها ونسائها الفاتنات، ترك لنا إرثا عظيما هو ثلاث وسبعون رواية وتسع عشرة مجموعة قصصية، بالإضافة إلى مجموعة من السيناريوهات التى كتبها للدراما السينمائية والتليفزيونية.

من المؤكد أن لكل كاتب محاولات عدة، قد تنجح واحدة وقد تخفق عشرات، ويرتبط النشر دائما بقناعات الكاتب ورضائه عن أعماله.

أتذكر كيف أن الكاتب الطامح أرنولد سامويلسون قام بمحاولات عديدة لمحاولة مقابلة بطله الأدبى إرنست همنجواي، آملا سرقة بعض اللحظات معه للاستفادة من تجربته فى الكتابة، فسافر متطفلًا من منيسوتا إلى كى ويست على متن شاحنة فحم.

وبغض النظر عن عدم عقلانية الرحلة، فقد انتهى به الأمر بتحقيق حُلمه والبقاء مع همنجواى لما يقرب من السنة، أصبح خلالها التلميذ الحقيقى الوحيد للعملاق الأدبي، سجل سامويلسون تلك التجربة فى نص لم يُكتشف إلا بعد وفاته عام 1981 من قبل ابنته.. ومن ثم تم نشره بعنوان (مع همنجواي: سنة فى كى ويست وكوبا).

هل كان سامويلسون ينتوى نشر تلك التجربة فى حياته؟ قد تكون الإجابة بنعم ولم يمهله القدر، وقد تكون الإجابة بلا وربما كان ينوى أن يحتفظ بالذكرى لنفسه. الوحيد القادر على الرد على هذه الأطروحة هو سامويلسون نفسه، فآه لو باحت القبور بما تحوي، وآه لو عاد الراحلون إلينا لنسألهم.

2- كنز محفوظ

هذا هو نفس السؤال الذى سألته لنفسى وأنا أقرأ المجموعة القصصية (همس النجوم)، الصادرة عن دار الساقى للنشر فى 111 صفحة من القطع المتوسط،

هى مجموعة تتكون من 18 قصة قصيرة لم يقم العظيم نجيب محفوظ بنشرها قبل وفاته، فهل كان ينتوى نشرها؟

بحسب المقدمة التى كتبها الكاتب المصرى محمد شعير فى بداية المجموعة، فقد وصف نجيب محفوظ نفسه فى إحدي الجلسات الحرافيشية الحميمة بأنه (ملك التمزيق)!

بمعنى أنه كان يجمع كل ما كُتب وكل ما يُكتب عنه، وبعدما كان يرجع إلى ما جمعه ليقلب فيه، كان يجده مكررا على نحو أو آخر..فصار يمزق كل ما يأتيه أولا بأول خشية أن يمتلئ البيت بالأوراق المعتادة، ثم بات يمزق الباقى تدريجيا بعدما يعجز عن ترتيبه.

لكن يبدو أن نتيجة حرص أديبنا المتميز على تنظيم ما نُشر وما لم يُنشر فقد وجدت ابنته أم كلثوم مجموعة أوراق كُتب عليها: (تحت التجربة: يتحدد الطول والنوع والمعالجة) ثم شطب هذه الكلمة ليكتب (قصص منشورة تمت كتابتها عام 1993-1994).

لكن هذه القصص لم تنشر وقت كتابتها، وعلى الرغم من قيامه بنشر بعضها فى مجلة نص الدنيا إلا أن هناك 18 قصة قصيرة بقيت حبيسة الأدراج.

تدور تلك القصص فى عوالم نجيب محفوظ وفى أزقة الحارات وعلى مقاهيها،

تلقفت تلك القصص أيدى القائمين على النشر فى دار الساقى اللبنانية، التى لها باع طويل فى النشر ومنافس قوى على الساحة الأدبية، خصوصا فى مجال الإبداع.

ليتحول حرصهم الشديد على نشر ما تبقى فى جعبة الأديب الكبير نجيب محفوظ إلى تحد يُحتسب للقائمين على اختيار الاعمال فى الدار، ومع ارتفاع سعر الورق والأحبار تأتى خطوة إعطاء التوزيع الحصرى فى جمهورية مصر العربية لدار أقلام عربية، وعمل طبعة زهيدة الثمن تتماشى مع الحالة الاقتصادية، هى تأكيد لحرص دار الساقى على توزيع العمل فى مسقط رأس الأديب، وهو المكان الذى وإن كان حاضرا بيننا كان سيختاره ليحمل كلماته إلى قرائه من أبناء وطنه وحارته البسيطة.

صرحت أم كلثوم ابنة الأديب بأن العرض الذى قدمته دار الساقى إليها كان أفضل العروض المطروحة، فوافقت على النشر فورا، حتى لو أن البعض من مُحبى وتلامذة نجيب محفوظ كانوا ضد خطوة نشر قصص لم يوافق هو على نشرها فى حياته!

أشعر بالسعادة لأن وزارة الثقافة على وشك الانتهاء من ترتيبات افتتاح متحف باسم نجيب محفوظ، بتكية أبو الدهب بعد اثنى عشر عاما من رحيله!، لعل هذه الخطوة تدفع الوزارة إلى الالتفات لباقى القامات الأدبية العظيمة التى كانت تعيش بيننا وتحاول الحفاظ على تراثهم الذى يتناثر مع الزمن هنا وهناك وسط غفلة من القائمين على رعاية الثقافة والمؤتمنين عليها!

3- مطاردة

هى قصة زكية، السيدة التى تعود إلى الحارة بعد غياب عام كامل، تحمل ابنها الرضيع على كتفها وتقف بالساعات تبيع الحلوى فى مكان واحد..أمام دكان المعلم عثمان!

تلك الشابة الضئيلة الهزيلة استطاعت أن تجعل المعلم عثمان يرتجف خوفا حين سألها عن أحوالها فردت: «نحن الحمد لله، لكن هذا الطفل يريد حقه الذى شرعه الله وأنت سيد من يفهم»

تصبب الرجل عرقا، وشعر أن سمعته وأسرته صارتا فى مهب الريح، هددها أنه سيخفيها ويوارى جثتها، فلم تعبأ ولم تتراجع، تدخل شيخ الحارة لإقناعها بأن ترحل وتصلها معونة شهرية، رفضت وظلت تحوم حول الدكان كل يوم، حتى قرر المعلم أن يتزوجها ويعترف بالطفل.

إنه تابلوه متحرك، يصف قوة المرأة فى أدب نجيب محفوظ، ابنة الحارة التى وإن فرطت فى عرضها تحت وطأة الظروف، فهى لن تفرط فى حق ابنها، شخوص الحارة ما زالت وستظل أبدا هى نواة قصص نجيب محفوظ من القصة القصيرة للرواية والعكس.

4- نبقة فى الحصن القديم

نبقة هو الابن الأخير لآدم السقاء، أنجبه بعد وفاة ٩ من أولاده فى الوباء الكبير،

سلمه الاب لإمام الزاوية عندما بلغ السابعة ليصبح فى خدمة الله عله يحفظه، توفى والداه قبل أن يصل إلى العاشرة.

ظل يحلم بدخول الحصن القائم فوق قبو والديه، ويقنعه الإمام بأن الوقت ليس بموسم للزيارة، يختفى الصبى ويعود بعد ثلاثة أيام ليخبر الإمام أنه كان فى ضيافة الراحلين حيث ملأوه معرفة وقدرة.

قرر نبقة منذ تلك اللحظة أن يترك خدمة الإمام، بعد أن واتته جرأة لم يتصورها أحد من قبل، وقف فى وجوه كل من بالحارة يعنفهم ويشير إلى عوراتهم ويفضح آثامهم دون خوف.

وأصبح سؤال الجميع: «من أين أتى الشاب بهذه الأسرار؟»، شعر شيخ الحارة بأنه وحده المسئول عن سلوك الشاب فذهب إليه فى محاولة لإعادته مرة أخرى للسبيل، فرفض نبقة وصرخ فى وجه الإمام:

«لم أنطق بحرف واحد كاذب، أنت لا تحترم نفسك فكيف تطالبنا باحترام القانون؟»، أخرج الشيخ عصاه وأوسع نبقة ضربا والولد يحتمل بكل جلد ولا يتزحزح عن موقفه.

قيل إن المعركة انتهت بأن الأقدام داست نبقة وقيل أن الناس رأوه يتجول فى القبو، وقيل أنه كبر وتعملق حتى وصل إلى عنان السماء ورأسه انطلقت فى الفضاء، ومازال القوم يعتقدون أنه مقيم حتى اليوم فى الحصن القديم.

الحقيقة أن تلك القصة من أجمل قصص الكتاب، فهى تحمل كعادة الأديب العظيم إسقاطاته السياسية والدينية، نبقة هو القزم الذى أخاف كبار القوم بمجرد الإشارة إلى عوراتهم.

المسئولون والحكام لا يبغون سوى السمع والطاعة، أنت توافقهم فإذن أنت معهم، وأنت تعرى سوءاتهم، إذن أنت ضدهم!، الأسطورة فى الحقيقة هى واقع قاس لا يقدر على هزيمته الكبار.

5- نهاية رحلة

رغم حجم الكتاب الصغير، الذى تمنيت ألا ينتهى سريعا، لأنه أخذنى إلى دنيا أستاذنا العظيم مرة أخرى، ارتحلت مع الشخوص إلى حارته من جديد وأخذنى بلسان الراوى العليم إلى صوته وهو يتحدث بحماس عن كتاباته.

رأيت أبطاله شيخون وزنوبة والمعلم صقر وحسن الدهشان يتحركون أمامى فى عرض حي، هكذا هى الحياة، نولد لنموت ونغفو لنحلم ونتعجل الوصول ليباغتنا الرحيل.

والحظ الأفضل دائما للمبدعين، فالموت يسرق أجسادهم ويترك كلماتهم ونغماتهم لتحيا وتبقى من جيل إلى جيل وللأبد، رحم الله أديب مصر العظيم نجيب محفوظ الذى مازال إبداعه الأدبى هو السكن لكل عشاق الكلمة.