أفراح مُلطخة بالدموع.. فساتين الزفاف الجبرية "كفن" يُهدد أحلام الفتيات (تحقيق)

تقارير وحوارات

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية


بينما تتسلل الزغاريد من بين النوافذ، وتتوج الأضواء الشارع، وتتعالى الضحكات بين الجميع، هناك غرفة مغلقة يترقب الحضور عروس خلف بابها تتزين لأسعد لحظات العمر التي تحلم بها كل فتاة، ولكنها لم تكن تنتظر هذا اليوم، تتمنى أن يتوقف الزمن عند تلك الدقائق.

أما عن فستانها الأبيض فأصبح مرصعًا بدموع ملونة تبدو آثارها جلية عليه؛ بعدما انسابت تجمع بقايا مساحيق التجميل التي لطخوا بها وجهها، فتطبق على شفتيها بقوة لتسجن صرخاتها وتكتم أنين بكائها، فلا مخرج من ظلمتها سوى الاستسلام للأمر الواقع، ليصبح هذا هو السيناريو المعتاد الذي ينهي به الآباء حياة فتياتهم.

ففي الوقت الذي تترك فيه المرأة بصمة مؤثرة داخل كافة مجالات الحياة على المستوى المهني والاجتماعي، لايزال هناك آباء يربطون بناتهم بقيود الرجعية، فيُحكموا الإغلاق على عقولهن ويغمضوا أعينهن عن الحياة، فيجعلوا منهن مجرد سلعة تباع لأفضل مشتري، ويُصدروا عليهن أحكامًا بالموت البطئ حينما يفرضوا الزواج الإجباري، الذي يعد في اعتقادهم هو الحل الأنسب لسترهن، فتحقيق السعادة لبناتهم مادة محذوفة من قوانين التربية التي أقروها دون وجه حق.

"أبويا هددني يطلق أمي"
كان أكثر ما يشغل تفكير أسماء السيد- اسم مستعار-، هو امتحانات نهاية العام التي تبدأ خلال بضعة أيام قليلة في السنة الدراسية الأولى لها بكلية الآداب، فلم تكن تعلم ما ينتظرها من خوف أكبر عليها مواجهته حينما طرق ابن عمها باب المنزل في أحد الأيام متقدمًا لخطبتها.

ولأن "أسماء" كانت شابة لاتزال تبلغ 20 ربيعًا من العمر، وتحلم ككل أقرانها بطموحات أكبر ومستقبل أفضل، رفضت الموافقة على الزواج منه، وهو ما دفع والدها لتهديدها بالطلاق من والدتها.

"وافقت عشان بيتنا ميتخربش".. فخوف الفتاة العشرينية دفعها للتفكير في مصلحة أسرتها، فاشترطت على عائلتها أن توافق على الخطبة في مقابل إنهاء دراستها الجامعية أولًا قبل الزواج.

ولكن لأن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، استغل والد "أسماء" موافقتها على الخطبة، ومنعها من الذهاب إلى الامتحانات لتتهيأ إلى الزواج، فقام بحبسها لعدة أسابيع داخل غرفة مظلمة وقطع عنها كافة وسائل التواصل مع الآخرين.

ومع مرور الوقت، لم تتحمل الفتاة العشرينية أن ينهار مستقبلها أمام عينيها، فحاولت أن تنهي علاقتها بابن عمها، ولكن الأخير رفض الانفصال عنها.

ومع محاولات "السيد" المستميتة لأشهر للتخلص من هذا الزواج، كان الرد المعتاد من والدها هو الضرب المبرح والإهانة أمام أهالي المنطقة، في رغبة منه لزرع الخوف من الفضيحة داخل نجلته الصغرى.

تروي "أسماء" أنها بعد شهر من الخطبة، استيقظت في أحد الأيام على صوت والدها يطلب منها الاستعداد لعقد قرانها في المساء، لتنهار الفتاة وتصرخ مرددة: "بلاش حرام عليك"، ولكن مع تهديدات والدها وأخيها الأكبر، لم تجد مفرًا من الانصياع خلف رغبة العائلة، فوقعت عقد الزواج لتنجو بنفسها من آلام التعذيب التي أنهكت جسدها الضئيل.

ضحية زواج مصلحة
قبل 3 أعوام، أغلقت أبواب الأمل أمام ليلى حسن- اسم مستعار، حينما أجبرها والدها على الزواج من نجل شريكه في العمل خوفًا من خسارته، إلا أنها قابلت الأمر بالرفض لصغر سنها، ولكن قسوة الأسرة كانت أقوى من قرارها.

فمع بلوغ "ليلى" عامها الـ 18، لم تتسنى لها فرصة اختيار مستقبلها وتحديد أحلامها، حيث جعلها والدها حبيسة لمصالحه الخاصة حينما انهال عليها بالضرب والتعنيف ليجبرها على الزواج من ابن شريكه، لترفع الفتاة الشابة راية الاستسلام وتتقبل الأمر الواقع.

"أنا بعيش أسود سنين حياتي".. ترددها "حسن" بينما لا تتوقف الدموع عن الانهمار من عينيها، فما أن وقعت على عقد الزواج؛ تحولت حياتها إلى جحيم بعدما اكتشفت أن الرحمة منزوعة من قلب زوجها، وأنه دائم الرغبة في إهانتها والاعتداء عليها بالضرب دون سبب مقنع.

حاولت الشابة ذات الثمانية عشر ربيعًا، أن تلجأ إلى والديها ولكن بلا جدوى، فالجميع فضل إلقاء اللوم عليها وتعنيفها، وهو ما دفعها للدخول في علاقة حب محرمة مع شاب آخر.

"خيروني بين إني أتجوزه أو يتبروا مني"
"حياتي اتسرقت مني ومحدش بيدفع التمن غيري دلوقت".. ترددها سارة أحمد- اسم مستعار، فتتحسر على الحال الذي وصلت إليه، بعدما أجبرتها أسرتها على الزواج قبل أعوام تحت التهديد.

فبالرغم من أن "أحمد" لم تكن تشعر بالقبول تجاه زوجها منذ اليوم الأول الذي التقته به، إلا أن رغبة والداها كانت فوق مشاعرها:"خيروني بين إني أتجوزه أو يتبروا مني".

ولإرضاء عائلتها، أجبرت على اختيار الزواج منه، لتدخل كابوسًا لم تكن تتخيل يومًا أنها ستعيشه، فبالرغم من مرور أكثر من 4 سنوات سنوات على زواجها، إلا أنها لم تتمكن من التفاهم معه أو الشعور باحتوائه لها: "أنا مش عارفة أتقبل الحب دا عشان من الأول كان بالغصب".

معاناة "سارة" مع زوجها ازدادت صعوبة بعدما أنجبت طفلها ذو الثلاثة سنوات، فحرصها على تنشئته في بيئة أسرية سليمة أجبرها على مواصلة حياتها الزوجية قهرًا: "مستحملة ومكملة عشان مش عايزاه يتربى وأبوه وأمه منفصلين.. بس في نفس الوقت أوقات بقول أنا كدا بموت نفسي بالبطئ".

"عاقبوني عشان حبيت"
كأس العذاب الذي ذاقته الفتيات الثلاث، مر بدوره على ولاء محمد- اسم مستعار، لتتجرع منه منذ أن خالفت تقاليد أهل الصعيد بدخولها في علاقة حب مع شاب، لتصدر أسرتها حكمها النهائي بقرار تزويجها إجباريًا.

وفي الوقت الذي بلغت فيه "ولاء" عامها الـ18، فرض عليها والدها الزواج في اعتقاد منه أنه ستر لها من فضيحة الحب، لتضطر الفتاة بعدما نالت حصتها الكافية من الضرب والقسوة لعدة أشهر، أن تقبل بالدخول إلى قفص الزوجية الذي تحول إلى سجن لا مفر منه، بعدما أزيح الستار عن الوجه الآخر لزوجها.

فمع مرور الأيام، اتضح لـ "محمد"، أن زوجها مصاب بجفاف المشاعر مما جعلها فاقدة للشعور بالاحتواء، ولم يكتف بهذا القدر؛ فارتفاع مستواه المادي كان بمثابة القيد الذي يكبل به يداها والسلاح الذي يستخدمه لإذلالها طوال الوقت.

وما زاد قيود "ولاء" التي تمنعها عن الطلاق، هو إنجابها لطفلين، جعلاها عاجزة عن الانفصال عن زوجها خاصة مع ازدياد مسؤوليات نجليها المادية والتي لا تقوى على تحملها في ظل تعنت أسرتها ووقوفهم ضدها باستمرار كنوع من الإدانة لها على أفعال الماضي.

تقديم بلاغ ضد الأب
وحول هذه الأزمة، أكد المحامي رضا البستاوي، أستاذ قانون الأحوال الشخصية، أن الإجبار على الزواج ظاهرة مخالفة للقانون، حيث أن أركان الزواج لاتكتمل إلا برضا الفتاة وموافقتها.

وأوضح "البستاوي" في تصريح خاص لـ"الفجر"، أن المأذون يعد شريكًا في جريمة الزواج إذا كان مدركًا لرفض الفتاة وأتم عقد القران.

وأشار أستاذ قانون الأحوال الشخصية، إلى أنه في حال أجبرت الفتاة على إمضاء العقد، يجب أن تتوجه على الفور لتقديم بلاغ ضد المأذون المسؤول عن عقد القران وضد والدها، لتحصل على حقها في الحماية القانونية من هذا القرار التعسفي.

الحيل غير القانونية سبب تفشي الظاهرة
ففي الوقت الذي يجرم القانون فيه ظاهرة الزواج القسري، يلجأ بعض الآباء لحيل غير قانونية بالاتفاق مع المأذون لعقد القران بالرغم من رفض أحد الأطراف وهو ما يخل بشروط الزواج المتعارف عليها، وهو ما تؤكده سناء السعيد، عضو المجلس القومي للمرأة.

وفي سياق ذلك، أوضحت "السعيد" في تصريح خاص لـ"الفجر" أن ظاهرة الزواج الإجباري تنتشر بشكل أكبر بين الفتيات القاصرات عن طريق الزواج المعلن بدون أوراق رسمية وتزوير بعض المستندات الرسمية للتحايل على القانون.

وأكدت عضو المجلس القومي للمرأة، أن هذه الظاهرة تتفشى بشكل أكبر في المناطق العشوائية، وبين الأسر ذات المستوى الثقافي والاجتماعي المتدني.

ولفتت إلى أن المجلس القومي للمرأة، يعمل على التوعية بخطورة هذه الجريمة من خلال حملات تستهدف بشكل أكبر قطاع الفتيات القاصرات، خاصة بعدما أثبتت دراسات لمركز "بصيرة" بأن هذه الفئة هي الأكثر عرضة للزواج القسري.

الزواج الإجباري "اغتصاب بموافقة الأب"
أما عن الدكتورة هالة حماد، استشاري الطب النفسي، فقد وصفت ظاهرة الزواج الإجباري الذي يفرضه الآباء على فتياتهم أنه بمثابة "اغتصاب" بموافقة الأب، حيث أن عقد القران يعد باطلًا بسبب فقدانه لأحد أهم شروطه وهي القبول من الطرفين مما يجعله غير شرعي.

وأوضحت "حماد" في تصريح خاص لـ"الفجر" أن الزواج الجبري يدمر الصحة النفسية للفتاة، حيث أنه يشكل لديها نظرة عدوانية تجاه جميع الرجال، بعدما تشعر بأن هذا القرار التعسفي قد حكم عليها بالسجن المؤبد مدى الحياة، مضيفة أن العنف الجسدي الذي تتعرض له الفتاة لإجبارها على عقد القران قد يسبب لها عقدة نفسية تقضي على مستقبلها.

 وحذرت استشاري الطب النفسي، من خطورة هذه الظاهرة التي تنتشر بشكل أكبر في الأرياف والعديد من الأقاليم، حيث أنها تسبب الاكتئاب وفقدان الإحساس بالحياة لدى الفتاة، وهو ما يؤدي بها في كثير من الأحيان إلى الانتحار.

واستشهدت الدكتورة هالة حماد، في هذا الصدد بحالات الانتحار التي شهدتها الأرياف في الماضي بسبب الزواج الإجباري، حيث كانت الفتاة تشعل النار في جسدها لتتخلص من هذه الحياة الزوجية المرفوضة.

نسبة الزواج الجبري ترتفع بزيادة العمر
ووفقًا لدراسة أصدرتها مجلة السكان بالجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في يونيو 2017 الماضي، فإنه اتضح أن نسبة الزواج الجبري ترتفع بزيادة العمر.

فبلغت نسبة الزواج الجبري في الفئة العمرية من 18 إلى 19 سنة 4.1%، بينما ارتفعت إلى 10.1% في فئة العمر من 40 إلى 44 عامًا، فيما سجلت فئة العمر من 60 إلى 64 عامًا أكبر معدل للزواج الجبري بنسبة 22.2%.



رضا الفتاة شرط للتزويج
وفي فتوى رقم 2051 الصادرة عن دار الإفتاء المصرية عام 2005م، فقد أكد فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء، أن الولاية هي حق منحته الشريعة لبعض الأفراد على غيرهم لدرء المفاسد، مضيفًا أن الشرع جعل العجز وعدم الأهلية هما سببان للولاية على الغير.

وأوضح في الفتوى التي جاءت ردًا على أحد السائلين، أن تزويج الولي للمرأة البالغة العاقلة شرط نفاذه إذنها ورضاها وبلوغ السن.