عادل حمودة يكتب: وثائق أول معاهدة صلح بين كاتب ورئيس فى مصر

مقالات الرأي



عبد الناصر:

هيكل الوحيد بين الصحفيين القادر على صياغة معلوماتى دون خطأ

عرفت أحيانا بما سينشر ولكننى لم أقرأ مقالاته أحيانا أخرى


هيكل:

سوف أبقى طول العمر مطوقا بفضلكم ورعايتكم لى ولعملى!

يكفينى للتاريخ أن يقال عنى أننى أديت دورى تحت رايتكم المنتصرة


صعب جدا توقيع معاهدة جنتلمان بين الحاكم والكاتب.. الحاكم يرى الكاتب سائسا فى إسطبل خيوله.. والكاتب يرى الحاكم موظفا عموميا يسهل نقده ومحاسبته.

ولا تستثنى الدول الديمقراطية من حالة الشد والجذب بين الحاكم والكاتب بل ربما وصلت إلى نوع من الكراهية المعلنة مثلما يحدث الآن بين الرئيس دونالد ترامب والميديا الأمريكية ولكن تظل حرية التعبير فوق رقاب الجميع.

فى الدول النامية لا مفر من التفاهم بين الحاكم والكاتب والوصول إلى حل وسط يحتفظ فيه الحاكم بهيبته ويمارس الكاتب مهنته.

ولكن تلك العلاقة المثالية لم نشهدها إلا بين عبدالناصر وهيكل.. كل منهما أعطى الآخر بقدر ما أخذ منه دون أن يفقد نفسه أو يهدد مكانته.. ونجحا معا فى إزالة سوء الفهم المزمن بين السياسة والصحافة.. إلا قليلا.

عرفنا من هيكل رؤيته لعبد الناصر لكننا لم نعرف حتى الآن رؤية عبدالناصر لهيكل.

تحت يدى مجموعة من الوثائق تنشر لأول مرة.. كشف فيها عبدالناصر عن سر انحيازه إلى هيكل.. وتجيب على أسئلة حائرة ظلت بلا إجابات شافية.. هل كان هيكل لسان عبدالناصر ومتحدثا باسمه؟.. ما الذى وجده عبدالناصر فى هيكل ولم يجده فى غيره من نجوم الصحافة فى زمانه مثل مصطفى أمين وأحمد بهاء الدين وإحسان عبدالقدوس وفتحى غانم؟.. وما الذى كسبه هيكل من عبدالناصر حتى أصبح واحدًا من أهم عشرين كاتبا فى العالم؟.

فى خريف عام 1968 شهدت المنصورة اضطرابات دامية سقط فيها أربعة قتلى.. وأمام اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى فى يوم 25 نوفمبر من ذلك العام قال عبدالناصر:

أنا الحقيقة باثق فى الأهرام.

وعبر عن عدم ثقته فى الصحف الأخرى.. لأن رؤساء تحريرها ما يقدروش يعملوا حاجة.

وأضاف: أنا أفضل أقول للأهرام موضوع اعمله وضامن مية فى المية هيطلع صح أما لو اديته للتانيين لازم اقعد ساعة لغاية ما يكتبوه ويقروه لى وأتأكد منه وبعدين برضه يطلع غلط.

تكشف هذه الواقعة عن معادلة الثقة بين الرئيس والصحفى.. الرئيس يقدم ما لديه من معلومات للصحف المختلفة ويتابع بنفسه صياغتها أكثر من مرة.. والأهرام وحده يريحه للحرفية التى يتميز بها هيكل عن غيره من رؤساء التحرير.. ودون معلومات الرئيس وحرفية الكاتب معا تصبح الكتابة اجتهادات طائشة غالبا.

ويلاحظ عبدالناصر أن هيكل يأتى إلى الأهرام فى الساعة الثامنة صباحا ويظل هناك حتى منتصف الليل ليتابع بنفسه كل ما يجرى أولا بأول بينما غيره من رؤساء التحرير ينشغلون بحياتهم الخاصة تاركين المتابعة والصياغة لمن هم أقل منهم كفاءة ومن ثم تكررت أخطاؤهم إلى حد فقد ثقة الرئيس فيهم.

وفى كثير من الأحيان كان عبدالناصر يعرف ما سينشر فى الأهرام: بكرة (هيكل) طالع بموضوع عن المنصورة بعد كده طالع بموضوع عن بتوع جامعة الإسكندرية.

بدأت تلك الأحداث فى فبراير 1968 عندما خرجت التظاهرات من جامعة القاهرة احتجاجا على الأحكام الهزيلة التى نالها قادة الطيران المتسببين فى هزيمة يونيو 1967 وما أن عاد الهدوء إليها ثمانية شهور حتى انفجرت فى جامعة الإسكندرية وامتدت إلى مدينة المنصورة.

وكون هيكل فريقا من الصحفيين الشبان لتغطية الأحداث قال عنهم عبدالناصر: والأولاد اللى هم (مكرم محمد أحمد) والجماعة دول كويسين الصراحة وبعدين أصلا كانوا منحازين للطلبة النهاردة ناقمين على الطلبة فى العملية.

ولكن رغم معرفة عبدالناصر بما سينشره هيكل أحيانا فإنه أحيانا أخرى لم يكن يعرف ما سينشره هيكل بل إنه لم يقرأ الكثير من مقالاته.

فى محضر مباحثات عبدالناصر مع الملك فيصل يوم 18 ديسمبر 1969 نجد الحوار التالي:

فيصل: يا طويل العمر هذه بالذات مثل ما شرحت فخامتكم إن ها الحين إن اللى ينشر فى جريدة الأهرام عند العرب وعند الدول الأجنبية يقولوا عليه إن ده بيعبر عن رأى فخامة الرئيس شخصيا مش بس عن الحكومة أو عن مصر فكانت الأهرام نشرت تعليقا فيه شيء من التبرير لموقف بتوع الجنوب العربى الناس أخدته على إن ده رأى فخامة الرئيس.

عبد الناصر: هو رأى زكريا نيل (محرر الشئون العربية فى الأهرام وقتها) يمكن.

فيصل: أنا بسمع بودنى لما أحيانا بكون فى السيارة بفتح الراديو مثلا بسمع محطة لندن أو محطة صوت أمريكا ولا محطة ألمانيا كولونيا بيقولوا: ذكرت جريدة الأهرام وبعد ما يجيبوا الخبر يضيفوا: ومن المعلوم أو مثل ما هو معروف أن جريدة الأهرام هى تعبير عن رأى عبدالناصر شخصيا.

عبد الناصر: لازم نحط فى جريدة الأهرام إن (رأيها) يخصها وأنها لا تعبر عن رأى الرئيس أنا جميع تعليقات الأهرام عمرى ما قريته.

فيصل: تسمحلى فخامة الرئيس خبر زيارة جلالة الملك (يقصد ذاته) للجمهورية العربية المتحدة نشر فين أول ما نشر؟ قبل ما ينشر فى الإذاعة نشرته الأهرام يعنى معناها أن الأهرام مصدر رسمى مش الإذاعة.

عبد الناصر: بالنسبة للخبر ممكن نقول....

فيصل: هذا اللى بيعطى للناس فكرة أن الأهرام بتمثل رأى رسمى فى الدولة.

عبد الناصر: اللى بتمثل الرأى الرسمى للدولة أصلا هى (جريدة) الجمهورية مش كده يا أنور (يقصد أنور السادات وكان رئيسا لتحرير الجمهورية) يعنى الناطقة باسم الدولة اللى عملناها هى الجمهورية.

فيصل: يعنى الأساليب هنا بتعطى النظام هذه الصفة.

عبد الناصر: هو ده بيقودنا الحقيقة إلى نقطة تانية ما هو وضع الصحف عندنا؟ وضع الصحف هنا غير ما يتصور الناس (وهو إن) إحنا بندى سياسة للصحف ولكن الحقيقة إحنا مش ماسكين الصحف خالص إحنا نقدر نمسكها ولكن جرايد بيروت بتضغى على العالم العربى وعلينا وبتبقى هى اللى عندها الحرية إحنا حاطين فى كل صحيفة رئيس مجلس إدارة هو المسئول وأنا المقالات بتاعة هيكل بيقولوا أنا بشوفها قبل الطبع أنا فيه مقالات لهيكل لم أقرأها حتى الآن.

وأنا من الناس اللى ما يقروش التعليق يعنى أقرا الأخبار ولكن ما أقراش التعليق إلا التعليقات المضادة بس بالنسبة للصحف الأجنبية بقرا التعليقات المضادة أو التعليقات المهمة.

الحقيقة أن الأهرام جريدة مطلعة لأن فعلا هيكل أنشط صحفى هنا بيقعد 12 ساعة فى الجريدة اللى بتوزع نص مليون نسخة نظرا لنشاطه.

كان عبدالناصر يرفع مرتبة الاهتمام بالإعلام إلى مرتبة الاهتمام بالجيش وكان لسنوات طوال يديره بنفسه بل إنه كثيرا ما كتب بخط يده خبرا يرسله للنشر أو تعليقا ينطق به الوزير المختص ولكنه بعد هزيمة يونيو وثقل مهمة إعادة بناء القوات المسلحة قرر أن يلقى بمسئولية الإعلام على هيكل بتعيينه وزيرا للإرشاد وهو ما أفزع هيكل فكتب إلى عبدالناصر رسالة بخط يده لم تنشر من قبل كان نصها:

سيادة الرئيس:

إن المفاجأة التى تلقيتها ظهر اليوم بترشيحى وزيرا للإرشاد القومى كانت مفاجأة كبيرة كما أنها كانت شرفا أكبر ذلك أنها كانت شاهد ثقة أعتز بها وأفخر لأن مصدرها هو ذلك الزعيم والقائد الذى تتجسد فيه الوطنية المصرية فى مرحلة من أهم مراحل التاريخ وأحفلها فضلا عن أنه الزعيم والقائد الذى تتمثل فيه كل أمانى التقدم الاجتماعى وآمال الوحدة العربية.

وإذا أذنتم لى سيادة الرئيس فإنى أرجو أن أضع تحت نظركم بعضا من الظروف الخاصة التى تدعونى إلى أن التمس منكم معاودة بحث الأمر فيما يتعلق بى وهذه الظروف كما يلي:

1- إن الصحافة هى مهنتى منذ ثمانية وعشرين عاما ولم أعرف لنفسى فى حياتى عملا غيرها لدرجة أستطيع أن أقول معها بإخلاص إن هذه المهنة هى حياتى ذاتها.

2- إننى عن طريق هذه المهنة خدمت وطنى بقدر ما وسعنى الجهد ومن خلال خدمتى لوطنى فقد جاءت خدمتى للثورة التى كان لكم الفضل فى قيادتها والتى سوف يذكر التاريخ لها مهما كان أو يكون أنها نقلت مصر إلى القرن العشرين بآماله وأفكاره وآفاقه الواسعة.

3- لقد استقرت أفكارى وأهدافى منذ وقت طويل على أن مستقبلى هو العمل الصحفى وحده وقد بلغ ذلك يقينى مبلغ المبدأ وذلك إحساس أنتم أكثر من يقدره بحسكم الصافى وإيمانكم العميق.

4- إنكم تعرفون ما يعنيه الأهرام بالنسبة لى كما أنكم تعرفون ما يؤديه الأهرام فى مجال الخدمة العامة وقد فعل الأهرام ما فعل وحقق ما حقق بفضل رعايتكم له وأصبح فى النهاية مركزا من مراكز التقدم فى وطننا العربى وأنا أشعر وقد يكون فى ذلك غرور التمس منكم اغتفاره لى أن وجودى فى الأهرام فى هذه المرحلة ضرورى لاستمرار دوره وحتى لو لم يكن ذلك صحيحا فإنى أحب أن أتصوره كما أنى بصدق لا أستطيع أن أجد لنفسى عملا أحبه خارج الأهرام ولقد أحسست فى الساعات الأخيرة أن كل من فى الأهرام يشاركنى هذا الشعور وصدقنى يا سيادة الرئيس أنه كان هناك من جاءوا لتهنئتى والدموع فى عيونهم.

5- إن قراركم الكريم الذى يسمح لى استثناء بأن أجمع بين الوزارة وبين العمل فى الأهرام يلقى على ما لا أستطيع تحمله وأعرف مقدما أن جهدى كله سوف يميل إلى جانب الأهرام وليس ذلك إنصافا لمسئولية أخرى وفضلا عن ذلك فإن الجمع له محاذيره لعدة أسباب:

لأن هناك تعارضا بالطبيعة بين العملين: الصحافة والوزارة.

ثم لأن الجمع بين رئاسة تحرير الأهرام ووزارة الإرشاد القومى سوف يجعل فى يد فرد واحد من أسباب القوة السياسية ما يمكن أن يحوله بحق إلى مركز قوة وتلك إساءة إلى النظام إذا وقعت.

وأخيرا فإن الجمع سوف يثير حساسيات لا داعى لها بين زملاء المهنة خصوصا إذا ظهر انحيازى للأهرام وسوف يحدث ذلك يقينا بحكم صلتى به وانتمائى إليه وشعورى بالاتفاق مع كل شخص فيه حتى أحجاره الصماء.

6- إن هناك مشكلة سوف توجد لى على الفور وهى مشكلة مقالى الأسبوعى بصراحة وقد أصبح هذا المقال جزءا لا يتجزأ من كيانى كما أنه ارتباط وثيق بصلة القلم مع مئات الألوف من قراء الأهرام فى مصر وسوف يزداد اللبس بين آرائى وآراء الحكومة وهو لبس يقع بالفعل بغير وزارة فكيف إذا أضيفت له الوزارة؟.

إننى يا سيادة الرئيس لا أستطيع الكف عن الكتابة لأنها حركة التنفس بالنسبة للكاتب ولنفرض أنى واصلت الكتابة أترك واصلت الكتابة فإنى أترك لسيادتكم مدى التعقيدات التى يصنعها ذلك.

7- إن الوزارة تتطلب استعدادا آخر لا أظنه يتوفر لى كما أن مهامها محاطة بظروف لا أظنى أهل لها وليكن ذلك تهيبا لكن لكل إنسان حدوده وطاقاته ومن الخير أن يعلم كل إنسان بأن له حدود وطاقات لا يستطيع تجاوزها.

سيادة الرئيس:

إننى أجد نفسى أمام خيار صعب والتمس منكم أن تجنبوننى مشاقه إنه ليس خيارا بين عملين وإنما هو أبعد من ذلك بكثير.

سيادة الرئيس:

إننى أعرف مشاعركم نحوى وسوف أبقى طول العمر مطوقا بفضلكم وبرعايتكم لى ولعملى ويكفينى للتاريخ أن يقال عنى أننى أديت دورى فى الخدمة العامة للوطن تحت رايتك المنتصرة بإذن الله.

وتقبلوا يا سيدى الرئيس تحية من أعماق القلب وسلمت وعشت لوطن منحته من حبك وإخلاصك وجهادك ما هو كثير كثير.

وسلمت وعشت يا سيدى الرئيس لكل الذين يؤمنون بقيادتك وبدورك التاريخى وبقدرك الذى هو قدر مصر.

محمد حسنين هيكل.

26 / 4 / 1970.

لم ينشر هيكل الخطاب خشية وصفه بالنفاق السياسى بالربط بين قدر عبدالناصر وقدر مصر وهو ربط يرفع قيمة الحاكم بما يتجاوز قيمة الوطن.

وفى الوقت نفسه كان عبدالناصر قد أدرك حسب ما سجل بنفسه فى اجتماعات رسمية أن غياب الحرية عن الإعلام كان سببا من أسباب الهزيمة وطالب بمجتمع مفتوح تلعب فيه المعارضة الحقيقية دورا كاشفا للأخطاء حتى يمكن تجنبها ولكن القدر لم يمهله العمر لينفذ ما اقتنع به فقد توفى بعد نحو خمسة شهور.