طارق الشناوي يكتب: بروفايل "المشخصاتي"

الفجر الفني

حسن حسني
حسن حسني


عندما اتصلت بالأستاذ حسن حسنى لإبلاغه أنه بالإجماع قد وقع اختيار اللجنة الاستشارية العليا للمهرجان لتكريمه بهذه الدورة، تمهل بعض الوقت قبل أن يجيبنى فرحا، أنا أساسا لا أتلقى دعوات لحضور المهرجان، ثم يتم منحى أهم جائزة (فاتن حمامة) التقديرية، شكراً للجميع على هذا التكريم، الذى أنعش وجدانى وعقلى وروحى. ذهبت لمنزله فى مدينة 6 أكتوبر لإجراء حوار صحفى نتذكر فيه معا بعض لمحات من المشوار، وهيأت نفسى لكى أنعش ذاكرته ببعض المواقف التى عايشتها وكنت شاهدا عليها، فاكتشفت أن ذاكرة الأستاذ لم تغادرها حتى 

يقدم حسن حسنى كمًّا كبيرًا من الأعمال الفنية، نعم يتباين مستواها، ومن الممكن أن تجده يتنقل بين أكثر من شخصية فى نفس الوقت، لكنه أبدا لا يكرر الأداء، ولهذا كان يصطحب معه أحيانا من خلال مساعده (دولاب) متحركا يسير على عجل يضع فيه ربما ملابس خمس شخصيات مختلفة، ورغم ذلك كان عليه أن يعايش كل شخصية وأن يُمسك تفاصيلها الخاصة، وألا تترك واحدة بصماتها على الأخرى، وتلك قدرة استثنائية أنعم بها الله على حسن حسنى، أن يتحرر من شخصية وجدانيا لينتقل بسلاسة لأخرى ثم الثالثة والرابعة، تلك هى المرونة الإبداعية عندما تتجلى فى أروع صورها.

دائما كنا نردد فى السنوات الخمس عشرة الأخيرة أننا شاهدنا فى العيد ستة أفلام، كان بينها سبعة يشارك فى بطولتها حسن حسنى، تبدل طبعا الحال فى آخر عامين بعد أن تضاءل العدد، ولكن لا يزال حسن فى البؤرة!!.

نجمنا الكبير هو تميمة النجاح، حتى أصبح تواجده بغزارة فى الأفلام قاعدة متعارفا عليها، طالما هناك فيلم، فإن حسن حسنى دائما حاضر، حدث ما يصفه علماء النفس بالارتباط الشرطى، بين اسمه والشريط السينمائى، حسن حسنى قادر على أن يتشكل إبداعيا طبقا للدور وما يفرضه عليه من تبعات، فلم يستطع أحد تنميطه فى قالب محدد، رغم أن السينما المصرية بطبعها وعلى سبيل الاستسهال تُشجع الجميع على التنميط.

حسن حسنى يقف دائما على الشاطئ الآخر من هذا المنهج، هو لا يذهب للشخصية الدرامية بمفاتيحه التى سبق أن اختبرها وتأكد من مفعولها، ولكنه يُطلق للشخصية الدرامية العنان لتفرض هى مفاتيحها عليه، وهذا هو معنى الإبداع الحقيقى فى فن (التشخيص)، تستطيع أن تقول إن ملامح حسن حسنى عندما تجاوز الخمسين من عمره، كانت هى التى حركت وميض الإبداع الفنى بداخله، الحقيقة أن الأمر تخطى الملامح وانتقل إلى الوجدان، وكأن الجمهور ينتظره فى تلك المرحلة العمرية، لتبدأ رحلة النجومية، كحالة استثنائية، مع بدايات العقد السادس من العمر، إنه (أسطى) التمثيل القادر على أن ينتقل بزاوية 180 درجة من النقيض للنقيض. يقول الفيلسوف الفرنسى «هنرى برجسون» فى كتابه فلسفة الضحك (الحياة مأساة تراجيدية لمن يشعرون.. ملهاة كوميدية لمن يفكرون)، تستطيع أن تلتقط من هذه الحكمة المغزى الكامن، وهو أن زاوية الرؤية فى الحياة هى التى تحدد لنا الموقف، هل نذرف دمعة أم نطلق ضحكة، والفنان الكوميدى عندما يتمتع بعمق الموهبة يستطيع أن يلتقط دائماً الوسيلة الصحيحة لإطلاق الضحكات حتى فى عز المأساة!!. الفنان الكبير حسن حسنى واحد من هؤلاء القادرين على توجيه مشاعرنا لكى نبكى أو نضحك، إنه الممثل أولاً، قبل أن تُطلق عليه (الكوميديان) الكبير، رغم أن الكوميديا هى العنوان الأكثر جماهيرية لدى الناس، إلا أن الذى منح الفنان الكوميدى كل هذا العمر من البقاء فى مقدمة (الكادر) رغم تعدد الموجات الفنية، وولادة أكثر من جيل، هو عمق الموهبة بل وتفردها، ولا يزال حسن حسنى يتمتع بمرونة تتيح له استيعاب مفردات هذا الجيل، والقدرة على فك (شفرة) الزمن، فهو الممثل الكبير، بل هو الأستاذ صاحب الخبرة العريضة الذى يستطيع أن يُمسك بنبض الشخصية، وكأنه يعيد تشكيل الصلصال، فهو يُصبح فى هذه الحالة بالضبط (الصلصال) الذى تتغير فى كل مرة ليس فقط ملامحه ولكن أحاسيسه الداخلية.

حسن بدأ المشوار فيما كان يُعرف منذ منتصف الخمسينيات بمسرح الجيش أو المسرح العسكرى، حيث يشارك فيه بالتمثيل والإخراج والتأليف بعض أفراد القوات المسلحة من الذين لديهم تلك الهواية.

إنه الممثل العتويل الجاد القادر على أن ينسيك فى لحظة أنك بصدد فقط كوميديان رغم عبقريته ككوميديان، يكفى أن تعود 22 عاما لدوره القصير جداً أمام «أحمد زكى» فى «ناصر 56» لمحمد فاضل فى مشهد واحد.. هنا نرى كيف أن الممثل الأستاذ المتمكن يستطيع أن يملك مشاعرنا ولا ننساه، فكان بطلاً ووصل للقمة فى دقائق معدودة!!.

حسن حسنى من هؤلاء القادرين على إضافة موقف يضحك الناس وفى نفس الوقت يضيف للشخصية، وهكذا جاء (إفيه) القرين، وحقق هنيدى أعلى درجات التواصل مع الجمهور، لأن حسن حسنى استطاع أن يكتشف ما الذى يملكه هنيدى من إمكانيات وقدرات، ليزداد توهجا!!.

إننا هذه المرة نتوقف أمام قدرة الضبط النفسى التى يتمتع بها عدد قليل جداً من النجوم، خاصة فى مجال الكوميديا بالسينما، وربما يصل الأمر إلى حدود الندرة، لو أننا بصدد عرض مسرحى، لأن المكافأة التى يمنحها الجمهور لنجومه هى التصفيق والضحكات، ويتباهى عادة نجوم الكوميديا بعد كل ليلة عرض بعدد وزمن الضحكات التى يحصل عليها كل منهم، حسن حسنى يترقب أن ينجح كل الفريق.

«حسن حسنى» تذوق هذا النوع الجديد من الكوميديا التى جاء بها جيل «هنيدى» و«علاء» و«سعد» و«أشرف» و«هانى» و«حلمى» وصولاً إلى «مكى» ورامز جلال.. منحهم ثقلاً عندما وقف معهم وامتلك المرونة الإبداعية فى فن الأداء التى تتيح له أن يهضم المفردات الجديدة ويستطيع أيضاً أن يمنحها من نبضه وإحساسه فتتجسد أمامك بإيقاع هذا الزمن، رغم أنها فى عمقها تنتمى إلى كل رصيد «حسن حسنى» وزمنه. يبدو لى بزاوية أخرى أنه بمثابة جسر التواصل الكوميدى الذى يسرى فى شرايين حياتنا منذ «نجيب الريحانى» حتى آخر عناقيد الكوميديا مصطفى خاطر وأكرم حسنى والميرغنى وأحمد فتحى وغيرهم من نجوم هذه الأيام، أغلب هؤلاء يشعرون أنهم بحاجة إلى وثيقة تؤكد نجاحهم فى الوصول للناس، ومن يملك تلك الوثيقة هو حسن حسنى، وكأنه حامل الأختام فى دنيا الكوميديا. إنه يثمن الجيل الجديد دائماً باعتباره إضافة له، فهم لم يأتوا ليبعدوه عن الصورة، أو يزاحموه فى (الكادر)، ولهذا بقدر ما يمنحه لهم من رسوخ سيمنحونه هم أيضا حضورا.

هذا الفنان قادر على أن يفك شفرة هذا الجيل بمختلف عناصره وتنويعاته، لو أنك راجعت أفلام فنانى الكوميديا ممن أطلقنا عليهم منذ نهاية التسعينيات نجوم زمن (الروشنة)، ستجد أن حسنى يقف مع كل الأجيال، وبعد هنيدى وعلاء لمع على خريطته محمد سعد «اللمبى» أحمد حلمى «ميدو مشاكل» أحمد عيد «ليلة سقوط بغداد» أحمد رزق «حمادة يلعب» ماجد الكدوانى «جاى فى السريع» طلعت زكريا «حاحا وتفاحة» رامز جلال «أحلام الفتى الطائش» مكى «إتش دبور»، مع اختلاف درجات النجاح. مثلاً فى عام 2005 فقط قدم 10 أفلام، من بينها أدوار جادة، مثل «أحلى الأوقات» و«فرحان ملازم آدم»، ثم مع المطربين حمادة هلال «عيال حبيبة» ومحمد عطية «درس خصوصى».. وهنا تأتى الخطورة، وذلك عندما يبدد الممثل مهما كانت مصداقيته طاقته فى العديد من الأعمال، بالضرورة سوف يتباين مستواه.. وحسن حسنى ولا أدرى لماذا لم يكن يقول «لا» أمام أى دور يعرض عليه.. دائماً يشعر أن هناك أملاً فى أن يعثر على مفتاح للشخصية الدرامية مهما بلغت درجة ضعف السيناريو والمخرج، أو لأنه أدبياً لا يجيد أن يقول لا، أو لأنه مادياً لا يملك أن يقاوم جاذبية النقود، لست أدرى بالضبط ما هى الإجابة الأقرب للصحة من بين كل هذه الاحتمالات، أم أنها كلها مجتمعة تؤثر بنسبة ما على اختيارات حسن حسنى. عندما نرصد مشوار فنان مبدع بحجم «حسن حسنى» نرى أخطاءه مثلما تستوقفنا حسناته.. نختلف معه فى عدد من اختياراته، ولكن فى الوقت نفسه ننحاز بلا حدود إلى تلك الموهبة المتجددة التى حافظت على قدرتها على هضم إيقاع كل الأزمنة، فهو لم يتوقف عند جيل ولا نوع واحد من الأداء. ويبقى أن مدرسة الكوميديا الجديدة فى السنوات الأخيرة قدمت أكثر من تلميذ احتل مقعد الألفة فى الفصل، إلا أن هؤلاء لم يحصلوا على شهادتهم إلا بعد توقيع ناظر المدرسة حسن حسنى، إنه الفنان المبدع صاحب الطلة، المشخصاتى كما ينبغى أن يكون المشخصاتى، وهذا هو فى الحقيقة مفتاح حسن حسنى، سره وسحره!!.