قليل الظهور بهي الطلة.. حكاية عقارات المهندسين الشاهدة على الأيام الأخيرة لـ"أحمد زكي"

تقارير وحوارات

بوابة الفجر


عندما تعانق نسمات الصباح الباردة أوراق الشجر، يطل هو من شرفته بالطابق الثالث عشر، تلك التي اعتاد أن يحتسي رشفة من قهوته بها ثم يدخن السيجار، فيتأمل الشارع في هدوء، وحينما تشتد برودة الطقس التي لم يعد جسده الهزيل يقوى على تحملها ينسحب سريعًا إلى الداخل فلا يتبقى من أثره سوى بقايا التبغ الذي أحرقه ثم ألقى به حينما شارف على الانتهاء، وكأنما يترك رسالة سريعة اعتاد عليها المارة في المنطقة بأن "النمر الأسود" تفقد الأرجاء من منزله قبل قليل.


لم يكن شارعًا عاديًا كتلك الأحياء التي تتسم بالهدوء القاتل في المهندسين، فبجوار العقار الذي كان يقطن به الفنان الراحل أحمد زكي، مسجدًا صغيرًا يتولى مسؤوليته عم "سيد" – اسم مستعار- منذ أكثر من ثلاثون عامًا، وبجواره مقهى صغير يعج بالرواد، أما عن الشارع فلا تتوقف السيارات عن المرور به ذهابًا وإيابًا.



"كان قليل الظهور.. بهي الطلة"، بهذه العبارة وصف عم "سيد" الفنان أحمد زكي، فخلال المدة التي قضاها في خدمة المسجد المتواضع، تمكن من مصادفة إمبراطور السينما بضعة مرات أثناء خروجه من منزله أو عند عودته إليه، فما كان منه إلا أن يقابل كل من تقع عليه عينيه بابتسامة واسعة تغنيه عن التحدث.

 

وبالرغم من الشهرة الواسعة التي حققها، إلا أن منزله كان خاليًا طوال الوقت، لم تكن تطأه سوى أقدام المربية الخاصة بعائلته والتي تمر لخدمته والاطمئنان عليه، حتى اعتاد سكان المنطقة عليه وحيدًا يُفضل الانعزال عن الآخرين، ولا يجبره على الخروج سوى الانتقال إلى أحد الفنادق الشهيرة التي يختفي بها عن الأنظار بعض الوقت، أو حينما ينهمك في عمل فني جديد يستعد للمشاركة فيه.

 

يتذكر حارس المسجد تلك الأيام الأخيرة التي قضاها أحمد زكي في منزله قبل أن ينتقل إلى عقار آخر في نفس المنطقة:"وقتها حصل زلزال سنة 1991م  وهو كان ساكن في الدور الـ 13 عشان كده نقل لشقة تانية بعدها علطول وباع دي".



بضعة أمتار قليلة تفصل بين مسكن "زكي" القديم وشقته الجديدة التي قضى فيها أكثر من 12 عامًا، ولكنها بخلاف منزله السابق؛ فالمنطقة يسودها الصمت والهدوء، وتحيط بها الأشجار فيطل من نافذته على لوحة نسجها وحي الطبيعة.

 

العقار حديث بعض الشيئ، يجلس بداخله حارسه علي حسن – اسم مستعار-، وبالرغم من كونه لم يشهد الفترة التي قضاها أحمد زكي في المنزل، إلا أن أحاديث العمال السابقين عن الفنان الراحل لم تكن تتوقف، فيتذكر جيدًا كيف شهدوا له بالوقار، وبالرغم من انعزاله عن الجميع إلا أنه كان ودودًا متواضعًا ينظر إلى من حوله برؤية مختلفة تجعل من يلتفت إليه يرغب في الاندفاع للانخراط في الحديث معه، ولكن ما يمنعهم عن ذلك هو إطلالته اللامعة - حتى رغم المرض الأخير-  والتي تمنحه هيبة مختلفة تبهر كل من يراه.

 


"إن بقي في المنزل لم يكن يحب الخروج كثيرًا وإن ذهب إلى فندق لم يكن يرغب في العودة كثيرً".. هكذا يصف الحاج فتحي، بواب إحدى العقارات المجاورة، حياة أحمد زكي في الأيام الأخيرة التي سبقت ذهابه إلى المستشفى قبل أن يفارق الحياة بها، فيتذكر جيدًا أنه كان مزاجي الطباع، فحينما يرغب في الانخراط مع المجتمع تسوقه قدماه إلى أحد الفنادق، وعندما يحب الانغلاق على عالمه الخاص يعود إلى منزله ويبقى بداخله.

 

ولكن على عكس منزله القديم؛ لم يعش أحمد زكي في شقته الأخيرة وحيدًا لفترة طويلة، فبمجرد أن بدأ المرض ينخر في جسده، قرر نجله "هيثم" أن ينتقل للعيش معه للمرة الأولى في جو أسري دافئ لم يشهده لسنوات عديدة من حياته.

 

يروي "فتحي" أنه بعد أن فارق النمر الأسود الحياة إلى مثواه الأخير، انتقل ابنه الوحيد هيثم، إلى منطقة 6 أكتوبر، تاركًا شقة والده مغلقة لتحتفظ برائحة الذكريات التي تركها له إمبراطور السينما المصرية، حيث أنها تحتوي على ملابسه وبعض مقتنياته البسيطة.

 

ولا تُفتح أبواب شقة الفنان الراحل أحمد زكي، سوى مرة كل شهر ونصف تقريبًا، حينما تأتي السيدة حكمت، مربية المنزل الخاصة بالعائلة لتقوم بتنظيفها وتفقدها.