فيلا الدخاخني

ركن القراء

بوابة الفجر


عشر دقائق قد تخطت الواحدة ظهرًا، الحر خانق والرطوبة تظن أننا في مجاعة مائية فتغرق الجميع بالمياة، الهواء ساخن حتى أنه يمكنك محاولة سلق بيضة فيه -إن كنت فهلويًا من هواة ألعاب الحواة و أكل البيض النيء كاليابانيين- وأنا أجلس منفردًا في تلك الحانة الرخيصة في نهاية شارع الهرم أدير منفضة السجائر على الطاولة يمينًا ويسارًا لترقص على إيقاع موسيقى أغاني فيروز الناعمة المنبعثة من السماعات المُوزعة باحترافية لتظل خفية، المكان شبه خالي عدا بعض رواد الحانة الذين لا يتعدون أصابع اليد الواحدة وجميعهم يغطون في سبات عميق لا يقطعه سوى التجشؤ ثم العودة إليه، من الجلي أنهم قضوا ليلتهم هنا، لم يبرحوا مجلسهم منذ البارحة الصاخبة، في الثقافة الأوروبية الحانة لا تعني أبدًا حانوت بيع أو تقديم الخمور لكنها مكان يجتمع فيه الأصدقاء للاسترخاء والتسامر وربما شرب الشاي والقهوة! أي أن أقرب معادل لها في ثقافتنا هي القهوة البلدي، لكنني طلبت النادل ليحضر لي زجاجة بيرة، هل تظن أننا في أوروبا؟ من أين جاءت كلمة حانة؟ لست خبيرا لغويًا لكني لا أستطيع قياسها على أي جذر لغوي أعرفه، ربما باستثناء "حنا" التي تدل على الميل و الانعطاف والدنو، هل هي "قلشة" على مرتادي الحانات لأنهم دائمو الميل بأجسادهم لتبادل النكات البذيئة وربما القُبل أم أنه الحر وقد أحال عقلي إلى جيلي؟ كما قلت، لست خبيرًا في اللغة ولكنني خبيرًا في النساء - أو هكذا أحب أن أرى نفسي- وأعرف جيدًا المرأة حين تكون مهتمة؛ مثل تلك الخمرية فاتنة الملامح التي تقترب من طاولتي الآن، نحيفة القوام ذات شعر بني مصبوغ متوسط الطول معقوص في ذيل حصان ممتد خلف ظهرها، التجاعيد الخفيفة الظاهرة على جبهتها والمنطقة حول عينيها والتي يلقبونها في الغرب برجل الغراب أو "crow's feet" تشي بنهايات الثلاثينيات ومطلع الأربعينات، دنت أخيرًا من مقعدي ونظرت لي نظرة مطولة ثم انفرجت شفتاها الملطختان باللون الأحمر الفاقع عن ابتسامة خفيفة لا تعرف الخجل وسحبت المقعد أمامي وجلست..

-ازيك يا دكتور؟

(أجفلت، إنها تعرفني!)

-لامؤاغذة، هو انتي مين؟

انطلقت منها ضحكة مجلجلة لا تصدر إلا من ريكلام حانات مصرية مخضرمة اهتزت لها بعنف منفضة السجائر ونباتات الزينة والسكارى والمقاعد والهواء ثم قالت:

-أنت متعرفنيش بس أنا أعرفك، أنا بلدياتك بس الصراحة يعني معرفش اسمك، أعرف أنك دكتور الفيزيا في جامعة بنت أختي، شفت صورك معاها في ايفنت على الفيس.

(كانت تتكلم كأهل القاهرة وتبدو مثلهم! لم تبدو لي كصعيدية أبدًا باستثاء لون بشرتها الخمري المائل للدُكنة وشفتها السفلية الممتلئة المقوسة لأعلى في نصف دائرة كعادة شفاة السمراوات، كما أنها سلطت ضغطًا لا بأس به على حرف الياء في كلمة ايفنت كما يروق للمصريين أحيانًا أن يفعلون)

ا-ه أهلًا وسهلًا، وحضرتك تبقي..؟
-سكرة، قولي يا سكرة.
سكرة!

في الساعات القليلة القادمة ولجت بكامل كياني في عالم تلك السكرة المُلقبة أحيانًا ب"وفاء هانم"، كنت أصمت حين تتحدث لأرقبها؛ شىء ما فيها يجذبني، يسحرني، هل هي ابتسامتها البيضاء الناعمة؟ أم أنه الذكاء الذي يصارع الجمال في عينيها على أحقية من سيقوم بطعنك أولًا؟ أم الطريقة التي تغلق بها جفونها تعبيرًا عن الموافقة على أمر ما؟ ربما حضورها الطاغي؟ أم صدقها مع نفسها وانعدام خجلها كلية فيما تفعل؟ لقد اعترفت سكرة أنها ريكلام ليس عن فقر أو حاجة ولكن برغبتها وبكامل إرادتها الحرة، ريكلام "عن حب" إن جاز التعبير، بمعنى أنها امتهنت تلك المهنة منذ حوالي العشر سنوات حبًا في المغامرة وقتلًا للملل الذي وصفته بأنه عدوها اللدود الذي لا تستطيع احتمال وجوده معها في نفس الغرفة ولو لدقائق معدودة أيًا كان الثمن، تمتلك سكرة هبة الصبر والتدبر وسعة الحيلة والقدرة على تجاوز الأزمات إلا حين يتعلق الأمر بشعورها بالملل، حتى زوجها العجوز ثقيل الظل تستطيع تحمله بالرغم من أفول علاقتهما بالكامل وتحولها لما يشبه كشف الحضور والانصراف الشرعي المُوثق بعقد يقومان فيه بترك اسميهما كل صباح فقط تأدية للواجب، ولمّا كانت حياتها في الصعيد لم تفضل أن تطلب الطلاق وأن تنزح كلية إلى القاهرة لأن زوجها لم يسأ معاملتها أولًا ولا توجد محاكم على حد علمها تأخذ ثقل الظل سببًا كافيًا لحدوث الطلاق، وثانيًا أنها لا تفعل شيئًا مشينًا يستدعي وقوع حدث جلل مثل الطلاق؛ فهي ريكلام وليست عاهرة! بمعنى أنها "تشوق" الزبون وتثير حماسته لكي يقع في غرام المكان ليس ضروريًا باستعمال بذاءات الحديث أو الفعل لكنها لا تمنحه ما يريده أبدًا، نمط من أنماط التسويق مثل العروض على باقات الإتصالات وخدمات الإنترنت، هناك أخريات معها ممن لا يرين الحياة بنفس الطريقة ويفضلن اللهو مع الزبون كيفما شاء طالما أنه سيدفع، لكن ليس هي يا عزيزي؛ فهي المقبلات وليست البوفيه! أعجبني منطقها في الحديث؛ على الأقل هي ليست من مُدعيات الملائكية اللواتي يصبن بالصرع إن وجه أحدهم سبة لقداستهن الزائفة، إن احترفت التسويق كما تسميه فهي لم تحترف النفاق في زمن يعج به، هي سيئة وتقول للعالم أنا سيئة.

يخربيت عيونك يا عاليا شو حلوين

-بس مش معاد غريب على بار يا دكتور؟
-أصلي كنت بزور واحد صاحبي معيد في قسم الفيزيا هنا في القاهرة، ولسه شوية على معاد القطر.

((إن كنت في القاهرة فتحدث كأهلها))

(كانت تنطق كلمة دكتور بطريقة مضحكة؛ تمد المقطع الأخير من الكلمة فتُسمع كماجدة الصباحي)

-وانتي متجوزة مين بقى؟

أخذت النفس الأخير من السيجارة العاشرة وسحبته عميقًا داخل فمها المغلق ثم أطفئتها في المنفضة أمامنا وهي تقول:

-الدخاخني.

وقفت جرعة البيرة من الزجاجة الثانية التي كنت أحتسيها في حلقي فأرسلت رئتي دفعة من الهواء من الداخل لطردها، الدخاخني؟ عبد الله بك الدخاخني؟ صاحب الفيلا الشهيرة في منتصف المدينة والعين من أعيان المدينة؟

-هو بعينه.

هذا عجيب، الدخاخني عائلة عريقة من عائلات مركز قوص بقنا، ترجع أصولها لإحدى القبائل المغربية التي ينسب إليهم عرب السماعنة، وهي قبيلة تسكن شمال سيناء، كما توجد لهم فروع في أسيوط والشرقية، كبير العائلة الدخاخني الكبير تعتبره أفراد العائلة ولي من أولياء الله الصالحين، وله مقام في شنهور، ناهيك عن الاتجاه السياسي للعائلة؛ فقد كان لهم تاريخ معروف مع الحزب الوطني، وأغلبهم انتمى إليه في مرحلة من مراحل حياته، حتى بعد تكرار الثورات والانقلابات التي حدثت في الجمهورية على مدار الأعوام الماضية لم يتركوا العمل السياسي قط، هذه المرأة تلعب بالنار، وعجيب أمر أن قريبتها تلميذتي ولم أعرف عنها كل تلك المعلومات، تذكرت ما قاله لي د.أحمد الفيشاوي صديقي الفيزيائي الصدوق الذي كنت في زيارته في الجامعة منذ قليل: نحن جميعًا مربوطون بخيوط سحرية خفية لا نراها لكنها تساهم بطريقة ما في غزل حبكة حياتنا، ونحن لا نلتقي بأحد خارج هذه الحبكة أبدًا؛ بمعنى أن من نقابله يعرف أحدًا نعرفه وقد قُدِر لنا منذ الأزل ومنذ نعومة أظافر الأكوان أن نقابله.

والآن لتأخذ منديلًا لتجفف عرقك، المساحة ضيقة في التوك توك والحر قاتل، لكننا أوشكنا على الوصول، نحن ذاهبون إلى قرية درنكة حيث يقف دير العذراء شامخًا ليعبر عن آخر نقطة في رحلة العائلة المقدسة داخل مصر قبل العودة إلى فلسطين لملاقاة "الشيخ وهبة" الذي هو خليط من حاوي ومخاوي وساحر وشيخ وابن حرام كما وصفته لي سكرة، لم يُخطَف طفل من قبل إلا وأخبرهم شيخ وهبة بمكان ومواصفات خاطفيه، لم تُسرَق أموال من قبل إلا وأعلن الشيخ فورًا إجابات كل أسئلة المسروق عن السارق، يبدو أنه تخصص في إيجاد الأشياء المفقودة حتى ذاع صيته وبلغ القرى المجاورة، بل وسائر المحافظات؛ فلم يكن مستغربًا أن تجد على دكة الانتظار في بيته سيدة أرستقراطية متشحة بالفرو تسأل عن مكان خاتم زواجها الضائع أو مدير كبير بأحدى الشركات المرموقة يسأله عن واقعة اختلاس في محل عمله أو عامل باليومية على باب الله يريد أن يعرف من قام بسرقته من أبنائه الخمسة، أو أب مكلوم يبحث عن أحد أطفاله الضائعين، مثلي أنا، إنه لا يتقاضى نقودًا على أية حال بل يفعل ذلك ترميمًا لعمل الله في الأرض الذي أفسده البشر كما يقول، في الفلسفة الميكافيلية وتحديدًا في كتاب الأمير يقول ميكافيل: أن الكثيرين لا يعرفون كيف يخطئون أكثر من معرفتهم كيف يصلحون أخطاء الآخرين، يبدو أن هذا الرجل يطبق منهج مماثل لكن على الطريقة المصرية، بالطبع لم نذهب بالسيارة في رحلة كهذه؛ السيارة لا تقلك إلى المكان الذي تريده بل أنت من يقلها للمكان الذي يصلح لها، أخرجت منديلي لأمسح حبيبات العرق المنبثقة من جبيني من جرّاء الشمس الحارقة، ألم أخبرك أن للصعيد طقسه الخاص؟ ألمحك تضيق عينيك في خبث كحمدي الوزير متسائلًا عن طبيعة علاقتي بمدام سكرة، فعلتها من قبل في زجاجة البيرة وتجاوزت عن الموضوع بكيفي، حسنًا، إن كان لديك أية اعتراضات فلتخبرني الآن كي نتوقف لك لتترجل من التوك توك، وظيفة بطل القصة لا تقتضي بالضرورة أن يكون طاهر الذيل! هذه مشكلة القُرّاء تلك الأيام، محاولة فرض كود أخلاقي عنوة والإصابة بنوبة توترية ارتجاجية صرعية عند أول محاولة لكسره، لن أخبرك بشىء الآن أكثر من أن سكرة تصر على أن الإجابة تكمن عند الشيخ وهبة؛ فلقد تعرفت عليه في أسفارها وتقسم أنه هو من أعاد إليها قرط أمها الذهبي الضائع الذي ورثته عنها والتي فشلت كل محاولاتها في إيجاده.

- مش عارف يا سكرة..
- جرب بس وشوف(يتبع)