منى غنيم تكتب : الطريق إلى سوت

ركن القراء

بوابة الفجر


هل حدقت للذرات من قبل في ضوء النهار؟ لا أتحدث عن ذرات جزيئات مادة بعينها بل عنقودات ذرات الهواء الشاردة كحبات اللقاح السابحة في الفضاء والتي تخبرنا كتب العلوم أننا عاجزون عن رؤيتها بالعين المجردة، لكننا في الواقع يا صديقي قادرين، جرِّب النظر في أي اتجاه يعكس ضوء الشمس وستراها، صافية، تسبح في هدوء، كأن الطبيعة لا تفصح عن مكنونات أسرارها إلا لمرتاديها؛ تأخذك في نزهة حيث توافق ضمنيًا على تسليمها مقلتيك لبضعة دقائق لتؤرجحهما قبل أن تعيدهما، كنت غارقًا مع أحدى العنقودات أتتبع حركتها البطيئة بشغف بينما تصطدم رأسي بالزجاج المتكئة عليه وترتد بلا هوادة وجسدي مسترخي بالكامل في المقعد الرباعي في قطار الدرجة العادية شبه الخالي في هذا الموسم من العام المتجه إلى أسيوط، لم أكن أشعر بشىء، الخدر العام اللذيذ، والاستسلام للاشيء، الطبيعة الأم حسناء أسطورية كاعب تجلس جواري على العشب لتطعمني حبات العنب في هدوء سرمدي وعقلي الوغد للأسف لا يبرح محاولات إنعاشي، نظرت إلى ساعة يدي الكاسيو الفضية التقليد التي تلقيتها كهدية في عيد مولدي الرابع عشر والتي لازالت تعمل حتى الآن ربما بالقصور الذاتي! الثانية عشر ظهرًا، والساعة الستون بعد المائة من النوم المتقطع الذي سأمني وترك لي عشرات الإنذارات بهجري كلية إن لم ألزم الأدب، كلا لم نجد غادة بعد، ألم أخبرك بهذا؟ الأسبوع المنصرم كان جنونيًا ملىء بالكثير من العويل والصراخ والأسئلة التي لا علاقة لها بإجاباتها؛ منذ سبعة أيام بالظبط في تلك الليلة المشؤمة التي اختفت فيها غادة كنت قد وصلت إلى منزل زينهم والد مروة مسرعًا بعد أن التهمت الطريق التهامًا ليخبرني بلا شىء، نفس ما قاله على الهاتف: الفتاة تبخرت في الهواء بلا مقدمات! كأن الهواء استحال وحشًا أسطوريًا شعر بالضجر تلك الليلة فخرج من مخبأه ليأتي إلى الصعيد ليمرح قليلًا بالتهام فتاة صعيدية قبل أن يعود، خرجنا بالكشافات للبحث في دوائر حول البيت ونحن ننادي اسمها بأعلى أصواتنا، تفقدنا كل شبر في الفناء وفي البيوت المجاورة وأفنيتها وفي المقابر ومحطة القطار القريبة، بيت زينهم يقع على أطراف قرية "أولاد نجم بهجورة" التابعة لمركز نجع حمادي بجوار مدخل الطريق الزراعي أي أنه بعيد نسبيًا عن عمران وسط المدينة، ولكننا ذهبنا للمدينة ولم نترك راكب ولا راجل ولا عابر سبيل إلا وسألناه عن غادة أو أعطيناه مواصفاتها أو أريناه صورة لها على الهاتف، كانت معظم المحال مغلقة فسألنا من كانت أبوابه لا تزال مفتوحة والكل أجمع على أنه لم ير شيئًا، لم تمر طفلة وحيدة من هنا منذ الساعة ولا أي ساعة، تركت زينهم وانطلقت بالسيارة صوب الطريق الزراعي وتوغلت به ما يقرب من الخمسين مترًا، كنت أترجل أحيانًا لأكمل البحث على قدمي ولكني أيضًا لم أجد شيئًا؛ الطريق موحل ومهجور وهناك أميال أقطعها قبل أن أنام كما يقول روبرت فورست في قصيدة الثلج، لكنني لم أنم، أحالت الأمطار الطريق إلى ممر أفعواني خطير لزق كلعبة تفاعلية على الهاتف لا تتوق للعبها لأنك تعرف أنك ستخسر فعقدت العزم على العودة في الصباح الباكر وذهبت لملاقاة زينهم الذي كان ينتظرني الآن في قسم الشرطة مع ابنته وزوجته وزوجتي لتقديم بلاغ، كانت رواية أهل البيت ثابتة: غادة ذهبت إلى المطبخ لتشرب، لا يوجد أحد بالبيت سواهم ونافذة المطبخ مدعمة بالحديد من أجل منع حيوانات الليل الضالة من الدخول وإقامة حفل بالداخل، كما أنها ضيقة لا يمكن لكائن بحجم غادة العبور منها، باب البيت في غرفة الجلوس حيث جلس الجميع يتسامرون في انتظار عودة غادة حين ضرب البرق سقف المنزل فانقطعت الكهرباء لجزء من الثانية وسمعوها تصرخ، قفز زينهم مسرعًا صوب المطبخ وفتح الباب ولكنه لم يجد شيئًا؛ فقط الصوت المكتوم لقطرات الماء المتساقطة بالخارج وكوب من الماء نصف فارغ أو نصف ممتلىء وبضعة قطرات متساقطة بجانبه على الحوض، ثم ماذا؟ ثم لا شىء، لا معطيات لا نتائج، بالظبط كمحاولة جمع حرف أبجدي مع عدد صحيح أو كتقديم رسالة ماجستير باللغة السنسكريتية ثم التعجب من رفضها، إنه العبث! رد فعل ظابط الشرطة أيضًا كان ثابتًا؛ استمع لنا في هدوء وأدب مصطنعين وعيناه تقولان: "لقد تبادلتم جميعًا شرب الحشيش ثم جئتم للانتشاء هنا في مكتبي! إنها ليلة غبراء إذن".

كان اعتقاد الجميع الراسخ- حتى أم غادة- أن جنيًا ما قد وقع في حب الفتاة وخطفها ليتزوجها أو لتكون خادمة أسرته من الجن، الجن! لا أدري لم تخيلت نفسي لحظتها بروفيسور الفيزياء خفيف الظل والتر لوين الذي يحب دعم شرحه في المحاضرات بالشو العملي ويتابعه الملايين على الإنترنت، حتى من غير المنشغلين بالفيزياء، هل شاهدت فيديو من قبل لبروفيسور مجنون يتأرجح في المحاضرة لشرح قانون السقوط أو يخاطر بحياته في وجه كرة حديدية متأرجحة لإثبات قانون حفظ الطاقة الميكانيكية؟ حسنًا إنه هو، لا أدري أي ردة فعل كنت سأقوم بها حينها بالضبط إن أتى أحدهم ليخبرني في هدوء أن جنيًا ما قد اختطف ابنتي، لست ملحدًا ولا درويشًا ولكنني عاجزًا عن إعطاء اسم لما لا يمكن رؤيته أو قياسه أو الشعور به، عالمي مبني على المشاهدات والملاحظات والنتائج، ثم أي جني بيدوفيلي مختل إلى هذا الحد سيتسلل إلى منزل زينهم في هذا الطقس ليخطف طفلة بائسة لازالت تأكل قضم أظافرها؟!

-هو في جني بيخطف عيال؟؟
-يمكن جني عيل.

الألم صارخ ، هل فقدت ابنًا لك من قبل؟ حتى ولو للحظات وجيزة حتى تمكنت من العثور عليه، هل جربت اعتصار الفؤاد وارتجاج الفكر وتداعي الوجدان والذعر غير المسبوق ومئات الاحتمالات التي تعصف بذهنك فتخرج مسدسك لترديها كلها فتتكاثر جثثها أمام عينيك لتلد أضعافها، الذعر الوحشي البدائي الحيواني، صدقني لو أن حافلة دهستك لما شعرت بنصف هذا القدر من الذعر، الموت رحيم لأنه عديم الاحتمالات، إنه رحلة ذهاب بلا إياب، و... رباه ماذا أقول؟، رباه، إن هناك حقًا ما هو أسوأ من الموت في هذا العالم.

كانت والدة غادة جميلة بلا شك، سمراء عسلية العينين ممشوقة القوام كزجاجة المياة الغازية، الأجمل في الجامعة أو على الأقل في نطاق حرم كلية العلوم، صحيح أن انتصاف الثلاثينات قد قام بإحداث بضعة جروح طفيفة على ملامح وجهها ولكنها لم تترك ندبًا بعد، لم تكن من تلك الفتيات اللواتي التحقن بقسم الفيزياء رغبة في معرفة كل شىء عن باسكال أو عن هوكينج الذي سلبهن لبهن، ولا من تلك الجامحات الساعيات للسفر والعمل يومًا ما في ناسا لاستعمار القمر واستصلاح المريخ، كان طموحها أكبر وأوضح من ذلك بكثير: كانت تريد أن تتزوجني، وأنا كنت أريد أن أتزوجها لجمالها وفتنتها؛ لم أرد بالطبع أن أشارك حياتي مع مهووسات أينشتاين خاصة وإن كن يبدون مثله! فلتتهمني بالسطحية وفراغ العقل كيفما شئت فليس لزامًا على طباخ السم أن يذوقه، أم غادة بسيطة رقيقة طيبة المعشر متصلة القلب والقالب بعادات وتقاليد الصعيد، بنت أصول صحيح، لذا لم يكن مستغربًا أن تلجأ أولًا إلى الشيوخ حتى وإن احترفوا الدجل من أجل العثور على ما فُقد منها في العالم الاخر، وهكذا قضيت الأسبوع وسط الشيوخ الوافدين إلى والفارين من بيتنا وقوائم الطلبات التعجيزية على غرار رجل هدهد مسلوق جناح دجاجة مرضعة وذنب صرصور حقل نادم ومسحوق أرنب مضطرب من أجل العثور على الجني الذي اختطف غادة، لم أستطع الرفض، لم أقو عليه حتى بالرغم من يقيني من عدم جدوى ما يحدث، كنت عاجزًا عن تقديم أية إجابات وكنت أشعر أنني في كابوس مستعد لتجربة أي شىء للاستفاقة منه، فليفعل من شاء ما شاء المهم أن نصل للفتاة.

في العام 1955 ذيعت الحلقة الخامسة من مسلسل الإثارة والغموض "ألفريد هيتشكوك يقدم" بعنوان "في الهواء into thin air" التي دارت أحداثها في باريس القرن ال19 حول فتاة تُدعى ديانا- لعبت دورها الممثلة بات هيتشكوك ابنة هيتشكوك الوحيدة التي ظهرت في معظم أعماله- تؤجر غرفة في فندق باريسي مع والدتها توطئة لعودتهما إلى وطنهما الأم بريطانيا فتمرض والدتها فجأة ويطلب منها الطبيب الذهاب إلى منزله لإحضار الدواء وعند عودتها تجد والدتها قد تبخرت في الهواء "النحيف" كما يقولون وينكر جميع العاملون رؤية سيدة عجوز ويصرون على أنها أتت منفردة وقامت بالحجز منفردة! حتى غرفتهما المؤجرة وجدت أن أثاثها وديكورها اختلف، بالطبع في نهاية الحلقة سيتضح أنها مؤامرة من الحكومة الفرنسية للقبض على الأم التي كانت مصابة بداء الطاعون الدُملي Bubonic Plague القاتل في هذا العصر، في العام 1880 تبخر المزارع دايفيد لانج في الهواء أمام أعين زوجته وأخيها وأطفاله وقاضي المنطقة "أوجست بيك"، وبعد تمشيط المنطقة قيل أن هناك دائرة غريبة ظهرت في الحقل في موضع اختفائه لا ينمو فيها الزرع ولا تقترب منها حشرة أو حيوان، وقال ابنه إنه سمع صرخات أبيه مرارًا كلما اقترب من هذه الدائرة كأنها قادمة من بعد آخر! لم تُعقد لدايفيد جنازة أبدًا وبعد مرور عدة سنوات أجرت ابنته سارة مقابلة مع الصحفي "ستيوارت بالمر" سردت فيها تفاصيل ما حدث، وتم نشر القصة بعد تفريغ المقابلة في يوليو عام 1953 في مجلة Fate الأمريكية المهتمة بالماورائيات حيث زعمت أنها تلقت في أبريل عام 1929 رسالة بخط اليد من أبيها تحوي عبارة واحدة وهي "معًا الآن" ففهمت أن والدها يخبرها أنه اجتمع أخيرًا مع والدتها المُتوفاة بطريقة ما في أبعاد أخرى فوق هذه الحياة، قيل بعدها أن القصة بالكامل مبفركة من قِبل رجل مبيعات يُدعى "جوزيف موهالند" ُعُرِف بفبركاته للصحافة في هذا الوقت لكن لم يستطع أحد التأكيد، في العام 1959 اكتشف الفنان عبد المنعم ابراهيم بالتعاون مع الطفل المعجزة آنذاك احمد فرحات طريقة صنع طاقية الإخفاء عن طريق وضع بودرة مُخلّفة من عفريت محترق على سطح الشىء فيختفي، كنت في هذه اللحظة أتحدث معهما وسط رفض قاطع من سير ألفريد هيتشكوك وعبد الفتاح القصري عن عدم جدوى ما يقومون به، وأن الطريقة الصحيحة للتنقل عبر الأبعاد هي عن طريق مقلم الأظافر الذي يعمل بالبطاريات! أخرجته من جيبي لأريهم كيف ففتح هيتشكوك فمه ليتكلم فخرج صوته حادًا مفزعًا قادمًا من أعماق الجحيم كسرينة قطار، فتح فمه أكثر فازداد الصوت علوًا فانتفضت في مقعدي وصوت سرينة القطار يخترق طبلة أذني إعلانًا عن ولوجنا لمحطة "سوت" المشتقة من كلمة "سأوت" التي تعني حارس باللغة الهيروغليفية أي حارسة حدود مصر العليا أو أسيوط كما حرفها شركاؤنا الأقباط بعد ذلك، لفت نظري أن هناك شخصًا ما قد شغل المقعد أمامي، رجل صعيدي أسمر في منتصف العمر ضيق العينين مجعد الجبهة يرتدي الزي الرسمي للمسلسلات: القفطان الزيتي والعمة البيضاء والتلفيعة الكاروهات والعصا المستقرة في يده، تبًا للاكليشيه حين يتصرف كواحد، كان يبتسم في بلاهة لم أحاول تبريرها حين ترجلت على ساقين من عجين أجاهد في حرارة الشمس اللازعة لاستجماع أفكاري وخط سيري، ماذا تقول؟ أنا لم أخبرك بعد بسبب زيارتي لأسيوط؟؟ تبًا لذهاب النوم وما يسببه من هلاوس، أنا في مهمة لا تقل أسطورية عن رحلة جايسون أو ياسون مع بحاري الأرجو في الميثولوجيا الأغريقية لجلب الصوف الذهبي للكبش الطائر من أيتس ملك كولخيس أو من مهام هرقل المقدسة الأثنى عشر، فلتقف معي في انتظار التوك توك ولتقرِّب أذنك لتستمع لي.