لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين

إسلاميات

أرشيفية
أرشيفية


الحذر وأخذ الحيطة توجيه نبوي شريف، سيما ممن جرب المسلم منه مكرا وخديعة، فلا يحسن به أن يغفل فيقع مرة أخرى، فالإنسان قد تتشكل له الأمور بغير شكلها الحقيقي فيُخدع -وهذا أمر طبيعي-، لكن أن لا يحتاط مرة أخرى فهذه سذاجة مرفوضة، ولا تليق بالمؤمن، وهذه التوجيه من المعاني الجامعة، والوصايا النافعة التي اشتملت عليها السنة النبوية بجامع الكلم الذي اختص به سيد الفصحاء، ومعلِّم البلغاء. 

فقد روى البخاري ومسلم عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحْرٍ واحد مرتين».

قوله: «لا يُلدغ» من اللدْغ: وهو العض والإصابة من ذوات السموم كالعقرب والحية. قوله: «من جُحْر» هو: الثَّقب الذي تحتفره الهوام والسباع لأنفسها.


قال أبو عبيد: وهذا الكلام مما لم يسبق إليه النبي- عليه السلام -، وأول ما قاله لأبي عزة الجمحي وكان شاعرا أُسِر ببدر فشكى عائلة وفقرا، فمنَّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وأطلقه بغير فداء، فظفر به بأُحُدٍ فقال مُنَّ عليَّ، وذكر فقره وعياله، فقال: «لا تمسحُ عارضيك بمكة تقول سخرتُ بمحمد مرتين»، وأمر به فقتل، وأخرج قصته بن إسحاق في المغازي. أ.هـ

ولأجل ثراء وعمق المعنى الذي حمله هذا التوجيه النبوي البليغ في لفظه، الواسع في معناه، فقد أورد الشراح فيه احتمالات كثيرة، وكل تلك المعاني يحتملها اللفظ على وجازة ألفاظه، وإيجاز تركيبه.

فقد نقل الحافظ ابن حجر بعض تلك الاحتمالات: فنقل عن الخطابي قوله: هذا لفظه خبر ومعناه أمر، أي: ليكنِ المؤمن حازماً حذراً لا يُؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى، وقد يكون ذلك في أمر الدين كما يكون في أمر الدنيا، وهو أولاهما بالحذر، وقيل: معنى لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين أن من أذنب ذنبا فعوقب به في الدنيا لا يعاقب به في الآخرة، قلت إن أراد قائل هذا أن عموم الخبر يتناول هذا فيمكن وإلا فسبب الحديث يأبى ذلك ويؤيده قول من قال فيه تحذير من التغفيل وإشارة إلى استعمال الفطنة. أ.هـ

 ويمكن أن يقال إن الحديث توجيه للمسلم بالحذر من حصول الضرر في أموره الدنيوية والأخروية، فهو مأمور بالتيقظ والتفطن في كل أموره، وكون مورد الحديث في أحدهما لا يمنع من حمله على الأمرين؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قال ابن الهمام في شرحه لهذا الحديث: وبكسر الغين من قوله «لا يُلدغِ المؤمن» يكون نهيا بمعنى: ليكن فطنا كيسا لئلا يقع في مكروه بعد وقوعه فيه مرة قبلها، وهذا من جوامع كلمِهِ التي لم يسبق إليها، أراد به تنبيه المؤمن على عدم عوده لمحل حصول مضرة سبقت له فيه، وكما أن هذا مطلوب في أمر الدنيا فكذا في أمور الآخرة، فالمؤمن إذا أذنب ينبغي أن يتألم قلبه كاللديغ ويضطرب ولا يعود، كما فعل يوسف -عليه السلام- بعد همه بزليخا كان لا يكلم امرأة حتى يرسل على وجهه شيئا. أ.هـ

فتبين أن المسلم بحاجة إلى تمثل هذا التوجيه النبوي في جميع أموره، سيما مع من يكون الأصل فيهم الغدر والخيانة، ودأبهم التربص بالمسلمين الدوائر، فيحذر من مكائد الشيطان وغوائله، وكذا أعداء الديانة باختلاف مسمياتهم وتنوع أفكارهم، فلا يحسن بالمسلم أن يكون عرضة لمكرهم وكيدهم، إذ الأصل في التعامل معهم هو تمام الحذر، ودوام الأهبة والاحتراس، وإلا توالى على المسلم الضرر، وصال عليه الخطر.