مَن قتل جمال حمدان بحرق شقته؟.. ومَن قتل نصر أبو زيد بزرع فيروس فى المخ؟.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (35)

العدد الأسبوعي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة


قاطع حمدان العالم بعد هجمات اليسار عليه بسبب نشر نبوءة سقوط الشيوعية وفقد حياته يوم انتهى من مخطوطة كتاب اليهودية والصهيونية


لم ينس التاريخ رمى طه حسين بالكفر بعد نشر كتابه فى الشعر الجاهلى ونجاته من السجن بأعجوبة.. ولم ينس التاريخ طعنات السلاح الأبيض التى تلقاها نجيب محفوظ فى رقبته بعد اتهامه بالتطاول على الذات الإلهية فى روايته أولاد حارتنا وكاد أن يدفع حياته ثمنا لها.. ولم ينس التاريخ الحكم بتفريق الدكتور نصر أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس بسبب اجتهاداته فى تأويل النصوص الدينية المقدسة ومات بفيروس مجهول عبث بخلايا المخ.

بالتأكيد التاريخ لم ينس ما أصاب أنصار العقل بتدبير وتحريض من أهل العدم.. ولكن.. نحن ننسى.. فلا نتعلم مما فات.. ولا نمل من تكراره.. وكأننا أدمناه.

عرفت أبو زيد عن قرب وشاركت فى اجتماعات الجبهة التى تكونت لمناصرته ضد الذين سعوا للتفرقة بينه وبين زوجته فى ساحة القضاء وضمت الجبهة عددا من المثقفين على رأسهم الدكتور جابر عصفور، كما تابعت القضية بدرجاتها المتعددة فى المحاكم والتى تولاها نيابة عنه فريق من كبار المحامين على رأسهم الدكتور عبد المنعم الشرقاوى.

رفضت المحكمة الابتدائية دعوى التفريق فهدأت النفوس بعد أن تصورت أنها كسبت المعركة بينما راحت جبهة الخصوم تجهز لمرحلة استئناف الحكم عند درجة قضائية أعلى وفى صدمة مروعة صدر حكم واجب النفاذ بالتفريق لم تعرف مثله من قبل فى العصور الوسطى.

ولوحظ أن رئيس الدائرة كان ملتحيا ويرتدى الزى الباكستانى (قميص طويل يصل إلى منتصف الساق تحته سروال من نفس القماش) فى حالة غير مسبوقة على منصات القضاء أفصح بها الرجل عن الحكم قبل أن ينطق به، كما أنه فور الانتهاء من القضية قدم استقالته فى نفس الشهر وسافر للعمل فى دولة عربية عرفت وقتها بالتشدد.

فى ذلك اليوم ضاقت شقة نصر وابتهال فى مدينة 6 أكتوبر بعشرات المصدومين من أجيال وثقافات مختلفة لا أحد منا يعرف ماذا يفعل سوى الشجب والغضب واتصلت بالدكتور أسامة الباز معاتبا عن إهمال القضية حتى وصلت إلى حكم غير متوقع صدوره فى دولة تحارب الإرهاب.

رشح الباز المستشار فتحى نجيب ليقدم النصيحة القانونية المناسبة بعدما ضربت الفأس الرأس وهو شخصية قضائية مستنيرة تولت فيما بعد رئاسة المجلس الأعلى للقضاء ورئاسة المحكمة الدستورية وسبق أن مثل مصر أمام هيئة التحكيم فى قضية طابا وشارك فى صياغة العديد من التشريعات المهمة مثل قانون الملكية الفكرية وشاء القدر أن يموت بأزمة قلبية وهو فى الساحل الشمالى لغياب الرعاية الصحية المناسبة هناك فى ذلك الوقت.

فى مطعم على سفينة ترسو عند نيل الجزيرة فى مدخل حى الزمالك تناولت العشاء معه وكان تقديره أنه ليس أمامنا سوى الطعن على الحكم أمام محكمة النقض.

وفى بيت عائلتها فى حى الدقى قالت لى ابتهال يونس وقد ازدادت نحافة: عايزة أعرف حينفذوا الحكم إزاى؟.

وسمعت من زوجها: لو جاءت الشرطة إلينا سآخذ ابتهال فى حضنى ولو شاطرين يفرقونا عن بعضنا بالقوة.

وخرجت روزاليوسف بغلاف عليه صورة زفافهما وكانت الصفحة الثالثة سوداء عليها جملة شاعت فيما بعد البقية فى حريتكم.

وكشفت روزاليوسف عن قصة الحب التى ربطت بينهما وبدأت بمحاضرة ألقاها نصر فى مؤتمر عن طه حسين أثارت إعجاب ابتهال فراحت تطلب منه نسخة منها وهى تخشى أن يعاملها مثل غالبية المفكرين بغرور ولكنها وجدت فيه إنسانا متواضعا فوافقت على الزواج منه وفوجئت به يقبل بأن تكون العصمة فى يدها تقديرا للمرأة واحتراما لها.

لكن الضربة القاضية جاءت بتأييد محكمة النقض للحكم فأصبح باتا نهائيا.

ولم يعد هناك مفر من أن يترك الزوجان مصر ليعيشا فى هولندا بعد أن عرض قسم الدراسات العربية والإسلامية فى جامعة ليدن (أقدم جامعات هولندا وتأسست عام 1575) على نصر العمل فيه أستاذا غير متفرغ لتثبت أن الغرب أكثر رحابة منا فى التعامل مع مفكرينا وقبل أبو زيد العرض بعد أن وجد نفسه فى منتصف عام 1995 بعد أن وجد نفسه مجبرا على النفى خوفا على حياته هو وزوجته.

وتخفيفا عن شعوره بالغربة كان العديد من أصدقائه المقربين (ومنهم الدكتور محمد أبو الغار والشاعر زين العابدين فؤاد والدكتور على مبروك والدكتورة شيرين أبو النجا) يمرون عليه فى رحلاتهم إلى أوروبا ولم تمنحنى الظروف تلك الفرصة وإن داومت على الاتصال التليفونى به.

وجد أبو زيد نفسه أكثر تألقا فى الغربة فضاعف من دراساته الجادة ووضع خططا لمشروعات شديدة الطموح منها ترجمة موسوعة القرآن وإعادة تفسير القرآن وفقا لترتيب النزول والسعى إلى تأسيس المعهد الدولى للدراسات القرآنية على الإنترنت.

وفى عام 2000 حظى أبو زيد فى جامعة ليدن على كرسى كليفر ينخا وهو رمز للحرية بعد أن واجه الرجل النازية وقت احتلال بلاده ورفض الانصياع لتعليمات جنرالاتها.

وبعد عامين نال أبو زيد ميدالية حرية العبادة من مؤسسة إليانور روزفلت وفى العام نفسه نال كرسى ابن رشد فى جامعة أوترخت فى هولندا.

وبينما أبو زيد يواصل ازدهاره أكاديميا فى جامعات هولندا وتستقبله بترحاب وتقدير جامعات دول أخرى بدأنا معركة تغيير قانون الحسبة الذى كان سببا فيما جرى له ولغيره.

كان مباحا لكل من هب ودب أن يلجأ إلى القضاء فى دعوى مباشرة يطلب فيها بتطبيق الحسبة على من يشاء ولو لم تكن له مصلحة مباشرة فى رفع الدعوى.

وساندت روزاليوسف المحامية الشهيرة منى ذو الفقار فى معركتها لتغيير القانون انطلاقا مما حدث فى قضية أبو زيد الذى سعت لمساندته بعد حكم الاستئناف.

قدم وزير العدل وقتها المستشار فاروق سيف النصر مشروع قانون يمنع رفع دعاوى الحسبة إلا بعد المرور على النيابة العامة على أن ترفض المحاكم نظر هذا النوع من القضايا إذا ما رفع مباشرة إليها، ولكن ذلك لم يكن ليكفى فكان أن شنت روزاليوسف حملة ضغط على الحكومة والرئاسة ومجلس الشعب لكى يضاف إلى مشروع القانون مادة ضرورية تؤكد وجود مصلحة مثبتة من مقدم بلاغ الحسبة إلى النيابة العامة.

ونشرت نص مشروع القانون الذى طالبت به جمعيات حقوق الإنسان ودعت للتظاهر حتى إقراره وحملت وثيقة من مثقفين وأكاديميين إلى الرئيس عبر الدكتور أسامة الباز للتدخل لصالح مشروع القانون الذى نريده ويسد ثغرات فى مشروع قانون سيف النصر الذى كان يمسك العصا من نصفها.

وفيما بعد سمعت من الدكتور كمال الجنزورى: أنه بصفته رئيسا للحكومة ساند المشروع الذى طالبنا به حتى جرى إقراره.

فى 29 يناير عام 1996 صدر القانون بعد نحو العام من المطالبة به ونص فى مادته الثالثة على أن النيابة العامة تختص وحدها دون غيرها برفع الدعوى فى قضايا الحسبة وعلى من يطلب رفع الدعوى أن يتقدم إلى النيابة العامة المختصة ببلاغه مشفوعا بالمستندات التى تؤيده وعلى النيابة العامة بعد إجراء التحقيقات اللازمة أن تصدر قرارا مسببا من المحامى العام بحذف البلاغ أو رفع الدعوى خلال ثلاثين يوما ونصت المادة الثانية منه على حق النائب العام فى إلغاء قرار النيابة بالإحالة ليعيد التحقيقات إلى مكتبه الفنى على أن يصدر قراره خلال ثلاثين يوما بالحفظ أو الإحالة.

وبمقتضى هذا القانون أوقف تنفيذ حكم تفريق نصر وابتهال ولكنهما لم يعودا إلى مصر إلا بعد خمس سنوات من إقرار القانون.

كان الترحيب بعودة الزوجين مذهلا وكأنه اعتذار عما تعرضا إليه من متاعب نفسية يصعب على بشر تحملها.. ضغوط حكم التفريق.. مخاوف من التصفية الجسدية.. قلق من اتهام بالزنة.. وحياة متواضعة فى الغربة ولكن فى المقابل وصف أبو زيد بآخر المجتهدين إسلاميا واتفق على أنه كان امتدادا للإمام محمد عبده والدكتور طه حسين وفتحت أكثر الدول الإسلامية تشددا ذراعيها لاستقباله وفتحت صحفها صفحاتها وقنواتها لأفكاره.

ورغم أنه كان يكرر على مسامع زوجته أنه سيعيش تسعين عاما إلا أنه لم يعش أكثر من 66 سنة فقد ولد فى يوليو عام 1953 وتوفى فى يوليو عام 2010 وبدت الوفاة فى عيون البعض جنائية وقدمت بلاغات للتحقيق فيها.

كان أبو زيد يقضى كثيرا من الوقت فى إندونيسيا ليحقق حلمه بتأسيس معهد العلوم القرآنية وهناك أصيب بفيروس فى الدماغ فعاد إلى مصر ليعالج منه وعندما دخل المستشفى لوحظ ضعف تركيزه وفقد إحساسه بالمكان وبعد أسبوع من العلاج بروشتة فرنسية تحسنت حالته ولكنه سرعان ما أصيب بالتهاب رئوى ضاعف من حساسية الصدر التى يعانى منها وأنهى حياته.

هل اغتيل نصر أبو زيد؟.. ربما.. هل حقنوه بفيرس قاتل؟.. ربما.. ولكن.. المؤكد أنه إذا لم يمت بمرض دمر حياته مات مقهورا بحكم قضائى أجهز على نفسيته.

إن الجمعيات الخفية للقضاء على المفكرين ظاهرة شائعة فى بلادنا.. تختار أفضل العقول التى حبانا الله بها وتدمرها.. وأحيانا نشك فى الجناة.. ونشير إليهم بأصابع الاتهام.. ولكننا.. لا نهتم بالإمساك بهم.. والانتقام منهم.. لتقيد جرائمهم دائما ضد مجهول.

هنا أقترب بجرأة مشفوعة بالثقة مما جرى لمفكر نحفظ اسمه ونشير إلى كتبه حتى لو لم نقرأها هو الدكتور جمال حمدان.

أحيانا نحظى بجملة قصيرة.. كلماتها محدودة.. ولكنها تتجاوز فى قيمتها شهادة عليا نحصل عليها مثل الدكتوراه.

قبل عقود طويلة.. بالتحديد فى يناير عام 1980.. أهدانى الدكتور جمال حمدان الجزء الثالث من ماسته العلمية الثمينة شخصية مصر دراسة فى عبقرية الزمان والمكان.

كتب بحروف كبيرة واضحة: للكاتب الصحفى الممتاز عادل حمودة تحية وتقدير وشكرا.

هل هناك وسام رفيع المستوى يمكن أن يحصل عليه صحفى فى بداية مشواره المهنى أعلى قيمة من مثل هذه الكلمات.

ولكن فى الوقت نفسه شعرت أن كل كلمة أصيغها مسئولية تفرض نفسها على ما أكتب وإلا تحول الوسام إلى حروف من خردة.

كنت قد تناولت الأجزاء التى صدرت من وصف مصر على حلقات فى مجلة الأهرام الاقتصادى وقت أن كان يرأس تحريرها عصام رفعت وأغلب الظن أن حمدان تابع ما أنشر فكان إهداء الجزء الثالث فور صدوره.

فى ذلك الوقت كان حمدان قد اعتزل المناصب العلمية وقاطع الحياة العامة وسد الباب أمام كل من سعى إلى لقائه بما فيهم أقرب الناس إليه لتتحول شقته المتواضعة إلى محراب علم للبحث والتأليف بعد أن قنع بأن حياته أقصر من تنفيذ أفكاره.

وكان يكتفى بتلقى الرسائل من تحت الباب أو عبر ناشره يوسف عبد الرحمن الذى كان الوساطة البشرية الوحيدة بينه وبيننا.

لم أكن انتظر الرد على رسائلى لكننى عرفت فيما بعد أنه تعليقات على الرسائل الشخصية التى تصله واحتفظ بها ليمنح مكتبة الإسكندرية فرصة جمعها فى كتاب مستقل عنه بجانب مخطوطات أخرى عثر عليها.

وحسب ما سمعت من أحمد بهاء الدين وكنا فى بيته فى حى الدقى بأن سر عزلة حمدان هجوم اليسار الشرس عليه خاصة عندما تنبأ فى عام 1968 بسقوط الإمبراطورية الشيوعية وكان الاتحاد السوفيتى وقتها قوة عظمى تفرض سطوتها على نصف الدنيا وقادرة على صياغة مصيرها وبعد خمس وعشرين سنة صدقت النبوءة وبالتحديد فى عام 1989 وكان ما كان.

أما النبوءة الثانية فكانت جملة مختصرة كتبها حمدان بثقة هائلة: إن الإسلام سيكون العدو القادم للغرب بعد سقوط الشيوعية ولسنا فى حاجة إلى القول إننا نعيش فى زمن تحققت فيه تلك النبوءة.

وكانت هناك نبوءة ثالثة حول صراع الحضارات سبق بنشرها كتاب المفكر الأمريكى صمويل هينجتون الذى يحمل نفس الاسم.

ورغم مكانته العلمية التى لم يصل إليها غيره عاش حمدان بجنيهات قليلة يحصل عليها من ناشره فلم يكن الإقبال على مؤلفاته الضخمة كبيرا.

أكثر من ذلك كان حمدان ينفق معظم دخله على شراء الكتب والصحف والمجلات مكتفيا بوجبات متواضعة لا تزيد عن الفول والجرجير.

ولا شك أن كتابه شخصية مصر كان أيقونته الموسوعية التى أثرت فى المثقفين والسياسيين وكانت مصدر شهرته ولكن هناك فى الحقيقة كتبا أشد خطورة كتبها حمدان وظلت مجهولة وبعيدة عن التناول والاهتمام الذى تستحقه ومنها كتاب اليهود انثربولجيا الذى يعد انقلابا فى الدراسات الإسرائيلية.

صدر الكتاب عام 1967 فى أجواء هزيمة يونيو التى وقعت فى العام نفسه وأجبرت المثقفين على دراسة العدو لنعرفه قبل أن نحاربه حسب الدعوة التى أطلقها أحمد بهاء الدين وقتها.

أثبت الكتاب أن اليهود المعاصرين ليسوا أحفاد اليهود الذين خرجوا من فلسطين بعد هدم هيكل سليمان وإنما هم ينتمون إلى قبائل تترية عاشت فى المنطقة القريبة من بحر قزوين والبحر الأسود واعتنقوا اليهودية فى القرن الثامن الميلادى وعاشوا فى روسيا وتركيا.

وبعد عشر سنوات دعم الباحث الأوروبى يرثر كوستلر تلك الحقيقة فى كتابه القبيلة الثالثة عشرة الذى صدر فى عام 1977.

فى 17 إبريل عام 1993 شب حريق فى بيت حمدان أعلن بعده وفاته ولكن حسب تقرير يوسف الجندى مفتش صحة الجيزة لم يمت حمدان بالحرق الذى طال نصفه الأسفل فقط دون أن يكون كافيا لرحيله عن الدنيا وبدأت الحديث عن جريمة قتل دبرت له.

اختفت مخطوطة كتاب انتهى منه عن اليهودية والصهيونية تقع فى ألف صفحة كان ناشره سيتسلمها منه يوم الوفاة وقبل الوفاة بأيام كسرت قدم الخادم الذى يتردد عليه ويجهز طعامه ويرتب شقته وشهد الجيران أن رجلا وامرأة خواجات سكنا الشقة المقابلة لشقته قبل شهرين ونصف الشهر من اغتياله واختفيا قبل دفنه.

وأشار خبراء فى الأمن إلى أن الموساد يمكن أن يكون وراء الجريمة ولكن لا أحد توقف طويلا عند ذلك الاتهام.

فى كثير من الكتب التى نشرت عن الموساد إشارة إلى وجود وحدة خاصة تسمى وحدة جدعون تكونت فى سبعينيات القرن الماضى مهمتها تصفية كل من يعمل ضد إسرائيل أو يفكر فى الإضرار بها ولو فى آخر الدنيا فهل نفذت تلك الوحدة عملية جمال حمدان كما نفذت من قبل عملية يحيى المشد؟

لكن النتيجة الأهم: إننا إن لم نقتل المفكرين بأيدينا تطوع غيرنا للإجهاز عليهم.