طارق الشناوي يكتب: "ترلم" التى أغضبت يوسف شاهين!

الفجر الفني

بوابة الفجر


حفل موسيقى كامل العدد يقام ضمن فعاليات مهرجان (الجونة) فى إطار إعادة بعث يوسف شاهين مجددا على الشاشة، تبدو للوهلة الأولى بعيدة تماما عن يوسف شاهين، هل نحن نكرم مثلا على إسماعيل الذى وضع موسيقى (الأرض) أو كمال الطويل (عودة الابن الضال) و(المصير) أم عمر خيرت (اليوم السادس) أم لعله محمد نوح (المهاجر)، ما هى علاقة يوسف شاهين بهذا التكريم، وبتلك الفرقة الموسيقية التى قادها (المايسترو) هشام جبر واعتلت عنوة خشبة المسرح. سألونى مرة ما هى الآلة الموسيقية التى تعتبر المعادل الموضوعى ليوسف شاهين؟ قلت بدون تفكير (الفيولينا) واسمها الدارج (الكمان)، صوت الكمان يرشق فى القلب يبكيك ويشجيك ومن الممكن أيضا أن يبهجك، فهى أرقى الآلات الموسيقية، وهكذا سينما يوسف شاهين يبدعها وكأنه يضع القوس على الوتر، ولا تنسى أن الأصل هو الربابة الشعبية، وستعثر على تلك اللمحة الشعبية أيضا فى أفلامه.

بقليل من التأمل سنكتشف أن شاهين فى عمقه كمبدع استثنائى يرتكن إلى كونه فى الأساس موسيقارا، وجه كل طاقته لكى يحيل الشاشة الفضية إلى (سيمفونية) أو (كونشرتو) أو (سوناتا) أو أغنية شعبية أو حتى (مونولوج) فكاهى، ليردده الملايين من بعده. المسموع أحاله إلى كادر مرئى، الأغنية والرقصة يلعبان دور البطولة، حتى لو لم تجدهما مباشرة فى العمل الفنى، ستكتشف أنه يستبدلهما، بلقطات تعبيرية، ولا يمكن لأحد أن يتصور يوسف شاهين مثلا يمنح السيناريو لموسيقار موهوب مثل محمد نوح فى فيلم (المهاجر) ويذهب هو لاستكمال التصوير، إنه يتأمل مع الموسيقار كل ما يشعر به، ليتأكد أنهما قد صارا على موجة شعورية واحدة وبنفس درجة التردد ليتجاوزا معا حاستى السمع والبصر إلى الإحساس.

كان من المفترض كما أشارت قبل بداية الحفل الموسيقى المخرجة والمنتجة ماريان خورى، ابنة شقيقة يوسف شاهين، أن تقام تلك الليلة الموسيقية على شاطئ (الريفييرا) فى مهرجان (كان)، حيث إن عدد المرات التى شاركت فيها أفلام شاهين بالمهرجان العالمى الأشهر تجعل تواجده فى الاحتفال بمرور 10 سنوات على رحيله أمرا منطقيا وطبيعيا، إلا أن التكلفة المرتفعة حالت دون ذلك، بينما الأخوان ساويرس (نجيب وسميح) فى مهرجان (الجونة) التقطاها وحققاها لتسعد بها روح يوسف شاهين وأرواحنا.

العديد من التفاصيل فى علاقة يوسف شاهين بمبدعى الموسيقى فى أفلامه لاتزال تسكن بداخلى، ولدى واحدة أذكرها لكم عن فيلم (المصير)، إنها قصة تحمل عنوان (ترلم)، كنت أسجل مذكرات حياة الموسيقار الكبير كمال الطويل، متناولا، فى جزء منها، علاقته بالمخرج يوسف شاهين، فقال لى إنه اتصل به ذات يوم غاضبا ومتوعدا بأنه سيقيم دعوى قضائية ضده، مطالبا المسؤولين فى مصر بمصادرة الفيلم ولن يكتفى بهذا القدر بل سيطالب أيضا إدارة مهرجان (كان) بمنع عرض الفيلم رسميا، لأن المخرج اعتدى على حقه القانونى وحذف (موتيفة) موسيقية من اللحن، سر غضب الطويل أغنية محمد منير (على صوتك بالغنا)، لحن الطويل الكلمات فى هذا المقطع هكذا (ترقص- ترلم- أرقص). أراد يوسف شاهين أن يلغى أثناء التسجيل النهائى للأغنية (ترلم) ويستبدلها بلحظة صمت، وبدأ التراشق بين العملاقين، وتناسيا فى ذروة الغضب ما بينهما من نجاحات متعددة، بعد تدخل الأصدقاء استمع الطويل فى لحظة هادئة للحن بعد حذف (ترلم)، فوجدها أحلى وقرر ألا يضحى بصداقة العمر من أجل (ترلم)، ولايزال محمد منير فى كل حفلاته التى يردد فيها (على صوتك بالغنا) يلتزم بلحظة الصمت التى أرادها يوسف شاهين.

عند الحديث عن سينما يوسف شاهين يتوقف أغلب النقاد عند هذا (الكليشيه) وهو أن أفلام يوسف شاهين معقدة فكريا، وأن الجمهور المصرى كسول بطبعه ويفضل الشريط السينمائى المباشر فى توجهه الفكرى والصريح فى لقطاته، إلا أن كل هذا لا يعبر بصدق عن الحقيقة، أقصد حقيقة إبداع يوسف شاهين، الأفكار تلتقطها بسهولة، ولكن حتى تكتمل المتعة، عليك أولا أن تعيش الموسيقى المرئية التى ينضح بها الشريط، إنه الموسيقار الذى لم يكن يحلم سوى بالموسيقى وعندما يستيقظ يحيل تلك الأحلام إلى قطع موسيقية أطلقنا عليها على سبيل الاستسهال أفلاما!!