طارق الشناوي يكتب: يوم السينما الإنسانية

الفجر الفني

طارق الشناوي
طارق الشناوي


الدنيا تتغير واللغة السينمائية فى العالم كله، أحد عناوين هذا التغيير، عليها أن تلاحق إيقاع الزمن، يخطئ من يظن أن الصوت العالى وأعنى به لغة التعبير الفج المباشر، من الممكن قبولها الآن، الجمهور لديه بوصلة تحركه دائما للصدق ويفضح من خلالها أيضا وبالضرورة الكذب والزيف.

عناصر فنية متعددة، يقودها المخرج أبوبكر شوقى، لعبت دور البطولة فى منح الفيلم كل هذا الألق والحضور للشريط، تصوير فيديركو سيسكا ومونتاج ايرين جرينويل وموسيقى عمر فاضل، ومجموعة من الممثلين يقفون لأول مرة أمام الكاميرا، مثل بطلى الفيلم الرجل الأربعينى المصاب بالجذام راضى جمال، والطفل الذى لم يبلغ بعد العاشرة أحمد عبدالحافظ.

لا انحاز للسينما المصرية لمجرد أنها تحمل الجنسية، هذا يشكل قيدا على قدرتك كإنسان فى تذوق الجمال، فيلم (يوم الدين)، شاهدته لأول مرة فى مهرجان (كان) وبديهى وأنت خارج الحدود أن تضبط نفسك متلبسا بأمنية أن يأتى الشريط السينمائى على قدر الحب والترقب، ولكن مع نزول (التترات) يجب أن يسيطر على الأمر برمته فقط الفيلم، ولهذا حرصت أن أشاهدة مجددا عند عرضه أمس الأول فى (الجونة) ممثلا للسينما المصرية.

القيمة الفكرية التى يحملها الفيلم بدعوته للتسامح هى نفسها الدعوة التى يتبناها المهرجان هذه الدورة ويعتنقها مؤسس المهرجان المهندس نجيب ساويرس.

القدرة على التسلل إلى مشاعرك (سنة سنة) وإلغاء الإحساس تماما بأنك أمام ممثلين يؤدون أدوارا تكشف شيئا من هذا الجمال، استطاع المخرج أن يقود مجموعة من الهواة لم يسبق لهم الوقوف أمام الكاميرا، وهم أيضا لا يجيدون أساسا القراءة، وبذكاء حافظ على الهارمونية، بمفتاح واحد لأداء الممثلين وهو سيطرة روح الهواية على كل الشخصيات، مؤشر الاستعانة بممثلين لم يسبق لهم التعامل مع الكاميرا لا تعنى فى حد ذاتها شيئا له قيمة، المهم هو النتاج على الشاشة، البطل مصاب بالجذام بعد أن أحدث المرض الذى شفى منه العديد من التشويهات فى وجهه، أودعه أهله وهو طفل فى المصحة أو المستعمرة كما يطلقون عليها، ويبدأ فى البحث عن جذوره، يدرك فى لحظة فقدانه لزوجته، أن عليه البحث عمن يأخذ بعزائه، الرحلة طرفاها الطفل اليتيم الأسمر النوبى باسم حركى (أوباما) الذى يكتشف فى سوهاج أن اسمه محمد عبدالرازق، حتى لو كان هذا الاكتشاف مجرد وهم تعوزه الوثائق المؤكدة إلا أنه فى النهاية شعر بالارتياح عندما أمسك حتى بالوهم، ولدينا طرف أساسى الحمار (حربى) الذى صار جزءًا من المشوار والحياة وجاء مشهد رحيله، مؤثرا والطفل يقرأ الفاتحة على روحه، إنها رحلة حب يشع ويتسع للجميع، الإنسان والحيوان حتى الجماد (العربة الكارو) كان لها نصيب من تلك المشاعر، من المؤكد أن الممثلين لديهم حوار مكتوب ملتزمون به إلا أن هناك مساحات من الإضافة تركها المخرج لهما حتى يحافظ على تلقائيتهما.

سبق لأبوبكر أن قدم فيلما تسجيليا عن المصحة وبعدها تردد بداخله هذا السؤال، ماذا لو عاش فى هذا المكان إنسان يبحث عن عائلته التى ينتمى لها (جينيا) فيكتشف أن الدائرة التى ضاقت عليه بسبب قنوط الأهل اتسعت لكل من يحمل الحب، ليس مهما ما الذى تملكه ماديا فى يدك لأن فيض الحب الروحى هو القادر على خلق المعجزة.

المأزق المادى الذى واجهه فى البداية المخرج أبوبكر شوقى وزوجته المنتجة دينا إمام كيف أنهما بأموال قليلة ينجزان الفيلم، فكانا يصوران جزءا ثم يحصلان على دعم يستكملان جزءا ثم يعرضاه على بعض الشركات والمهرجانات والمؤسسات لتمنحهما شيئا من السيولة ومن دعم إلى آخر حتى وصلا إلى مهرجان (كان)، ثم تأتى وبالضرورة المعضلة النفسية التى تبحث عن حلول إبداعية، وهى كيف للجمهور أن يتعامل مع مرض بطبعه منفر، بينما المطلوب ألا تشعر كمتلقٍ سوى بالارتياح والرضا، إنها الإرادة عندما تتوكأ على الموهبة والصدق. لا تدرى هل من رأيناهم على الشاشة هم المعذبون فى الأرض الذين ينتظرون (يوم الدين) أم أنهم بالقليل الذى يملكونه وبالرضا الساكن فى قلوبهم خلقوا جنتهم، بينما نحن المعذبون!!