د. رشا سمير تكتب: خيري شلبي.. فى ذكرى رحيل شيخ الحكائين

مقالات الرأي



فى زمان أصبح كل ماهو غالي فيه نفيس..وارتحل كل ما هو عظيم ليبقى الضئيل..وإعتلى كل أشباه الموهوبين قمم الإبداع..فانزوى أصحاب الهمم والعقائد لتخلو الساحة إلا من الدجالين..

مصر التى أنجبت الفنانين والروائيين والموسيقيين والرسامين العظماء، هى التى تبكي رحيلهم الواحد تلو الآخر تاركين ورائهم تاريخ من الإبداع وذكرى تتلاشى مع الوقت لتصبح سرابا نراه ولا ندركه!.  

هو رجل بسيط جاء إلى القاهرة نازحا من مركز قلين بمحافظة كفر الشيخ حاملا فوق ظهره أحلامه وآماله..ورحل عنها بعد أن حفر إسمه بحروف من ذهب بين صفحات تاريخها الأدبي.   

قالوا عنه أنه شيخ الحكائين ورائد الفانتازيا التاريخية..ولقبوه بلقب (حكواتى من زمن الأساطير).

أما هو فقد وصف نفسه قائلا: "ما أنا إلا حكواتي سريح، شرير ومجنون، ولو كنت عاقل ما أصبحت خيري شلبي"..

منذ أيام حلت علينا الذكرى السابعة لوفاة الأديب المصري المبدع خيري شلبي حيث كانت قد وافته المنية يوم 9 سبتمبر عام 2011..

طلت علينا ذكراه على إستحياء..دون إحتفاء يليق بروائي فى قامة عمنا خيري شلبي..الرجل الذى أثرى الأدب بسبعون عملا روائيا وقصصيا..الرجل الذى لم يطمح فى نوبل ولا سعى وراء التكريمات ولا إهتم أن تصل رواياته إلى طبعتها الخمسون..

الأديب الذى حصل على جائزة الدولة التقديرية فى نهاية حياته وبعد 70 عملا روائيا وغيره أستحقها بعد 6 أعمال.. بل ولم يحصل على أى جائزة عربية كُبرى!..

لكنه دون أن يهتم أو يبحث أو يزاحم وصل إلى قمة الإبداع وتربع عليها..

ألم يستحق منا فى ذكراه السابعة أن نحتفى به بشكل يليق بقامته وتاريخه الأدبي؟!..

ألم يحن الوقت بعد لأن تحتفى به الدولة بإطلاق إسمه على أحد الشوارع أو الميادين؟

 ألم يحن الوقت بعد لندرك أهمية كاتب مثله فيتم تدريس رواياته فى المدارس بدلا من الروايات التى عفا عليها الزمان ولازالت ضمن المناهج العقيمة؟..

الحقيقة أنه روائي لم يأخذ حقه ولا مكانته المستحقة..وبحسب كلمات زوجته هو رجل فتح بيته للجميع ودفع الكثيرين من صغار الكتاب والصحفيين إلى الإلتحاق بالصحف وساعدهم حتى أصبحوا فى أماكن كبيرة..والمفاجأة أن كل من صنع نجاحهم تنصلوا له ولم يكتبوا عنه كلمة فى ذكراه..حتى أن رفيقة دربه قالت لى أن الحزن يعتصرها لأن مجلة الإذاعة والتلفزيون التى قامت على أكتافه وكانت بيته لم تتذكره ولو بصورة على الغلاف!.

كم من جحود قتل أحياء وكم من بشر لا يستحقون الخير فى حين أن أصحابه لا يبخلون به!.

لن أذكر أسماء بعينها قالتها لي لأنهم لا يستحقون الذكر..ولكن عزاء أسرته الوحيدة أن تلاميذ لم يعلمهم وشباب لم يعرفونه هم من يكتبون عنه اليوم بدافع التقدير والأستاذية..

وحان وقت الراحة:  
رحل خيري شلبي فى هدوءه المعهود..فى فراشه الصغير وبجواره زوجته..

وكأنه كان يستشعر الرحيل فباتت كلماته لرفيقة عمره وأم أبنائه وكأنها وصيته الأخيرة..

فى أول أيام آخر إحتفال بالعيد قضاه بين أحفاده..طلب من أبنائه دون سبب واضح ولأول مرة أن يجمعوا كل الأحفاد حوله وهو متكئا فى هدوء على الكنبة ويضعون أصغرهم فوق صدره ثم طلب من أبنائه أن يصورونه مجموعة صور له وسط الأحفاد..

على الرغم من أنها صورة كانت تنضح بالحب إلا أنها تسببت لزوجته فى حالة من الإنقباض لم تدري وقتها لماذا!..

تواصلت مع زوجته السيدة الرائعة التى لا تتحدث عنه إلا وتصفه بحُب العُمر وتترحم على الرجل الذى خطبها وهى فى السابعة عشر من عمرها وقضت فى بيته أجمل أيام عمرها، ووقفت بجانبه وفى ظهره حتى كبر إسمه ولمعت رواياته فى العالم العربي كله..

روت لى كيف أن قلبها كان منقبضا من مجموعة شواهد لم تفهمها إلا بعد رحيله عنها..كيف طلب منها قبل رحيله بشهرين أن تطلب من أولادها ألا يفرطوا فى بيت العائلة الذى يعيش فيه معها والذى يحتوى على مكتبته الكبيرة وعلى ذكريات عمريهما معا..

قال لها:
" إجعلى منه حضنا لهم عندما يبحثون عن الراحة بعيدا عن بيوتهم..هذا البيت هو عمرنا وحياتنا وملتقانا".
قبل أن يرحل خيري شلبي بحسب رواية زوجته كان قدأ بدأ فى كتابة رواية جديدة وكان زوج إبنته ريم يسأله كلما قابله: "ما جديدك يا عمي؟" فيرد بأنه بصدد عمل جديد..

أصبح كل من حوله ينتظرون خروج روايته الجديدة إلى النور..ثم فجأة وقبل الرحيل بشهور قرر أن يتوقف عن كتابتها فسأله أحد أصدقائه لماذا لا يستكمل الرواية؟..

فرد قائلا:
" كتبت كثيرا وحققت كل ما تمنيت وأكثر، وحان وقت أن أرتاح"
فى ليلته الأخيرة..كان بالبيت جالسا على مكتبه يكتب مقاله الأسبوعي لجريدة الوفد..المقال الذى لازال حروفا فوق الوريقات على نفس المكتب، تركته زوجته عقب رحيله تقديسا منها لزوجها الأديب العظيم..فرائحة قلمه وأوراقه لازالت تملأ غرفته وتملأ نفسها بعبق عشقه.

فى ليلته الأخيرة، قام إلى الفراش ليستريح وذهبت لتحضر له كوب اللبن الذى عودته يوميا أن تأتى به إليه وتجلس بجانبه لتطمئن إلى أنه شربه..

شرب قليلا ثم إتكأ يسند رأسه على ظهر الفراش..أخذت زوجته تسترسل فى الكلام وتحدثه وتنتظر الرد منه ولا شئ..لم يرد..ولم يتحرك..فقد إختار الرحيل..

رحل فى هدوء وخسرت الساحة الأدبية قلما بمذاق الأرض وترابها والبشر وهفواتهم..

تجربة الإختلاف:
فى سبعينيات وثمانينات القرن العشرين ظهرت عدة أقلام صنعت جيل من عمالقة الكُتاب..من بين صفحات الإحتلال والحروب والإنفتاح الإقتصادى وفساد الحكام..أنبتت الأرض مواضيع خصبة وشخوص متعددة الوجوه لتصبح مناخا مناسبا للأدباء لكى يلتقطوا منها الملامح والصور..

لم تمنعه الصحافة من إنجاز 70 كتابًا..فعلى عكس أغلب الأدباء الذين عملوا بالصحافة والأدب وصرحوا بأن الصحافة تأكل الأديب وتضيع وقته وتسطحه، كان هو يقول دائما: 
"اشتغالي بالصحافة أعانني على الأدب".
لفت خيري شلبي الأنظار إليه منذ السطور الأولى لأول أعماله الروائية نظرًا لاختلاف تجربته عن باقي المبدعين فى ذلك الوقت، ودخوله إلى أماكن غير مطروقة مسبقًا، كما تميز عن الكثيرين من الأدباء باقتران تجربته الأدبية بتجربته الحياتية..نشأته الريفية وجلوسه بين كبار رجال القرية ومشايخها فى مجالسهم الخاصة وهو فى سن مبكرة منحته صورة لريف مصر من كل زواياه وعرضته لزخم الحكي فنال لقب شيخ الحكائين عن جدارة..

أثرت حياته الأولى أيضا في صياغة شخصياته الروائية، فكانت رواياته الأولى عن الريف وأهله بمشاكلهم ويومياتهم وهمومهم هى همه الأكبر، كما كان اشتغاله في بعض الحرف اليدوية دليلا له فى روايته (العراوي).
كما إستعان أيضا ببعض لقطات حياته اليومية فى رواية (موال البيات والنوم) الذى إسترجع من خلالها الأيام التى تلت هروبه من قريته.

هام على وجهه في القاهرة مختلطًا بجميع أنواع البشر وبات تحت كل الأسقف وأحيانا دون سقف باحثا عن مآوى..

هذه الفترة من عمره قربته من الشارع وجعلته أكثر ارتباطًا بالبسطاء والمهمشين، فأجاد الحكي عن هذه الطبقة فى كل رواياته..متصديا لقضاياهم وأحلامهم وعالمهم الخاص..هذا هو على ما أعتقد سر نجاح خيري شلبي..مذاقه الخاص..مذاق الإختلاف..

صالح هيصة:
تختلف طرق السرد من روائي لآخر..ولعل أسهل الطرق هى وصف الشخصيات والأماكن وهو ما يجبر القارئ على رسم ملامح محددة وصورة صريحة لأبطال الرواية.. هنا يتفوق خيري شلبي ويختلف فى وصف الشخصيات بالأحاسيس والمعانى..فأنت حين تقرأ كلمات صالح هيصة فى روايته الشهيرة يقول:
" الجوع سترة والشبع فضيحة..اللي واخد عالشبع يعمل فضيحة لو الأكل اتأخر عنه طقة واحدة 
مبيسرقناش غير اللي سرعهم الشبع وخايفين ليروح منهم، ربنا يكفينا ويكفيك شر البطن"

تلك الكلمات كفيلة بأن تجعلك تتصور ملامح هيصة وهيئته دون أن يكتبها بقلمه..

هكذا تعود أن يكتب شيخ الحكائين بالمعنى وليس بالصفة، بالموقف وليس بالألوان والأشكال..وهكذا عود قارئه أن يبنى الأحداث ويسبقها بناء على معرفته المسبقة بالأبطال. 

ثلاثية الأمالي:
أما أعظم أعماله وأكثرها شهرة على الإطلاق فهى ثلاثية الأمالي..هى ملحمة تتكون من ثلاثة أجزاء : أولنا ولد - ثانينا الكومي - ثالثنا الورق..

رواية تبدأ من داخل الصعيد..حيث عالما آخر من الجوع والفقر والشقى والنهب والفساد..ثم ينزح البطل إلى القاهرة لتتصاعد الأحداث والشخصيات والأماكن لتصنع رواية تنساب من بين السطور فى سرد أكثر من رائع وحبكة مختلفة لم يتناولها كاتب من قبل..

حتى أن دخوله فى جزئها الثالث فى الأحداث السياسية بطريقة مبدعة مبتكرة عن طريق قراءة الشيخة سعادة لأوراق التاروت الإحدى وعشرين زائد ورقة المهرج..ليلقى الضوء عن طريق كل ورقة إلى مشكلة متغلغلة فى قلب المجتمع..السطو والفساد وعصابات الكبار والسياسة القذرة وإفقار الشعوب وإنعدام الحب وبيع المرأة فى جواز الصالونات وكأنها سلعة..

إنها حقا ثلاثية تكتب تاريخ مصر فى بناء روائي سردى متميز لم ولن يكتب مثله مرة أخرى..

رحم الله عمنا شيخ الحكائين خيري شلبي..