د. نصار عبدالله يكتب: السيف والنار فى السودان «3»

مقالات الرأي




مازلنا مع كتاب: «السيف والنار فى السودان»من تأليف «سلاطين باشا»، الذى هو كما ذكرنا من قبل ضابط نمسوى عمل فى خدمة الجيش المصرى فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر عندما كانت السودان جزءا من مصر يدين رسميا بالولاء للخديو المتربع على قمة السلطة فى القاهرة..حتى بعد خضوع مصر ذاتها للاحتلال البريطانى فى عام 1882، وبذلك أصبحت السودان أيضا خاضعة من الناحية الواقعية للسلطة البريطانية التى أصبحت تتحكم فى زمام الأمور فى مصر والسودان كليهما..والكتاب كما سلفت الإشارة يقدم صورة دقيقة للمجتمع السودانى فى كافة جوانبه فى تلك الحقبة «ولعل بعض تفاصيلها ما زالت باقية إلى الآن» وهو ما يعطى ذلك الكتاب أهمية خاصة باعتباره تسجيلا حيا ونابضا للتاريخ الاجتماعى والفكرى للسودان، وليس مجرد كتاب توثيقى يقتصر على الجوانب السياسية والعسكرية وحدها وإن كانت تلك الجوانب تمثل الجزء الأكبر من الكتاب باعتبار أن مؤلفه قد عاصر، بل إنه قد شارك فى التصدى لثورتين مهمتين: فى التاريخ السودانى وهما ثورة سليمان بن الزبير، ثم ثورة محمد أحمد الدنقلى الذى عرف بعد ذلك بالإمام المهدى وعرفت ثورته بالثورة المهدية التى كانت تستهدف مد ربوع الخلافة الإسلامية إلى كل بلاد المسلمين وفى مقدمتها مصر ذاتها !!..ورغم جسامة الأحداث التى عاصرها سلاطين باشا وشارك فيها فإنه لم يغب عنه فى كتابه أن يتطرق إلى كل جوانب الحياة السودانية من خلال إيراده لأمثلة لمواقف بالغة الطرافة، وما أكثر تلك المواقف التى وردت فى الكتاب والتى يعبر بعضها عن شدة إيمان المجتمع السودانى بالكثير من الخرافات والخزعبلات!، ومن بينها ما ذكره سلاطين باشا أنه أثناء ثورة سليمان بن الزبير أصابه يوما صداع شديد وضربان فى الرأس حرمه من القدرة على النوم،..وعندئذ اقترح عليه أحمد قاطنج قائد الحامية السودانية المكلفة بحراسة منطقة بير جوى، أن يجىء له برجل قادر على إيقاف ضربان الرأس فى الحال!، وهو فى ذلك أفضل وأقدر واسرع مما يمكن أن يقوم به أى طبيب، وعندما سأله سلاطين عن الكيفية التى يستخدمها فى العلاج أجابه بأن هذا شىء بسيط، فهو يضع يديه على رأس المريض ثم يتلو بعض العبارات، وبعد أن يكملها يتحقق على يديه الشفاء!..ولقد خطر فى ذهن سلاطين حينذاك أن ذلك الرجل قد قدر له أن يسافر إلى أوروبا ويتعلم شيئا من أسرار التنويم المغناطيسى الذى كان شائعا جدا فى أوروبا فى ذلك الوقت، وكان يأتى بنتائج طيبة فى حالات معينة، فما كان منه إلا أن أذن بإحضار الرجل....وبعد دقائق أدخل عليه أحمد قاطنج رجلا طويلا أسود له لحية بيضاء، قائلا إن هذا الرجل هوالذى سيشفيك من ضربان الرأس !! ولم يتردد المعالج لحظة بل وضع يديه على رأس سلاطين وضغط على صدغه بإبهامه وسبابته ،وبدأ يتمتم ببعض عبارات غير مفهومة، ثم بصق على وجه سلاطين!!، وهو ما جعله يشعر بالغضب الشديد ويهب واقفا ويلكم الرجل لكمة قوية ألقت به على الأرض!!، لكن أحمد قاطنج رجا سلاطين باشا فى أدب ألا يغضب، وأن ينظر إلى المسألة لا على أنها سوء أدب، لكن باعتبارها جزءا من العلاج الذى ستظهر آثاره بعد أن يكمل الرجل تلاوة التمتمة!، ونهض الطبيب المعالج المسكين، وقد زايلته ثقته بنفسه مما جعله يقف بعيدا عن سلاطين باشا ليدافع عن طريقته فى العلاج بقوله : إن وجع الرأس الذى مس جسمكم من الشيطان الذى يلزم لطرده أن أبصق عليه، «وليس على جنابكم الكريم»،..وفى القرآن آيات تدل على إمكان طرده بالبصق عليه وبذلك يقف عمله السيئ!!، وعنئذ لم يتمالك سلاطين باشا نفسه من الضحك، وقال للرجل : إن كان قد مسنى شيطان فإنى آمل أن يكون شيطانا صغيرا، وأن تكونوا قد تمكنتم من طرده، ولم يسمح للرجل بإكمال التمتمة، وأعطاه ريالا وسمح له بالخروج فخرج وهو يدعو لسلاطين باشا أن يشفيه الله من الصداع، لكن رأسه ظل بها الصداع رغم هذا الصداع..الغريب أنه نام فى ذلك المساء، ثم استيقظ فى الصباح متعافيا، وعندما أخبر أحمد قاطنج بذلك قال له على الفور :»أنا كنت متأكدا من ذلك لأن عيسى «الطبيب» لم يضع يده على أحد إلا شفاه...وللحديث بقية