شاهد على الأزمات الخفية بين مبارك وبوش من "كوارفورد" إلى شرم الشيخ.. صفحات من مذكرات عادل حمودة (32)

العدد الأسبوعي

الكاتب الصحفي عادل
الكاتب الصحفي عادل حمودة


مبارك رفض قاعدة أمريكية فى رأس بناس وتسريح الجيش وتبادل الأرض بين مصر وإسرائيل فى سيناء

رفض عمر سليمان طلب سوزان مبارك بعد إبلاغ الرئيس وهو يجرى جراحة فى ألمانيا بحادث سيارة أصيب فيه جمال بخدوش سطحية

كنت أول من اقتربت من حسين سالم ونشرت عقد تصدير الغاز إلى إسرائيل وتسجيل محمية طبيعية فى الأقصر

عمر سليمان طلب أن اعتذر له وعندما رفضت وجدت قضية حكم فيها بغرامة مالية ولكن بعد ثورة يناير دخل عاطف عبيد ويوسف والى السجن فى الواقعة التى عوقبت عليها ظلما



فى صيف عام 2004 كان مبارك فى مركز ميونخ للعظام يخضع لجراحة تحت مسئولية الدكتور هانز مايكل ماير فى العمود الفقرى عندما أصيب ابنه جمال بخدوش سطحية فى حادث تصادم وهو يقود سيارته فى محيط حى هليوبوليس، فاتصلت والدته السيدة سوزان ثابت بمدير المخابرات العامة اللواء عمر سليمان تطلب منه إخفاء الخبر عن الرئيس كى لا ينزعج وهو فى ظروفه الصحية الحرجة سيزيد من شدتها شعور بالضيق إذا ما أصيب أحد أفراد عائلته بمكروه.

ولكن عمر سليمان لم يستجب للطلب قائلا: «إن وظيفتى إبلاغ الرئيس بكل ما يحدث ولن أحتمل شعورا بالتقصير مهما كانت مبرراته الإنسانية وأنا أقف أمامه لو عرف الخبر من غيرى».

كان سليمان يعرف طبيعة مبارك جيدا.. الشك المزمن فى كل من حوله.. فقدان الثقة فيمن يخفى عنه شيئا ولو بسيطا.. ومباغتة الأطراف المختلفة فى واقعة ما ليكشف الحقيقة.. وربما تعمد خلق صراعات بين مساعديه لضمان السيطرة عليهم.. ولكنه تنازل عن كثير من تلك الخصائص فى سنوات حكمه الأخيرة.. فلم يعد يسمع أو يسأل أو يهتم.. وسلم نفسه وحكمه وقراره لمن عبثوا به وهم أقرب الناس إليه.. عائلته وحاشيته.

بسبب شدة تعلقه بحفيده محمد قطعت حاشية مبارك الاتصالات التليفونية والتليفزيونية عنه ليلة تأكد رحيل الحفيد حتى ينام الجد دون قلق عليه ولتكن العائلة حوله فى الصباح تبلغه بالخبر المؤلم وتخفف عنه من شدة الصدمة التى سيتلقاها، ومع إنسانية الدافع ونبل القصد فإن ما حدث ليلة الثامن عشر من مايو عام 2009 كان عملية غير مسبوقة لعزل الرئيس عما يجرى وهو أمر شديد الخطورة يكشف عن تحكم من حوله فيما يعرف وفيما لا يعرف؟.

وكان السؤال الذى لم يقترب منه أحد: لو كان من السهل عزل الرئيس عن الأخبار الحزينة فلم لا يعزل عن السلطة بأكملها فيما يعرف بانقلاب القصر ولو خرج للشعب مؤيدا ومباركا ما حدث؟.

والمؤكد أن حزن مبارك على حفيده كان بلا حدود ودفعه لتأجيل زيارته لواشنطن للقاء الرئيس الأمريكى الجديد باراك أوباما بل إنه رفض استقباله عندما جاء إلى القاهرة ليوجه من تحت قبة جامعة القاهرة رسالته السياسية الأولى للعالم.

حسب ما سمعت من عمر سليمان فإن مبارك برر عدم لقاء أوباما فى قصر القبة بأن أوباما لا يأتى لزيارته وإنما يأتى لغرض آخر.

وبصعوبة أقنعه سليمان باستقباله والجلوس معه ثلث ساعة على مائدة المفاوضات ليترك له ولوزير الخارجية أحمد أبوالغيط المهمة بعد ذلك.

ورغم أن سليمان ظل مخلصا لمبارك حتى اللحظات الأخيرة فإن وجود سليمان بجانبه لم يكن مريحا للسيدة الأولى فقد كانت تشعر أنه يقف ضد مشروع التوريث وتصورت وفاءه للرئيس طمعا فى الحكم ولم يكن ذلك صحيحا.

سمعت من سليمان الكثير بعد تنحى مبارك وسجلت معه لمدة ساعتين أول حوار معه بعد ترشحه للرئاسة وجرى الحوار فى مقر حملته الذى كان يطل على قصر البارون فى هليوبوليس.

خدم سليمان فى سلاح المشاة بعد تخرجه فى الكلية الحربية عام 1955 وبعد طرد السادات الخبراء السوفيت من القوات المسلحة طالب عام 1972 بتصعيد جيل جديد من العسكريين المؤهلين فاستقبلت كلية القادة والأركان أكبر دفعة فى تاريخها كان سليمان واحدا منها.

وخدم سليمان فى تشكيلات ميدانية متدرجة حتى وصل إلى قيادة الفرقة 18 المتميزة.

لمدة لا تزيد عن أسبوعين أصبح سليمان قائدا للمنطقة المركزية وفى يوليو 1989 عين مديرا للمخابرات الحربية لينتقل منها مديرا للمخابرات العامة فى مارس 1991 وظل فيها 29 عاما حتى يناير 2011 حين أجبر مبارك على تعيينه نائبا للرئيس ربما ينقذ حكمه من الثورة التى فاجأته ونحته.

إن مدير المخابرات شخص قوى بحكم ما يتوافر تحت يديه من معلومات لا يصل إليها غيره ولكن للإنصاف فإن سليمان لم يفقد فى يوم من الأيام تواضعه ولم يستغل منصبه فى الانتقام من أحد حتى لو أساء إليه.

ما أن رشح نفسه للرئاسة حتى فتحت عليه نيران الحملات الإخوانية بكل ما تملك من تجاوزات هائلة فى التضليل والافتراء بما يصعب احتماله من وقائع ملفقة لا ظل لها من الحقيقة.

وهنا قلت له: «لم لا تكشف ما تعرف عنهم حتى يسقطوا صرعى أمامك إنهم يراهنون على صمتك وترفعك عن الرد؟».

وجاءت إجابته لتزيد احترامى له: «أخلاقى لا تسمح لى أن أستغل ما عرفت بحكم منصبى فى أمور شخصية».

وحدث أن طلب جمال منه اطلاعه على عمل المخابرات فلم يقدم سليمان إليه إلا ما هو منشور فى الكتب التجارية وعلى شبكات الإنترنت فاشتكى جمال لوالده الذى نقل الشكوى إلى سليمان ولكن سليمان قال له: «لو شئت يا فندم اطلاعه على ما لدينا من ملفات سننفذ ما تريد فورا» ولكن مبارك لم يشأ بل أثنى على موقفه من الحفاظ على أسرار الجهاز بعيدا عن أقرب الناس إليه.

ورفض مبارك أيضا عرضا من حاكم عربى أراد الحصول على تسجيلات قديمة له تعود لسنوات بعيدة مقابل مبلغ ثمين من المال.

وعندما كان مبارك فى ألمانيا يجرى جراحة سرطان فى الجهاز الهضمى تصادف أن نشرنا فى جريدة «الفجر» عرضا لكتاب أمريكى عن الدور المتميز للمخابرات المصرية فى مساعدة المخابرات الأمريكية فى عمليات مضادة للتنظيمات الإرهابية جعلت مبارك يعلن فى إحدى زيارات واشنطن: «إننا قدمنا معلومات مسبقة عن هجمات سبتمبر 2001 «.

أشاد الكتاب ببراعة سليمان فى قيادة جهازه ولكنه شعر بالحرج من إلقاء الضوء عليه فى وقت يغيب فيه الرئيس عن مانشيتات الصحف فتدخل راجيا أن نكف عن نشر ما تبقى من فصول الكتاب كما وعدنا القراء.

أما سر تلك الحساسية فهو أن بعض التيارات السياسية رأت فيه البديل الأفضل لمبارك ونامت مصر لتستيقظ على لافتات ملصقة فى الشوارع تطرح شعار «لا جمال ولا إخوان نريد سليمان» وهو ما ضاعف من شعور الرجل بالحرج من الكلمات الطيبة التى تقال فى حقه.

حدث ذلك قبيل زيارة لمبارك اختفى فيها سليمان طوال أيامها ولم يظهر إلا فى احتفال أخير داخل البيت الأبيض (سبتمبر 2010) لدفع مسيرة السلام فى الشرق الأوسط تحت رعاية الرئيس باراك أوباما وبحضور ملك الأردن عبدالله الثانى والرئيس الفلسطينى محمود عباس ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو.

وجرى التحقيق فى واقعة الملصقات وثبت أن ثلاثة من الشباب كانوا وراءها ولكنهم فى التحقيقات أضافوا: «كنا نؤمن بالتغيير من داخل النظام فلم نجد أفضل من سليمان ولكننا تراجعنا الآن عن هذه الفكرة ولم يعد ممكنا التغيير إلا من خارج النظام بالتخلص منه».

وفيما بعد لعب الشباب الثلاثة دورا قياديا بارزا فى تظاهرات يناير 2011.

والحقيقة أن مساعدات سليمان لإدارة بوش الابن فى مواجهة الإرهاب رفع اسهمه فى بورصتها السياسية بعد استبعاد عمرو موسى من ملف خلافة مبارك والسبب أن سليمان سيقدر على التحكم فى استقرار مصر بما سيعجز عنه جمال مبارك.

كانت العلاقات قد ساءت بين مبارك وبوش وبدا ذلك واضحا فى الصدام الذى وقع بينهما فى ربيع عام 2004.

فى ذلك الوقت سافرت لتغطية رحلة مبارك إلى هيوستن (عاصمة تكساس مقر عائلة بوش) ونزلنا فى فندق إنتركونتننتال تمهيدا لرحلة قام بها رؤساء التحرير بالسيارات لمدة 6 ساعات للوصول إلى مزرعة بوش فى كوارفورد بعد أن ركبنا الطائرة الرئاسية إلى مطار واكو بينما أقلت الطائرات الهليكوبتر مبارك وجمال وأعضاء الوفد الرسمى.

بدأ البيت الريفى لبوش أكثر تواضعا من بيت متوسط فى مارينا وإن أحاطت به الحقول الخضراء من جميع الجهات ووقف رؤساء التحرير فى العراء يعانون من شدة البرد فى المنطقة الخلفية للبيت، حيث وضعت الكراكيب، وحيث وجد حمام واحد صغير تستخدمه الحراسة وتكاد تمنع غيرها من الاقتراب منه.

وفى داخل البيت جرت مناقشات حادة بين الرئيسين بدا فيها بوش متشددا إلى حد التجاوز فى قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ومن جانبه لم يسكت مبارك ورد عليه بشدة محذرا من نظرية «الفوضى الخلاقة» التى روجت لها كونداليزا رايس فى ندوة عقدتها فى الجامعة الأمريكية فى القاهرة وبررت بها غزو العراق بعد فضح حجة وجود أسلحة كيميائية لدى صدام حسين.

وما أن عدنا إلى هيوستن حتى التقى بنا مبارك ليعبر عن سوء الفهم الذى ساد مباحثاته مع بوش وفهمنا دون تصريح واضح منه أنه لن يأتى إلى الولايات المتحدة طالما بوش يحكمها.

لم يكشف مبارك لنا عن مدى عمق الخلاف بينه وبين بوش ولكننى نجحت بصعوبة فى معرفة بعض منه بواسطة أحد الدبلوماسيين الذين عملوا فى الرئاسة وكان ذلك بعد ثورة يناير.

طلبت الولايات المتحدة من مصر تغيير طبيعة القوات المسلحة فيها لتتحول من جيوش ميدانية وأسلحة رئيسية مجهزة للحرب مع جيوش نظامية أخرى إلى وحدات متخصصة عالية التدريب لمكافحة الإرهاب وكانت الحجة الأمريكية التى تبنتها كونداليزا رايس: «إن مصر بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل لم يعد لديها أعداء تحاربهم سوى الإرهاب الذى لا يحتاج هذه النوعية من المقاتلين».

وللإنصاف فإن رايس ناقشت تلك النظرية مع وزير الدفاع المشير حسين طنطاوى ولكنه رفضها فور أن سمعها.

كانت واشنطن تعمل جاهدة على تفكيك الجيوش العربية كما حدث فى العراق لتصبح إسرائيل القوى العسكرية الوحيدة فى المنطقة التى ستعمها الفوضى وتتفجر فيها الصراعات الطائفية والعرقية والحروب الأهلية وهو ما حدث فيما بعد.

وحافظت مصر على جيشها رافضة زيادة المعونات الأمريكية التى عرضت عليها مقابل تفكيكه وتسريحه وثبت أنها على حق فقد حافظت القوات المسلحة على وحدة البلاد وسط انهيارات دول أخرى قريبة منها.

أكثر من ذلك ثبت أن التنظيمات الإرهابية المدعومة من دول خارجية أصبحت تمتلك أسلحة حديثة متطورة وكأنها جيوش مصغرة ولم يكن من الممكن مواجهتها بأسلحة خفيفة كما تصورت واشنطن.

ولم يحافظ مبارك على القوات المسلحة فقط وإنما رفض منح البنتاجون قاعدة عسكرية فى رأس بناس بل رفض مبارك مشروعا سياحيا هناك حتى لا يكون غطاء لما يدبر لنا.

ولم يقبل مبارك أيضا بتبادل الأراضى بين مصر وإسرائيل حلا للمشكلة الفلسطينية بأن تترك مصر مساحة من سيناء مقابل أرض تضع إسرائيل يدها عليها فى النقب بجانب دعم مالى تحصل عليه مصر من الولايات المتحدة يزيد عن 100 مليار دولار يضاف إليها محطة تحلية مياه يمولها البنك الدولى.

ويبدو أن مبارك شعر بخطورة الوضع فى شمال سيناء فأوقف مشروعات التنمية فى شمالها وكانت تلك المشروعات تضم ترعة السلام وخط سكك حديدية وتجهيز مئات الأفدنة للزراعة.

خشى مبارك على ما يبدو أن ينفجر الوضع المتردى فى غزة فيخرج سكانها عن الحدود ويدخلون سيناء بالقوة وهو ما حدث فيما بعد وإن نجحت مصر فى إعادتهم دون أن تطلق النار على واحد منهم.

ولكن بعد ثورة يناير وما صاحبها من اضطرابات داخلية تسللت جماعات إرهابية إلى سيناء بدعوى إقامة دولة الخلافة هناك ولكنها فى الحقيقة كانت تنفذ مخططا للضغط على مصر للقبول بدولة فلسطينية هناك والمؤكد أنها ستكف عن القتال لو نفذت تلك المؤامرة.

وبغطرسة الكاوبوى لم يكتف بوش بما حدث بينه وبين مبارك فى تكساس وإنما كرر كلماته الموجعة فى شرم الشيخ خلال حضوره منتدى اقتصادى هناك مما زاد من سوء العلاقة بين الرئيسين وكان ذلك فى مايو عام 2008.

وقد تابعت بنفسى ذلك الحدث وكنت مقيما فى فندق فورسيزونز الذى شهد اجتماعا بينهما ولم يسفر إلا عن ضربات إعلامية متبادلة تحت الحزام.

وخلال أحداث المنتدى وقفت أتحدث إلى عمر سليمان عن كيفية تلافى الأزمة بين القاهرة وواشنطن ولكنه كان مشغولا بأمر آخر.

كنت أول من نشرت فى «الفجر» عقد تصدير الغاز إلى إسرائيل بواسطة شركة شرق المتوسط التى كان حسين سالم رجلها الأول ومر النشر بسلام ودون اعتراض رغم أنه مس رجلا لم يقترب أحد منه من قبل هو حسين سالم ويبدو أن ذلك شجعنى لمزيد من التحرى عنه فكشفت عن واقعة استيلائه على محمية طبيعية فى الأقصر يقع عليها فندق موفنبيك والأخطر أن الحكومة ممثلة فى رئيسها الدكتور عاطف عبيد ووزير الزراعة الدكتور يوسف والى سجلت العقود فى الشهر العقارى ولكن ما نشرتها حتى استدعانى عمر سليمان قائلا:

«حسين سالم مستثمر مثل غيره من المستثمرين الوطنيين لا يكسب فى مشروعاته أكثر من خمستاعشر فى المائة لقد أغضبته ولابد من أن ترضيه».

ولم أعرف كيف أرضيه وكل ما نشرت مستندات رسمية تثبت صحة ما نشرت؟.

خلال حديثى مع سليمان فى المنتدى الاقتصادى انضم إلينا حسين سالم الذى عرض علىَّ غرفة فى فندقه وسيارة من أسطوله ولكننى اعتذرت.

وفوجئت بقضية ضد ما نشرت عنه وحكم علىَّ بغرامة مالية ولكن بعد ثورة يناير حوكم عاطف عبيد ويوسف والى عما فعلا لحسين سالم فى الأقصر ودخلا السجن لبعض الوقت. ولا شك أن أسهم سليمان فى خلافة مبارك صعدت إلى درجة عالية فى سنوات الأزمة مع بوش ولكن عادت اسهمه للهبوط من جديد بعد تغير موقف أوباما من نظام مبارك بعد ثورة يناير.