فاطمة ناعوت تكتب: دولة الأوبرا في حضن "البتول"

الفجر الفني

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت


العذراءُ مريم، عليها وعلى ابنها السلام، لها شديدُ الخصوصية وبالغُ الاستثناء من بين بَنى الإنسان. رمزٌ «عابرٌ للأديان»؛ ذاك أن تلك البتولَ المُصطفاة، ذات الحُسن الملائكى الفريد، لا تخصُّ عقيدةً دون أخرى، بل تَعبُرُ فوق مظلاّت الأديان لتستقرَّ رمزًا أبديًّا فى قلب الإنسانية الخضراء. رمزٌ للأمومة التى لا تُشبهُها أمومةٌ. أمومةٌ ربوبيةٌ من دون دنس أرضيّ. أمومةٌ حزينةٌ، وأمومة فرِحَة. فى البَدء: وجَلَتْ وجفلتْ حين علمت أن جنينًا ينمو فى خِصرها البتوليّ النحيل، من دون رجل.

 

وفى المنتهى: قرّتْ عينًا حين أدركت أنها تحملُ النورَ ساطعًا بأمر الله. شاع فى قلبها الفرحُ، بعد الوجل والخوف، حين علمت أن اللؤلؤةَ التى تتكوّن فى بطنها الآن؛ سوف تكون هديتَها للعالم، وهديةَ السماء للأرض الشقيّة بالخطايا والحَزَن. عذراءُ نقيةٌ سوف تُقدّمُ للعالم صبيًّا «وجيهًا»، كما وصفه القرآن: «إذْ قالتِ الملائكةُ يا مريمُ إن الَله يُبشِّرُكِ بكلمةٍ منه اسمُه المسيحُ عيسى ابن مريم وجيهًا فى الدنيا والآخرة ومن المُقرّبين» (آل عمران ٤٥)، وأنه سوف يغدو شابًّا وسيمًا «يجولُ يصنع خيرًا»؛ يمسحُ على الجباه العليلة فيُبرئ الأكمهَ والأبرص وينفخ الروحَ فى الميْتَة فتحيا بأمر الله. «وأُبرئُ الأكمَه والأبرصَ وأُحيى الموتى بإذن الله» (آل عمران ٤٩).

 

ثم هى أمومةٌ مفجوعةٌ ثكلَى، سوف ترى وحيدَها الجميل وقد حكم الأشقياءُ عليه بالموت، وبعدُ لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من عمره، وما تزوّج ليتركَ لها ما تقرُّ به عيناها من بعده. لكنّها تعلم أنه حيٌّ عليٌّ فى السماء، سواء صُلبَ وقام من مواته بعد أيامٍ ثلاثة كما فى الأدبيات المسيحية، أو رُفع من الصليب حيًّا إلى السماء كما فى أدبياتنا الإسلامية: «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (آل عمران ٥٥)، وربما علينا تأمُّل مفردة «مُتوفّيك». لكنْ، فى كل الأحوال، فإن الوجعَ الذى ضرب قلبَ العذراء لا يشبهه وجعٌ. واقفةً تبكى والقلبُ مفطورٌ أمام ذلك الموقف العظيم: ابنُها، الذى ما نَخَسه الشيطانُ، ولم يرتكب خطيئةً، تُبصره حاملاً صليبَه الخشبى الهائل يجرُّ قدميه محكومًا عليه بالموت من دون ذنب. لكنّ الصبيَّ يُبشّر أمََّه بالصبر، ثم يدعو الَله لظالميه من اليهود والرومان، أن يغفرَ لهم لأنهم «لا يعرفون ماذا يفعلون».

 

تلك العذراءُ المُصطفاة، التى اختصّها القرآنُ بسورة باسمها «سورة مريم»، زارت مصرَ وطوّبت أرضَها الطيبةَ وقضت فيها قرابة السنوات الأربع، فكانت تتفجّر تحت قدميها ينابيعُ الماء لتشرب ووليدها الكريم. لهذا فمكانةُ العذراء فى قلوب المصريين، على اختلاف عقائدهم، هائلةٌ وراسخة.

 

وها هى «دولة الأوبرا المصرية»، كما أُسمّيها، تحتفل بعيد السيدة العذراء فى المسرح المكشوف، الجمعة الماضية، فى حفل بهى شجيّ بديع، حضرته أطيافُ الشعب المصرى التى تعشقُ العذوبة والفنّ الرفيع. المايسترا الجميلة، د. هناء طانيوس، تحمل عصاها السحرية وتقود الأوركسترا الذى غزلت ثوبَه خيطًا خيطًا من سنوات بعيدة بأطفال موهوبين صغار يعزفون الكمان والتشيللو والقانون والعود الشرقى والفلوت والساكس والبيانو والدرامز وغيرها من أدوات تغريد الموسيقى. كبُرَ الصغارُ على يديها وصاروا أساتذة كبارًا ومايستروات، لكنهم لم يتركوا أوركسترا «أم النور» الذى احتضنهم أطفالا، بل راحوا يُدرّبون مع أستاذتهم صغارًا جددًا، لتتوالدُ الكوادرُ وتكتملَ الدائرةُ فلا ينقطعُ حبلُ الموسيقى القبطية الآسرة، التى هى امتدادٌ للموسيقى الفرعونية التى ابتكرها سلفُنا الصالح، المصريون القَدامى. كورال «صوتُ الراعى»، قدّم فرائدَ مدهشةً من الأغنيات والترانيم باللغتين العربية والقبطية، بقيادة المايسترو «راجى كمال»، الذى كان أحدَ الأطفال فى الأوركسترا، واستمعنا إلى صولوهات موسيقية آسرة وأغانٍ من أطفال وكبار، كلٌّ منهم يستحقُّ مقالا منفردًا. تحية للدكتورة إيناس عبدالدايم، والدكتور مجدى صابر، وهذه هى مصرُ التى بالتأكيد «فيها حاجة حلوة».

 

المقال نقلا عن "المصري اليوم"