د. رشا سمير تكتب: بنات القمر

مقالات الرأي



 تعود أن يخوض الحروب السياسية حاملا قلمه.. تعود أن يتسلق الأسوار الشائكة باحثا عن الخبر.. وتعود أن يصوب طلقات حبره إلى قلب المعركة ليصنع عناوين المانشيتات.. تعود أن تتسم معاركه بخشونة التحدى السياسى وأن تبتعد كلماته عن نسيج دانتيلا المشاعر والأحاسيس.. تعود أن يرتدى حزاما ناسفا من الكلمات ويُفجر نفسه فى وجوه الدجالين والسفهاء.


قبل أن يرحل الشتاء.. شعُر بحاجته إلى الوحدة بعيدا عن الأوراق والأقلام.. شعُر بحاجته إلى سماع صوت الكون وصوت أنفاسه بعيدا عن ثرثرة الأخبار والعناوين الدامية والحروب السياسية..

إنها الوحدة التى طالما يبحث عنها الكُتاب ليستردوا أنفاسهم ومشاعرهم المختلطة.. الوحدة التى تسمح لهم بإزالة غبار الآخرين عن أذهانهم..

اختار الإسكندرية.. محطة الرمل.. تريانون.. سيسل.. المعمورة.. ورائحة البحر..

فى لحظة صمت حاول فيها الهروب من ضجيج الاعتياد.. أمسك بالورقة والقلم.. ورسم حروفا بمذاق آخر ولون قوس قزح ليُبحر من عالم السياسة إلى دنيا العشق والأحاسيس.. كتب يقول:

«سيظل القمر إلهام السحر والعشق.. الجمال والخيال.. التبات والنبات.. إنها الطبيعة تعيد تنظيف حياتى.. تعيد إلىَّ توازنى.. تضع القمر فى خدمتى.. إن الكتابة بالنسبة إلى هى نوع من العلاج النفسى.. أكتب ما أحسه.. ما يؤلمنى.. لا أحسب حسابا لأحد.. لا أخشى اتهاما من أحد.. فأنا أكتب لأستريح.. أكتب وكأنى أصرخ.. وهكذا.. كتبت.. بنات القمر.. إنها شخصيات حقيقية تتنفس وتغضب وتحب وتكره.. لكنك لن تعرفها لو رأيتها عن قرب.. لقد تعمدت ذلك.. فالذى يهمُنى ما جرى لها.. لا من تكون».

 حكاية كتاب:

فى يونيو من نفس العام صدرت المجموعة القصصية بنات القمر للأستاذ عادل حمودة الرجل الذى صنع من «روزاليوسف» مدرسة صحفية تستكمل خطوات السيدة العظيمة التى أنشأتها..

كنت أنا ووالدتى والكثير من صديقاتى ننتظر صدورها عند باعة الصُحف بكل شغف.. لنلتهم الصفحات ونجرى بين السطور باحثين عن ملامح من نعرفهم.. ونتساءل كلما انتهينا من قصة: هل هذه هى ابنة السياسى الشهير؟ أم تلك هى الفنانة الصاعدة؟ هل يقصد زوجة الدبلوماسى التى خانته؟ أم هى طليقة المطرب اللبنانى الصاعد؟ أم إنها الكاتبة التى اعتقلوها بتهمة الخيانة لأنها وقفت ضد النظام؟.

لم نتوصل أبدا إلى إجابة محددة.. لأن بنات القمر هن ملامح كل النساء.. وهن بطلات الألف حكاية التى تحدث كل يوم خلف الأبواب الموصدة..

حكايات أبطالها.. العشق.. الكُره.. الخيانة.. الضعف.. والألم..

بعد نجاح (بنات القمر) قرر الأستاذ أن يكتب كل حكاياه على الورق.. وأن يسطر بحرفية الأديب قصصا حقيقية من لحم ودم لتصبح فصولا من حبر وورق.. لا يهم من هم؟.. لكن الأهم ما حدث لهن.. لأنها حكايات تحدث كل يوم بألف شكل ولآلاف البنات..

من هنا توالت الإصدارات.. بنات العجمى.. بنات مارينا.. البنات والبيزنس..

رباعية عن المرأة وإلى المرأة.. رباعية رأى فيها الأستاذ عادل حمودة كل شىء بعيون النساء..

الحب والجنس والسُلطة والشهرة والفقر والقهر والتخلف السياسى والعاطفى..

 لماذا الآن؟

اليوم وبعد أعوام طويلة على صدور المجموعة القصصية (بنات القمر) يتلقفها الناشر الشاب أمير الناجى ليقوم بإعادة طباعتها فى ثوبها الجديد عن دار نشر أقلام عربية فى 224 صفحة من القطع المتوسط..

بسؤاله عن سر تمسكه بإعادة نشر هذه المجموعة يقول: 

«مازال القراء يبحثون عن أنفسهم وقضاياهم بين صفحات الكُتب.. والقصة التى تمس وجدان القارئ هى القصة التى تبقى للأبد.. هذا ما شجعنى على إعادة طبع المجموعة القصصية (بنات القمر).. فنجاحها المبهر وقت صدورها هو أول ما شجعنى على إعادة طباعتها.. وبالقطع ثقتى الكبيرة واحترامى لقلم الصحفى الكبير عادل حمودة».

يبدأ الأستاذ عادل حمودة رحلته فى المجموعة مستعرضا قصص خمس عشرة امرأة.. كل واحدة منهن لها قصة وكل قصة لها حبكة وكل حبكة بها مغزى..

فمن المرأة المتمردة إلى العاشقة.. ومن الخائنة إلى الثائرة.. ومن المترددة إلى المتسلقة..

 امرأة فوق الشجرة:

إنها قصة فتاة دفعتها ظروفها إلى الحرمان.. ودفعها طموحها إلى عالم الفن..

حرمها القدر من الأسرة المتماسكة ومنحها أبا فاشلا.. أوصله فشله إلى حالة من فقدان الثقة بالنفس.. وأوصل زوجته إلى مفترق الطرق..

فى لحظة يأس بردت فيها قهوة الصباح وتجمدت فيها مشاعر الزوجة فى المساء.. طلبت الزوجة منه الطلاق فخسر حياته وابتعد عن ابنته.. ثم غرق الأب فى عالم الأفيون والسهر والألم..

فى لحظة فقد فيها توازنه همس له الشيطان بأن يخطف ابنته ويستعملها كرهينة للضغط على الأم.. لكنه عاد وأغواه حين أصبحت الفتاة بين يديه بأنها تفاحة شهية حان وقت قضمها..

طالما حذرت الأم ابنتها من الغرباء.. ونست أن تحذرها من الأقربين فهم أحيانا أولى بالمعروف!.

فقدت الابنة عذريتها وثقتها بالرجال على يد أبيها.. وبقيت تلك اللحظات عالقة للأبد فى ذاكرتها..

تزوجت عدة رجال..

الأول.. ممثل سينما معروف استطاع بجدارة أن يمثل عليها دول الرجل الجان.. وعندما حملت منه رفض الطفل.. ضربها وشتمت.. واستيقظت فى فراش المستشفى وحولها من يقدمون لها العزاء فى الطفل..

دخلت عالم الفن كمنتجة وأصبحت صديقة معظم النجوم.. نور الشريف.. يسرا.. إلهام شاهين.

ثم تزوجت الثانى.. معارض سابق للسادات.. يسارى عجوز.. أرهقته السياسة.. وأرغمته المعارضة الطويلة على الصراع.. حتى أصابه عجز إنسانى ونفسى.. أصبح عاجزا أمام شهرتها وبريقها وعشقها للأطفال..

أخيرا تحقق لها الحُلم.. أصبحت حُبلى.. وفقدت الجنين.. ثلاث مرات!.

ذهبت إلى الطبيب ليجد لها حلا.. ليس طبيب أمراض النساء.. بل طبيب الأمراض النفسية.. فما فعله بها الأب جعل رحمها يعلن حالة العصيان المدنى.. ويرفض أن يحمل طفلا من أى رجل لمجرد أنه يستعيد ذكرى الأب المغتصب.

كان لابد أن يفقد هذا الرحم المعقد نفسيا ذاكرته السوداء.. بأن يتعلم الفرق بين الحلال والحرام.

 امرأة من برج اللهب:

إنها امرأة ولدت فى برج اللهب.. برج الأشخاص المجانين بالتميز.. تعشق التفوق منذ نعومة أظافرها.. حصلت على الدكتوراه من جامعة أكسفورد وهى فى الثلاثين من عمرها.. لتصبح أصغر أستاذة اقتصاد بالجامعة الأمريكية..

لم تقع فى فخ الحُب الأول ولا الثانى لمجرد أنها امرأة تمتلك الطموح وترفض سلطة الرجال الذكورية..

فى صبيحة أحد الأيام قررت الزواج.. بدون أية مقدمات ولا احتياج.. لكنها قررت أن تختار بل تُملى شروطها..

وجدت رجلا مناسبا.. طبيب نفسانى مرموق أكبر منها فى العُمر.. يقدر المرأة ويسابق طموحها مُستمعا ومُشجعا..

فى إحدى الليالى منحته من نفسها ومنحها هو كل الأمان.. فقررا الزواج..

تنازلت عن الطرحة والفستان ودقات الدفوف.. لتتزوجه فى سكوت..

لم تسأل نفسها أبدا لماذا تأخر فى الزواج حتى هذا الوقت.. لكن الوقت ذاته منحها الإجابة بعد شهور قليلة من زواجهما..

لتكتشف أن زوجها متزوج من سيدة بسيطة من أهل قريته.. فلاحة لا تفك الخط.. لم يتعمد أن يخفى زوجته ولكنه يحاول أن يخفى عقده..

قررت أن تصنع له كميناً وتضبطه متلبسا.. أصعب لحظة تلك اللحظة التى ترى فيها المرأة زوجها بين أحضان أخرى.. وهذا بالضبط ما حدث لها..

لكن المفاجأة الحقيقية أن زوجته الأولى هى نسخة طبق الأصل من الجديدة.. وكأنها تقف أمام صورتها فى المرآة..

هاجت وماجت وصرخت واحتدت فيهما حين ضبطتهما فى الفراش.. فما كان من زوجته الفلاحة إلا أن ترد بكل برود:

« لا تنسى يا هانم.. أنك أنت التى أخذت زوجى منى».

لاتزال قضية الطلاق التى رفعتها أستاذة الاقتصاد ضد الطبيب المشهور قيد المحكمة..

 من عواصف السياسة إلى بلاط الحُب:

استعرض الأستاذ عادل حمودة بين دفتى الكتاب خمسة عشر نموذجا لنساء من وجهة نظرى أنه قابلهن فى حياته والأرجح أنه استمع إليهن بعقل الكاتب الذى يدون كل كلمة تدخل من أذنه إلى عقله فى مفكرته الخاصة..

أرى أن إعادة طبع المجموعة خطوة تأخرت لأن تلك القصص لا تقتصر على زمان بعينه.. بل هى قصص من واقع الحياة يجب أن تقرأها كل فتاة تحلم وتبحث عن هوية فى مجتمع تعود أن ينهش لحم النساء..

النماذج التى استعرضها الأستاذ بمرادفاته الحالمة وكناياته المختبئة بين السطور تأخذ القارئ من الصفحة الأولى للأخيرة فى رحلة بين نماذج من نساء أمرضها المجتمع بعنتريته الذكورية وهاجمها هو بانحيازه للمرأة واحترامه لكيانها الأنثوى..

أكبر دليل على ذلك هو الهجوم الذى لاقاه من الرجال عند صدور الطبعة الأولى للكتاب منذ أعوام طويلة والذى ذكرها فى المقدمة..

عبقرية الكتابة من وجهة نظرى هى قدرة الكاتب على التنوع.. وغالبا ما يقع الأدباء فى فخ الخط الواحد والأسلوب النمطى.. لكن المختلف فى قلم الأستاذ عادل حمودة هو قدرته على صناعة هذا التنوع بقلمه من جفاف السياسة إلى نعومة المشاعر.. ولو أننى مازلت أرى أن مدخل مقالاته السياسة له نفس مذاق قصصه الاجتماعية.. وأن عدم وجود توقيعه أسفل أى مقال لا يمنع قراءه أبدا من معرفة أنه هو المختبئ خلف السطور.

أدعو الناشر دار أقلام عربية إلى إعادة طبع باقى المجموعة (بنات العجمى) و(بنات مارينا) و(بنات البيزنس).. لأننى على يقين من أن القارئ الذى سوف يقرأ (بنات القمر) لسوف يعود باحثا عن المزيد..

 فى الأصل كانت المرأة:

يقول عادل حمودة فى مقدمة كتابه:

« لعلى أؤمن بأن المرأة هى مفتاح الحرية فى المجتمع.. أن نرفع القهر عن المرأة معناه أن نخلق أجيالا خالية من العقد النفسية والاجتماعية والأصولية..

إننى لا أدعى أننى نابليون بونابرت الكتابة.. ولا سيجموند فرويد التحليل النفسى ولا يوسف إدريس السرد ولا نزار قبانى الأسلوب.. ولكننى أقول بكثير من الغرور وكثير من التواضع إننى استطعت أن أحمل المرأة على كتفى وأعبر بها بحارا تمتلئ بأسماك القرش وتجار الرقيق والقراصنة والقوادين والفاشلين.. وأننى استطعت معها أن أخترق جميع الحواجز والقوالب الجاهزة.. كاسرا بذلك مشاعر الخوف والخطيئة».