د. رشا سمير تكتب: ما وراء الشتاء

مقالات الرأي



فقدت ابنتها "باولا" فسكبت أحزانها فى رواية تحمل نفس العنوان

تكتب بروح التمرد على المجتمع الذكوري ويحتفى بها النقاد


إنها روائية بمذاق زهرة الجرس الوردية التشيلية العبق.. تعانق الحروف وسط أوراق أشجار الأروكاريا فى جزيرة تشيلووى.. وتشرب قهوتها الساخنة على المقهى العتيق فى شوارع سانتياغو.

إنها الروائية التى ولدت فى بيرو وترعرعت فى تشيللى.. البالغة من العُمر 72 عاما ومازالت تمتلك سحر القلم ورونقه ومذاق الحكى.

إنتقلت للعيش مع جدها عام 1945 بعد أن هجرهما والدها.. فبدأ يتكون لديها روح التمرد على السُلطة الذكورية فى المجتمع حتى لو ارتدت تلك السُلطة رداء الشُرطة أو الكنيسة.. فعملت كصحفية وتحولت مع الوقت إلى  ناشطة مجتمعية فى مساعدة ضحايا نظام القمع والكبت الذى مارسه بينوشيه على شعب تشيلى.. ومن ثم تحولت إلى كتابة الروايات.. فأبدعت وأطلقت العنان لخيالها حتى احتلت القلوب وأصبحت من أشهر الروائيات على مستوى العالم.. حتى وصل رصيدها الأدبى اليوم إلى 21 كتابًا وبيعت أكثر من 65 مليون نسخة من كتبها على مستوى العالم كما ترجمت رواياتها إلى 35 لغة..


1-  تصريحات اللندى:

ترفض اللندى تصنيف الأدب إلى نسوى وذكورى لأنها ضد التصنيف أو التقليل من شأن الأقلام النسائية.. لكنها تعتز بكونها feminist  أو نسوية الهوى وليس القلم.. فتقول:

« أنا نسوية لأننى مخلوق ذكى ولا أريد العيش فى نظام يسيطر عليه الرجال، ولكننى فى الوقت نفسه لا أكره الرجال.. النساء والرجال سيغيرون العالم.. ولا علاقة لكونى نسوية برحيل والدي».

وتقول عن فن الكتابة التى عشقته وامتهنته فتوجها ملكة على قلوب القراء فى كل أنحاء العالم:

« تُصبح الحياة حقيقية عندما أكتبها، ما لا أكتبه تمحوه رياح النسيان».

فى عام 1925 مُنح برنارد شو جائزة نوبل ورفضها قائًلا:

«إننى أغفر لنوبل أنه اخترع الديناميت لكننى لن أغفر له هذه الجائزة!»..

كذلك بوريس استرناك التى منحت له رغم أنه لم يكتب سوى رواية واحدة فقط لأنه انتقد النظام الشيوعى البلشفى فى روسيا، حيث تشير الكثير من التقارير أن المخابرات البريطانية والأمريكية هى التى تدخلت لمنحه الجائزة، بالمثل سارتر الذى وصف الجائزة بأنها مُميتة!.

كان لإيزابيل اللندى رأيا مختلفا ربما لكونه أكثر حيادية وأكثر نعومة، على الرغم من كونها أديبة بكل ما تحمل الكلمة من معنى وتميز.. وطالما تساءل القراء لماذا لم يتم منحها جائزة نوبل وهى واحدة من أهم الأديبات فى العالم؟!.

بهذا الصدد تقول اللندي:

«معظم الكتّاب سيتفقون معى فى أن جائزة نوبل تُمنح فى معظم الوقت لأسباب سياسية، وأنها ليست عادلة، لأنه لا توجد لجنة بإمكانها أن تقرأ كل الكتب فى كل اللغات، ثم تقرر أفضلها.. ولكنها دون شك أكثر الجوائز الأدبية قدرًا، واستطاعت أن تسلط الضوء على كتّاب لم يكن يعرفهم أحد حول العالم.


2- بداية ونهاية:

الرواية التى نحن بصدد إستعراضها اليوم هى رواية (ما وراء الشتاء) الصادرة عن دار الآداب والتى صدر منها طبعة خاصة لمصر عن طريق مكتبة التنمية فى 381 صفحة..

تستهل الكاتبة روايتها باقتباس من كتاب ألبير كامو «العودة إلى تيبازا» وهو بالضرورة المعنى الذى جاء من نسيجه عنوان الرواية..

«ووسط الشتاء، أدركتُ أخيرًا، أن فى داخلى صيفًا فى حالة سبات شتوي».

كما شاركتنا اللندى بنهاية الكتاب فى لحظات مُخاض تلك الرواية وكيف جاءتها الفكرة..

المعروف أن الروائية لها طقوس خاصة فى الكتابة.. فهى تبدأ أى رواية جديدة بالتحديد يوم 8 يناير على مدى 35 عاما وتنعزل فى كتابتها بمكان خاص تُسميه (Casita) أو المنزل الصغير..

تقول فى نهاية الرواية:

«ولدت فكرة هذه الرواية يوم عيد الميلاد، فى بيت من آجر قاتم فى بروكلين، حيث التقينا كجماعة صغيرة لتناول فنجان القهوة الصباحى الأول: ابنى نيكولاس، وكنتى لورى، وأختها كريستين بارا، ووَرد شوماكير وفيفيانا فليشر، سألنى أحدهم عما سأكتبه فى الثامن من يناير الآخذ فى الاقتراب، وهو اليوم الذى بدأت فيه كتابة جميع كتبى على امتداد خمسة وثلاثين عامًا، ولأننى لم أكن قد فكرت فى أى شىء بدأوا بإلقاء أفكار وهكذا راح يتشكل هذا الكتاب».


3- من قلب بروكلين:

تبدأ أحداث الرواية فى الولايات المتحدة وبالتحديد فى منطقة بروكلين بنيويورك.. حول أستاذ جامعى يُدعى ريتشارد بوماستير الذى يتعرض قطه الأليف لحادث عارض يجعله يخرج مصادفة من منزله أثناء عاصفة جليدية تعود سكان المنطقة قدومها كل عام فى نفس الوقت.. ونظرا لصعوبة القيادة وخطورتها فى هذا الجو العاصف يصطدم ريتشارد بسيارة تقودها سيدة تدعى إيفيلين وتعمل كمربية للأطفال والتى يتضح لنا من سياق الأحداث أنها أتت من جواتيمالا هاربة من المافيا والمؤامرات التى قد تودى بحياتها..

يمنحها ريتشارد بطاقة شخصية بها اسمه وعنوانه ويرحل.. فينتهى اللقاء عند هذا الحد..

حتى تعود إيفيلين مرة أخرى بعد ساعات قصيرة لتطرق باب داره ومعها سيارتها المتضررة.. حاملة معها مفاجأة غير مستحبة للبروفيسير وهى.. جثة امرأة لا تعرف عنها أى شيء داخل صندوق السيارة!.

يتوقف عقل ريتشارد عن التفكير عند هذا الحد.. فهو لا يستطيع التصرف بنفسه فى هذا الموقف فيلجأ إلى زميلته التى تعمل معه بالجامعة وتسكن بالقبو.. وهى لوثيا ماراث التشيلية التى تقاربه فى السن.

من هنا تبدأ رحلة غريبة الأطوار والأبعاد.. حيث تنطلق امرأتان ورجل فى رحلة إلى بحيرة خارج المدينة للتخلص من تلك الجثة.

خلال تلك الرحلة الطويلة المريبة تنشأ علاقة حب غير متوقعة بين الجارين الكهلين اللذين يجمعهما أيضًا العمل فى جامعة نيويورك..

فى نفس الوقت تحاول لوثيا وريتشارد مساعدة إيفيلين، الشابة صغيرة السن المتلعثمة المهاجرة التى لا تمتلك أوراقًا رسمية، فى التخلص من السيارة ومن الجثة التى تحويها بعد أن وجداها ليست أكثر من طفلة مذعورة..


4- القيمة الدرامية:

يتضح لنا من خلال أحداث الرواية أن الروائية استطاعت بحرفية قلمها المعتادة أن تُسلط الضوء على القضية الرئيسية فى الرواية من خلال قصة الحُب والجريمة، وهى قضية استبعاد المهاجرين فى شكل غير شرعى إلى أمريكا، خصوصا من دول أمريكا اللاتينية.

تبقى قضية الاغتراب هى الخيط الدرامى المتوازى الآخر الذى يجمع بين الشخصيات، فهو الذى يبنى المشاهد والفصول.. الاغتراب عن الوطن بدافع الهروب من قبضة القهر، أو الاغتراب عن الحب بسبب الفشل فى ممارسته.. الاغتراب الذى يغير من نفسية الأبطال ويشكل ملامحهم..

فكل بطل من أبطال الرواية على استعداد لإنهاء الصراع الذى يحتدم بداخله فقط لو امتدت إليه الأيادى الأخرى لتساعده..

على سبيل المثال ريتشارد يجعل من العمل ملاذه الوحيد ويصبح عبدا لروتين الأيام.. وتتذرع إيفيلين بالصمت المطبق وكأنها خرساء لا تجيد الكلمات أو فن الحوار.. وتحاول لوثيا بكل جهدها أن تتغلب على كل المصائب التى واجهتها فى حياتها بالحبو نحو حياة أفضل..

الحقيقة نحن أمام عمل روائى ترجمه صالح العلمانى المترجم السورى الفلسطينى باجتهاد واحترام لخصوصية العمل وتميزه..

أعجبتنى فكرة العناوين التى استعملتها اللندى فى كل فصل.. وهى اسم الشخصية والمكان حيث يدور الحدث وتتعاقب الأزمنة لفصل القارئ عن الانسياق وراء قصة واحدة طوال الوقت.


5- صُراخ القلم:

إيزابيل اللندى روائية استطاعت أن تصنع لنفسها بصمة مختلفة بخلق قاعدة قراء كبيرة حول العالم كله.. إنه نجاح صنعته بنفسها، ربما ساعدتها فيه الأحداث التى مرت بها وربما كان للقدر الذى ألقى فى طريقها بمآس عديدة مثل هجر والدها لها وطلاقها ووفاة ابنتها، الفضل فى منحها القدرة على التعبير بدلا من الصُراخ لتُصبح الكلمة هى الصوت الوحيد الذى يُطلقه الروائى من شدة الألم ليخترق قلوب قرائه.

تصف إيزابيل اللندى العشق بكلمات تعلمتها من خلال رحلتها الطويلة فى عالم الصحافة والرواية.. بل من بين أروقة الحياة التى اختصتها بالمحن والألم كثيرا..

كتبت تقول:«ربما نحن فى هذا العالم لنبحث عن الحب ولنعثر عليه ومن ثم أن نخسره مراراً وتكراراً .. ومع كل حب نولد من جديد ومع كل حب ينتهى نجمع جرحاً آخر .. وأنا ندوبى فخورة لأنها تغطيني»