د. نصار عبدالله يكتب: عن النفاق والمنافقين

مقالات الرأي



رغم أن النفاق ظاهرة تعرفها كل الشعوب فى سائر العصور والمجتمعات، إلا أن هناك أمثلة معينة لوقائع من النفاق التاريخى التى شهدتها بلادنا والتى يصعب على المرء نسيانها،...بالنسبة لى ولكل أبناء جيلى فإنه من الصعب جدا أن ننسى العبارات التى كان أنور السادات رئيس مجلس الأمة فى ستينيات القرن الماضى يخاطب بها جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية والتى كانت تذاع على الهواء مباشرة، والتى كانت تنطوى فى بعض فقراتها على عبارات تكاد أن ترتفع بعبدالناصر إلى موقع التأليه،ولا يمكن أن ننسى تلك الإنحناءة الشهيرة التى انحنى بها فى خشوع أمام تمثال جمال عبدالناصر فى أعقاب رحيله عن عالمنا، وكأنما هو مريد من المريدين أو كأنه تابع من الأتباع الصوفيين وقد مثل أمام شيخ مشايخ طريقة يدين لها بالانتماء والولاء (ثبت فيما بعد أنها ليست طريقته على الإطلاق ولا تمت إليه بصلة!).. وليس بوسعنا كذلك أن ننسى ذلك الخطاب الشهير الذى ألقاه عبدالناصر نفسه فى مجلس الأمة يوم الانفصال المشئوم لسوريا عن مصر، حين قال: “.. ولقد أصدرت أوامرى إلى قواتنا البحرية لكى تتحرك لدعم القوى التى لا تزال تدافع عن الوحدة”،..عندئذ دوى تصفيق حاد من جميع أعضاء المجلس، غير أن عبدالناصر يستطرد قائلا: “ولكننى رأيت أن الدماء العربية لا ينبغى أن تسفك بأيد عربية، لهذا أصدرت أوامرى لتلك القوات بالعودة “، حينئذ دوى تصفيق أكثر حدة( ربما لمحو آثار الانطباع الذى تركه التصفيق السابق!)، وبالمناسبة فأنا لا أشك فى وطنية الرئيس عبدالناصر ولا أشك فى أن قراره بعدم استخدام القوة لاستعادة الوحدة كان هو القرار الصائب (وهذا هو ما أكدته الأحداث التالية والدامية التى شهدتها سوريا بعد ذلك، بل ولا تزال تشهدها إلى الآن، والتى كان من الممكن أن تجعل الوجود المصرى فى سوريا حماما حقيقيا من الدم رغم أن استعادة الوحدة نفسها بالقوة كانت عملا مضمون النجاح على المدى القريب والمباشر فى ظل التأييد الجارف من القوى الوحدوية التى كانت فى ذلك الوقت ولعلها ما زالت تمثل الأغلبية الغالبة من الجماهير السورية، لكن هذا لا ينسينا أن الجماهير الوحدوية ليست هى كل القوى السياسية فى سوريا، وأن أعداء الوحدة لهم امتداداتهم الإقليمية والدولية التى كانت سوف تزودهم بالمال والسلاح، وهو ما كان كفيلا بتفجير حمامات الدم على المدى الأبعد) ورغم ذلك كله فإننى مازلت منذ ذلك اليوم وإلى يومنا هذا تدهشنى تلك القوة العارمة التى صفق بها النواب للشىء ونقيضه فى آن واحد تقريبا (وهى سمة لا تزال للأسف الشديد تميز أغلب نواب الحكومة فى مصر، لا فرق فى ذلك بين عصر التنظيم السياسى الواحد وبين عصر تعدد الأحزاب”،... مثل هذا النفاق التاريخى هو الذى قادنا بالفعل وهو الذى يمكن أن يقودنا مرة أخرى إلى كوارث لا نعلمها، فليست مهمة ممثلى الشعب ولا مهمة المحيطين بالرئيس أيا ما كان مستوى وطنيته وإخلاصه، ليست مهمتهم أن يؤمنوا على كل ما يراه ولا أن يصفقوا لكل ما يقوله،.. وفى المثال السابق فإننى لا أظن أن واحدا من الأعضاء كان سوف يشنق أو حتى كان سيعتقل لو أنه لم يرفع يديه بالتصفيق فى إحدى المرتين على الأقل،..إن هذا التصفيق المستمر من جانب نواب الحكومة لرئيس الحكومة أو لرئيس الدولة من شأنه أن يزرع فى نفسه تدريجيا خاصة إذا طالت مدة رئاسته من شأنه أن يزرع فى نفسه أنه معصوم من الخطأ، وهنا تكون بداية الكارثة التى يساهم فى صنعها أولئك الذين جعلوا رؤساءهم مبرمجين على توقع الثناء لا على تقبل النقد، بل إن مثل هذا النوع من التصفيق هو ما سيغرى الرئيس أى رئيس بأن يحاول أن يعدل الدستور إذا ما انقضت الفترة الثانية من رئاسته لكى يستطيع ترشيح نفسه مددا أخرى، وهذا هو ما سيدفع بعض المنافسين المحتملين أو أنصارهم إلى التفكير جديا فى اغتياله باعتبار أنهم سوف يخوضون منافسة غير نزيهة وغير متكافئة، يسيطر فيها أحد المرشحين بحكم طول المدة التى تولاها على كل أجهزة الدولة (هذا هو أحد الفوارق الأساسية بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتخلفة التى لا تفتأ تزعم أنها أفضل أخلاقيا من الغرب، وهو زعم غير صحيح، لأن النفاق نقيصة أخلاقية ما بعدها نقيصة: انظر مثلا إلى الشعب البريطانى وإلى نوابهم وما فعلوه برئيسهم ونستون تشرشل بعد أن كسب الحرب العالمية الثانية ؟...لقد أسقطوه !! وانظر كذلك إلى حزب العمال البريطانى وما فعلوه برئيسهم بلى؟، انظر وقارن بنفسك بين هؤلاء (عندهم) وأولئك (عندنا)،.. هل أروى لكم مثالا آخر للنفاق التاريخى؟.. إنه يوم 5 يونيو 1967 عندما طار المشير عامر لتفقد قواتنا على الجبهة..عندئذ قيدت المدفعية المضادة للطائرات على مستوى الجمهورية بالكامل وهرعت كل القيادات العسكرية تاركة مواقعها لكى تكون فى شرف استقباله!..بينما كان العدوان قد بدأ فعلا!.. لا تظنوا أن الوضع الآن قد تغير كثيرا فعندما تزور شخصية مهمة موقعا ما من مواقع العمل، تتعطل كل الأعمال والأحوال ويهرع الجميع لكى يكونوا فى شرف الاستقبال، وهذه فى حد ذاتها كارثة فادحة حتى لو لم تترتب عليها كارثة أخرى أشد فداحة.