مينا صلاح يكتب: حكايات "ناجي العلي" على رصيف شريف باشا

مقالات الرأي



مررت من أمامه، جذبني إبداعه، ولوحاته المنتشرة حوله، وعلبة ألوانه، وصوت أم كلثوم الخافت، فألقيت عليه السلام، فقابلني بالتحية، ومدحته فشكرني، وذهبت عشر خطوات، على رصيف شارع شريف باشا، فناداني "خُد يا استاذ عاوزك في كلمة"، ودار بيننا حديث، فقال لي أنا متابع جيد لجرنالك، ولرئيس تحريره، رسمته من قبل كثيرًا، وأذكره يوميًا في حديثي مرات عدة، فله باع وخبرة وأسلوب وحنكة، وحقيبته الثقافية والفكرية تنضح دومًا بالأسرار، فشكرته وطلبت منه أن يرسمه، فرسمه وهو مغمض العينين، فتعجبت له كثيرا كيف له أن يفعل ذلك.

عم مصطفى أحمد الشهير بـ"منصوفيتش"، المقبل على القرن السابع من عمره، يفترش جزء بسيط من الشارع، يوميا ليلًا وليس نهارًا، ليبدأ إبداعه من الساعة العاشرة مساء، وحتى الساعة الخامسة فجرًا، في هدوء الشوارع الصاخبة ونسائمها المنعشة.

ظل يرسم طيلة عمره، شخصيات عدة، ويمر من أمامه كثيرون، منهم من يقدره ويعرفه، ويجلس معه، ومنهم من يظنه رسامًا هاويًا، فالأصالة فُرشته مذاق خاص، وحدوته ممتعة، وأنغام خفيفة، وللوحاته تأثير السحر على النفس.

قال لي إنه التقى شخصيًا مع الفنانة سهير المرشدي، ومادلين طبر، والفنان محمود عبدالعزيز، ورسمهم جميعًا، وظل يعمل لديهم فترة كبيرة، يقدم لهم بورتريهات، زيتية، وأخرى بألوان مائية، فهو محترف لكل أنواع الرسومات.

ولثوان معدودة، راودني سؤال حزين، وجهته له، هل سبق لك العمل الصحفي يا حاج مصطفى؟ فأجابني بابتسامة راقية من خلف نظارته، قائلا:"يابني أنا برسم من 60 سنة"، وسرد لي جزء بسيط من تاريخه، بداية من رسمه للفنان محمد عبد المطلب رحمة الله عليه، مرورًا بزمالته لفنان الكاريكاتير الراحل ناجي العلي، وهنا استوقفته بدهشة شديدة، للوقوف على تفاصيل حياة الفنان الذي تم اغتياله في لندن منتصف ثمانينات القرن الماضي.

بدأ حديثه لي:"عملت مع ناجي العلي في جريدة القبس الكويتية، عام 1980، وكان أول احتكاك مباشر بيننا، حين وقف خلفي وأنا ممسكًا بألواني، انهي إحدى رسوماتي، قائلًا لي رسمك مش بطال، ثم تطورت العلاقة إلى مشادة كلامية، حاولت أن أوضح للعلي وجهة نظري في إحدى رسوماته، ولكنه رفض بشدة، قائلا لي: (أنا مش فنان)، واستعجبت لما قاله، وصار يصرخ وهو واضعا يداه في جيبيه (أنا مش فنان)، ومن ثم زال الخلاف، وبسبب عصبية ناجي العلي يا بني لم يكن لديه أصدقاء، لكنه كان صاحب رسالة، وهدف، ولن أنسي مواقفه التي كانت تتسم بالجرأة الممزوجة بالتهور، فلم يكن يقبل رشوة، ولم يخشي ملكًا أو رئيسًا أو أميرًا.

يوما ما يابني كان الفلسطينيون يخشون الملك عبدالله حاكم الأردن، خاصة في ذلك التوقيت، كان كل من يهاجم الملك أو يذكر أسمه، يحال للمحاكمة، وفي ذروة الأزمة، فاجئنا ناجي العلي برسمة شديدة اللهجة ضده، وبعدها صدرت أوامر بطرد قائمة تضم عدة أسماء، كان من بينها ناجي العلي، والذي اصطحب أفكاره ورافق أداوته، وذهب إلى المملكة المتحدة، ليرسم من هناك، حتى اغتالته رصاصات الغدر، في وجهه، وقت مروره في إحدى شوارع لندن.

وقص علي عم مصطفى حكايات كثيرة، لن تستحق سوى أن تنشر في مجلد ذو غلافًا مطليًا بمياه الذهب.

وتركت العجوز، وأخذت أردد أبيات الشاعر الكبير الراحل، عبدالرحمن الأبنودي، عن العلي،: "يا قبر ناجي العلي.. وينك يا قبر.. يا قبر معجون بشوك مطلي بصبر.. الموت بقرّب عليه .. يرتد خوف.. وإذا ما خافشي الموت .. يرتد قبر"، ولكني حزنت كثيرًا، واشدت ألمي، وتعالي صراخي الحبيس بين ضلوعي، حين سألني أحد الشباب، من يكون، فحبست أنفاسي، وتجمدت دموعي، وقصيت عليه حكاية الفرشة التي قاومت الاحتلال، وبثت الرعب في نفوس الإسرائيلين.