د. نصار عبدالله يكتب: المتعبد لله بحب الوطن "4"

مقالات الرأي



نواصل هذا الأسبوع ما بدأناه فى الأسابيع الماضية من الحديث عن خالد محيى الدين الذى لا نظن أن عبارة واحدة يمكن أن تكون عنوانا لشخصيته سوى أنه: «المتعبد لله بحب الوطن»، فمنذ تخرج فى الكلية الحربية عام 1940 وهو يؤرقه ما كان يؤرق أغلب الضباط المصريين من البحث عن طريق لهم ولوطنهم مصر يصلون من خلاله إلى ما هو جدير بها من الاستقلال والكرامة، وذات يوم من أواخر أيام 1944 مر على خالد زميله وصديقه عبدالمنعم عبدالرؤوف وأخبره بأن هناك ضابطا يحمل نفس هذه الهموم الوطنية جديرا بالتعرف عليه اسمه «جمال عبدالناصر»!!، وهكذا تم التعارف لأول مرة بين محيى الدين وعبدالناصر، وبعدها طلب منه عبدالمنعم عبدالرؤوف أن يتعرف بضابط آخر، كان هو الصاغ محمود لبيب الذى تبين فيما بعد أنه مسئول الجناح العسكرى فى جماعة الإخوان المسلمين!!، وبالفعل ذهب خالد وعبدالمنعم وكان معهما عثمان فوزى للتعرف عليه والاستماع إلى أحاديثه «الوطنية»، وبدأ محمود لبيب يتكلم فى تؤدة، وطبقا لما سجله خالد محيى الدين فى كتابه: « الآن أتكلم» فإنه بدأ يتطرق إلى موضوع الدين دون تعجل، فقد كان يعرف أن المحرك الأساسى للضباط هو القضية الوطنية، فظل يتحدث عن هذا الموضوع، ولكن بنكهة إسلامية!!.. وعندما كان محيى الدين يلح عليه لإعطاء إجابات محددة للأسئلة التى كانت تشغل باله وبال الضباط الوطنيين عموما، ومن قبيلها ما هو مفهوم الوطن لديه وما هى حدوده، كيف سنحرره وبأية وسيلة؟.. وما هو الموقف من المفاوضات؟.. كان محمود لبيب يجيب إجابات حذرة وفضفاضة.. فلم يكن يريد أن يخسر الحاضرين ممن لا يتعاطفون مع الجماعة إذا ما غامر وقام بتقديم الإجابات التقليدية لجماعة الإخوان!، ومن ثم كان يقول مثلا: مصر سيحررها رجالها، وشباب القوات المسلحة هم قوتها الضاربة!!.. وما إلى ذلك من الإجابات المراوغة التى لا تطرح خططا عملية محددة والتى لا تكشف من ثم عما هو وراءها من المخططات!، وهو ما جعل عثمان فوزى بحكم ثقافته وخبرته الواسعة يشتم رائحة الإخوان من الحديث، وقال لخالد وهما عائدان من المقابلة: «هذه جماعة خطرة، وضارة أيضا».. لكن خالد بحكم تربيته الدينية الصوفية كان سعيدا بالمقابلة، وكان من رأيه أن الوطن بحاجة إلى تقديم التضحيات، وأن الاتجاه الإسلامى يمتلك القدرة على أن يبث فى الشباب روح التضحية!، لكن عثمان فوزى أصر على وجهة نظره فى أن تلك الجماعة خطرة وضارة، وانسحب تماما من الحضور!!، أما خالد محيى الدين فقد استمر فى مقابلة محمود لبيب، وفى كل مرة كان يحضر المقابلة ضباط جدد، وفى إحدى المرات حضر جمال عبدالناصر!!، و هكذا فقد بدأت علاقة مع جماعة الإخوان وصفها خالد محيى الدين بأنها من نوع غريب، فقد تكونت مجموعة عسكرية تضم العديد من الضباط، ولم تعد تلك المجموعة تلتقى فى أماكن عامة، وإنما بدأت تعقد اجتماعات منتظمة فى بيوت الضباط أنفسهم، فأحيانا كان يعقد الاجتماع فى بيت الضابط مجدى حسنين، وأحيانا فى بيت الضابط أحمد مظهر «وهو الفنان أحمد مظهر نفسه!!»، وفى تلك اللقاءات الإخوانية كان يحضر جمال عبدالناصر، وكمال الدين حسين، وحسين حمودة، وحسين الشافعى، وسعد توفيق، وصلاح خليفة، وعبداللطيف بغدادى، وحسن إبراهيم، وكانت علاقة الإخوان بهؤلاء الضباط تتسم بالحساسية كما يقول خالد، فلقد وجد الإخوان أنفسهم فجأة أمام كنز من الضباط المستعدين لفعل أى شىء من أجل الوطن، لكن هؤلاء الضباط أنفسهم لم يكونوا على نفس الدرجة من الولاء للجماعة، فمثلا صلاح خليفة وحسين حمودة كانا من الإخوان قلبا وقالبا، أما الآخرون فكانوا عناصر تبحث عن طريق، نعم إنهم ليسوا ضد الإخوان بل معهم، لكنهم ليسوا معهم بالكامل، وعلى سبيل المثال كان عبدالناصر يعتقد أن الإخوان يريدون استغلال الضباط ليكونوا أداة فى أيديهم، ويعطونهم مكانة سياسية على أساس أن لهم نفوذا فى الجيش، لكنهم «أى الإخوان» لن يقدموا شيئا للقضية الوطنية، ومن هنا فإن عبدالناصر كان دائما يقول فى الاجتماعات: إذا كان لديكم نصف مليون عضو، وأربعة آلاف شعبة، فلماذا لا نبدأ بعمليات ضرب ضد الاحتلال، ولماذا لا نستغل هذه القوة التنظيمية الواسعة فى القيام بمظاهرات وتحركات جماهيرية؟