الدكتور أحمد أبورحيل يكتب: الفقير والصمت

مقالات الرأي



فى اطار لقاءات الرئيس المتكررة مع الشباب فيما يسمى بالمؤتمر الوطنى للشباب فى دورته الخامسة الذى انعقد بفندق الماسة ،وفى اطار المناقشة التى دارت فى فعاليات الجلسة الختامية لهذا المؤتمر ،خرج علينا المدير العام لجمعية الاورمان الخيرية ليدلى بتصريح بإنه لايوجد فقير بمصر. 

والحقيقة أن الكثير منا اندهش إذ لم يكن الجميع بل فقد أثارغضب السامعين، لكونه يخالف المنطق وإنه عارى تماماَ من الصحة،وأنا لا استطيع أن اقول على هذا التصريح إلا انه رأى لأن الرأى دائماً يحتمل الصواب والخطأ،وهو قد يكون مخطأ بل أؤكد انه مخطئ. 

وببساطة شديدة دعونا نؤكد انه مخطئ على هذا التصريح: إنه مدير عام لجميع تعمل فى مجال مكافحة الفقر ،إذن وجود الجمعية ووجود منصبه مرتبط بوجود الفقر ،إذ الجمعية موجودة وهو موجود بمنصبه إذن هناك فقر.
وإلا أن جمعية الاورمان تنفق اموال التبرعات على غير المستحقين !
ثانياً:نفس هذا الشخص صرح إنه قبل نهاية عام 2018م لم يكون هناك منزلا فى مصر دون سقف، فضلا عن استعدادات الجمعية فى شهر رمضان بتوفير أطنان من السلع الغذائية الأساسية من زيت وسكر وسمن .
فلماذا هذا التصريح إذ لم يكن هناك بمصر فقير !
ثالثاً: إذا نظرنا لمعدلات الفقر التى قام بنشرها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى آخر تقرير له عن الفقر والفقراء: 
27.8%من السكان فى مصر فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتيجاتهم  الأساسية من غذاء وغير غذاء،وأن 57% من سكان ريف الوجه القبلى فقراء فى مقابل 19.7% من ريف الوجه البحرى ، وأن نسبة الفقراء فى حضر الوجه القبلى 27.4% فى مقابل 9.7 من حضر الوجه البحرى .هذا التقرير هو عام 2015م 
أما نحن وفى عام 2018م وبعد هذه الاجراءات الاقتصادية، اترك لحضراتكم الاجابة على هذا التساؤل وهو هل معدلات الفقر زادت ام لا؟
رابعاً:اذ لم يكن هناك فقراء لماذا توجد وزارة التضامن الاجتماعى وغيرها من المؤسسات والوزارات المعنية بالفقراء ؟
خامساً:إذ لم يكن هناك بمصر فقير لماذا برنامج تكافل وكرامة الذى تتوسع الدولة فيه  ليشمل كثير من الفقراء ؟.
سادساً:إذ لم يكن هناك فقير بمصر لماذا الحديث عن شبكات الحماية الاجتماعية  لللفقراء من جانب المسئولين ؟
وغيرها الكثير من الاسئلة التى تفيد النفى والاستعجاب من كلام السيد مدير عام جمعية الاورمان.

والغريب أن البعض ينظر إلى هذا التصريح على إنه عادى او أقل من العادى او إنه فض مجالس او اعتباره ذلة لسان ،ولكن هذا الرأى خطير وخاصة عندما يكون فى مؤتمر رسمى بحضور كبار رجال الدولة وواضعى السياسات ومنفذيها ،حيث إنه كلام صعب ويصعب على الفقراء سماعه ،إذ هو عدم اعتراف بهم وبأوضاعهم وبمعاناتهم ومدى تحملهم من اجل بلدهم ومن اجل غد افضل ،إذ هو اعتراف ضمنى بل هو اعتراف صريح بعدم وجودهم على الاطلاق،إذ إنه يوجه السياسيين والتنفيذيين بعدم وجود مثل هؤلاء الفقراء فى مصر فلا تضعوهم فى اعتباراتكم ولا برامجكم ،كما إنه يدعو الفقراء إلى احداث ضجيج لكى يستطيعوا توصيل صوتهم ويثبتون إنهم موجودون.

يالها من صدمة على الفقراء!
ياله من عدم اعتراف بالجميل !
فكيف لا نعترف بالفقراء وكأنما نعاقبهم على صمتهم وصبرهم، وللأسف هذه عادة الدنيا ،فنحن لانعترف إلا بمن يتكلم ،ولكن الصامتون ليس لهم الحق فى الاعتراف بوجودهم.

حيث أن كل شئ لدى الفقراء صامت 
((فصامت حلم الفقراء))
 يحلمون بصمت لأن ليس لديهم الوسيلة الكفيلة لتحقيق هذه الاحلام سواء الوسيلة المادية او العملية او العلمية او الاجتماعية ،فيموت حلمهم بداخلهم الذى يقتل معه رغبتهم فى الحياة، وتموت فى اعينهم البهجة والابتسامة ويفقدون الاحساس بالذات ، ويبقوا اسرى هذه الاحلام ولكن فى خيالهم فقط .

فحلم الفقراء اشبه بالسفينة التى تبحر فوق العدم ،تبحر دون شراع ولا ميناء ولا مرساه لتكون احلامهم وهم .
((وصامت عيش الفقراء ))

فالفقراء قدموا حياتهم ودمائهم حباً فى مصر ولم يحصلوا على حق من حقوقهم، بل شعارهم كله ((عند ربنا)) الفقراء هم من يفترشون طرقات المستشفيات فى انتظار دورهم، أو يعانون من تعالى طبيب عليهم وهم فى أشد الحاجة إلى العطف والحنان وقت المرض ،الفقراء هم من يتعاملون بشكل غير ادمى فى جميع المصالح الحكومية فقط لأنهم فقراء ،ولكنهم يتحملون كل هذا بصمت وبقناعة داخلهم بأن ((دى بلدنا ولازم نستحمل)) الفقراء هم من يقفون أمام الوزارات والمحافظات من اجل فرصة عمل تكون مصدرهم فى الحياة، ويقفون فى الميادين فى اقصى ارتفاع لدرجة الحرارة بحثا عن عمل يومى مؤقت يبعدهم عن العيش الحرام، الفقراء هم من يركبون المواصلات العامة ويعيشون كل يوم فى هذه المواصلات ((يوم حشر )).

وفى هذا الجو من ضغوط الحياة يعيشون فى صمت وعيونهم على غد مشرق ولسانهم يرتل بكرة احلى
 
((وصامت موت الفقراء))
فعادة مايموت الفقير فى صمت ،ولايعرف عن موته احد إلا اهله ، حيث لا يكترث احد بموته فليس للفقير قوة او مكانة او نفوذ وليس لديه المال او الجاه، بحيث تكون مصالح الناس مرتبطة به ،فيموت الفقير وكأن شيئاً لم يحدث لا احد يسأل عنه، ولا تقام لاهله التعازى ،ولاتنشر الصحف خبر وفاته، ولا تقوم القنوات بالحداد عليه، ولا يزور بيته شخص مهم.

هكذا الفقراء يخيم على حياتهم الصمت فى جميع نواحيها حتى مماتهم، فيعيشون فى صمت ويحلمون فى صمت ويموتون فى صمت بعيداً عن عالم الصفوة عالم الانتهازية واصحاب الهوى والجرى وراء المصلحة.

وفى النهاية أود أن أوجه رسالة إلى اصحاب الكلمة فى بلادنا عليكم أن تراقبوا السنتكم فيما تقوله  حتى تتحقق الوقاية من تأثير كلماتها على نفوس سامعيها ،فاللسان ليس به عظام ولكنه يكسر العظام ويقسم القوب ويهدم النفوس ويطفىء العيون.

وأوجه رسالة إلى الفقراء وإن لم أجد مااقوله إلا أن "الله يعلم ولاتخفى عليه خافية"
حفظ الله مصر ،اكرم الله الفقراء ...