سيلفانا ماجد تكتب: "المسرح"

ركن القراء



في طفولتنا طالما سمعنا الكبار يتغنون بكلمة "الأمل"ويرددونها على مسامعنا ، كنا نطرب لكلماتهم ونفرح أن يعقد الكبار علينا الآمال ويتوسموا في جيلنا الخير .. كنا وقتذاك لا نزال حديثي عهد بالحياة ، الأنا فينا غضة يافعة .

وكانت تلك الكلمة " الأمل " كلمة غامضة مقلقة ، لم نرْسُمْ لها تصورا دقيقا ، ولا معنى واضحا .... غيرَ أنها بدت لنا كلمة براقة مُلهِمةً  لأحلامنا في تلك المرحلة ..  تواجه أفكارُنا العقباتِ بها.

كنا نرى الأمل في كل شيء ونتمثله في كل شيء ، نسمع الطيور في أفنائها تغرد بنغمات الأمل ، ونرى النسيم الذي يتردد في الأجواء يحمل في أعطافه رسائل الأمل...كنا نرى الأزهار في رياضها ، والأعشاب في مروجها ، والسوائم في مراتعها، تعيش جميعا بالأمل وعلى الأمل ، فنقول لأنفسنا:  متى كان الحيوان الأعجمُ والجماد الصامتُ أحقَّ منا بالأمل ؟

ولما تقدم بنا العمر واجهتنا الحياةُ بأمواجها المتلاطمةِ، وكلما ازدادتِ الصعابُ كلما بدءت الآمال في التبدد كالسراب...لكنَّنا آثَرْنا أن نستكمل الحلم اشفاقا على ذلك الخيط الرقيق من الأمل أن ينقطع، فيذهَبَ بانقطاعه كلُّ ما عَوَّلَ علينا فيه أهلُنا وكلُّ ما ارتسَمَ داخِلَ خيالاتنا الجامِحَةِ !

لقد حملنا تلك الأمانة التي سلمها إلينا من سبَقونا...أولئك الذين كانوا يعقدون علينا آمالا كبيرة كبيرة في المستقبل، فورِثْنا حبَّ الأَمِلِ عنهم، وباشرْنا بذلك الأملِ تلكَ المسرحيَّةَ التي بدَتْ في أعماقِها أكثرَ جِدِّيَّةً مما عليه ظاهِرُها. 

إذ كان يدخل وجه جديد مفعم بالأمل، وهو يركض سريعا ويَثِبُ وَثَبَاتٍ عاليةً ، فنشجعه ونصفق له ، ثم يقل ركضه وتهدأ وثباته، فنمتَعِضُ وننتقد ، ثم يتوقف ويسكن، فنهتف ونثور ، ثم يهبط من على خشبة المسرح ، ليصعد آخرُ مؤدياً نفس الدور مجدداً من غير زيادة ولا نقصان !

كنا نعرف أننا في المستقبل سنصعد ذلك المسرح ، ونقف على تلك الخشبة ، كانت كلمة " المستقبل " كلمة مضللة ، أمدتنا بوهمٍ اسمُهُ الأمان ، وأشعرتنا أن المسافة بيننا وبين خشبة المسرح طويلة جدا ، وأن هناك متسعاً من الوقت للتخطيط والتنظير والأحلام.....واثقين أننا حتماً سنشعل خشبة المسرح وسنجعل تلكَ المسرحية أكثر إثارة .

وشاءتِ الأقدارُ أن يأتِيَ اليومُ الذي نؤدي فيه دوراً طالما رأيناه، وتبدلتِ المقاعدُ فنحن الآن نُشَاهَدُ بعدَ أنْ كُنَّا نُشَاهِدُ!

لقد وجدنا أنفسنا واقفين على خشبة المسرح ، وجدنا أنفسنا نركض بسرعة و نَثِبُ بحماس....نتصفح وجوه الأمل وجها وجهاً ، ونَرِدُ مَنَاهِلَه منهلا منهلا .. ثم فجأة....توقفنا كغيرنا.

علمنا أننا تبوأنا مقاعدنا، وأدينا دورنا الموكل إلينا كمن سبقونا ، وأن ما كنا نَعُدُّه أملاً قد باتَ سراباً ذهب بذهاب دورنا الدابر ، وأصبح فصلا باليا في مسرح الحياة الغابر !

وغادرْنا المسرحَ وألقينا عليه نظرة طويلة جمعت في طياتها النظرات البائسات من حزن وبأس ولوعة وشقاء لم نسترجعها إلا مبللة بالدمع !

أردكنا حينها لماذا يتخفف الناس من الآمال والأحلام...فهم بالطبع لا يفعلون ذلك زهداً في الحياةِ، ولكنه الواقعُ الذي تفرضه عليهم الأحداث !

كنا نعتقد ونحن في مصافِّ المشاهدينَ أن المسرحية ثنائية اللون...أبيض ناصع البياض ، وأسود قاتم السواد، وعندما تبدلت المقاعد وجدنا ألواناً كثيرةً....وجدنا الرمادي هو اللون الأوحد الذي لا لونَ سواه!

علمنا أن الأمر معقد يستعصي على التبسيط .. علمنا ان التغيير أكبر منا جميعا .. صرنا عاجزين عن تغيير مسار الأحداث كما عجز الذين من قبلنا ، صرنا نتقبل هزائمنا المتتالية كما تقبلها الذين من قبلنا ، صرنا نمرر الأمل لغيرنا كما مُرِّرَ إلينا لنتخلص من وطأته على نفوسنا كما نتخلص من ثيابنا التي ضاقت بنا و أضاقت علينا !

لكن بقي علينا واجب أخلاقي تجاه من سيحلون مكاننا ويقفون موقفنا على المسرح ، وهو ألا نشربهم الوهم الذي شربناه ، فيركضون بغير وجهة  ، ويصلون بغير قبلة .. أن ننزع منهم كل أمل كاذب ورجاء خائب .. كل أمل لا يبنى عليه عمل .. كل ثقيل معيق .. كل أمل فارغ من المضمون !