إسراء عباس تكتب: فن الإدارة على طريقة ملاحظي العمال

ركن القراء



يحلو لي مشهد للفنان أحمد حلمي بفيلمه الساخر "مطب صناعي" حينما ذهب للعمل بالقاهرة مع أحد المقاولين، حيث يشرح له الفنان سعيد طرابيك طبيعة العمل "الشغل معانا بسيط خالص هتشوف عامل نايم تصحيه وواحد مش شغال تفوقه واحد هربان من الشغل تقولي عليه، تتابع العمال يعني" ليرد الفنان أحمد حلمي "منبه يعني!!".

لا أعرف إن كان أحمد حلمي يعلم أم لا أن وظيفته تلك هي المنهج الإداري المتبع في أغلب المؤسسات التي يديرها المصريون.

دعوني أضعكم في مشهد لموظف يبدأ لتوه العمل في إحدى الشركات، وهو يخطو خطواته الأولى بانبهار "ايه الروعة دي الشركة مليانة كاميرات مراقبة وشكلها بتحافظ على السيفتي بتاع موظفينها، يعني أسيب حاجتي هنا وأنا مطمن".. لكنه لا يعلم أن تلك الكاميرات لم تُرَّكب؛ للحماية من السرقة، ولكنها وُضِعت لمراقبة الموظفين فواحدةٌ مُوجهة تجاه الحاسوب الخاص بك؛ لترصد ما إذا تجرأت على تقضية وقت العمل الثمين في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي أم لا، والأخرى وجهت عليك لترصد كل تحركاتك، ومتى غادرت مكتبك إلى مكان آخر. 

يبدأ الموظف عمله وفي منتصف الشيفت يمر "المدير" "مساء الخير يا فلان .. أخبارك ايه وأخبار الشغل ايه" ليرد الموظف "كله تمام يا افندم والشغل كويس الحمد لله"

"ولما كله تمام ايه اللي قومك من مكتبك الساعة 12:15 ورجعت بعدها 12:17 دقيقة، كنت بتعمل ايه كل ده!"؛ ليجد الموظف نفسه فجأةً في نقاش عريض حول الثلاث دقائق التي قضاها بعيدًا عن مكتبه، فإذا كنتم تعتقدون أن كاميرات المراقبة تلك يتابعها ملاحظ العمال فأنتم مخطئون؛ لأن متابعها هو مديرك الهُمَام الذي طالما حكى لك عن مسيرته العبقرية في صعود سُلم الوظائف حتى وصل إلى موقعه هذا!

المشهد لم ينته بعد فهذا الموظف يبدأ في التعرف على زملائه وتكوين صداقات معهم؛ ليرتفع صوت ضحكاته على كلمات ألقاها زميله، فيجد فجأةً من يقف خلفه ليخبره "ايه يا فلان الصوت مش عارفين نشتغل" خمنوا من هذا الشخص؟

إنه نفس المدير..

دعوني لا أخفيكم سرًا أنه لدي خبرات للعمل بأكثر من مكان إدارته من المصريين، ويختلف الأشخاص وتختلف الرؤى، ولكن الشئ الوحيد المُجمع عليه هو الإدارة على طريقة ملاحظي العمال وإشعار الموظف أن أعيننا عليك إذا تنفست فنحن نتابع نفسك، إن علا صوتك فنحن هنا، إن لم تتواجد في مكتبك فنحن نراقبك حتى وإن كنت قد أنهيت المطلوب منك. 

أتعرف لماذا؟ لأن الهدف هو تواجدك وليس المنتج الذي تقدمه، الهدف هو شعوري كمدير بالسيطرة أثناء تواجدك تعمل أمامي، إن تحدثت إلى زميلك فاحذر فإن أعيننا عليك.

يعتقد الكثير من أولئك المديرين أن هذه الطريقة في الإدارة نوعٌ من الحزم وضمان سير العمل ودقته، ولكنه لا يعلم أن صحته وكونه بشر لن يُسعفاه للبقاء كمراقب للموظفين كل تلك الفترة وفي كل تلك المواقع ولا يعلم أيضًا أن المدير الناجح هو من ينام في منزله وهاتفه مغلق والعمل يسير على أكمل وجه..

أعلم جيدًا أن الإدارة مسؤولية كبيرة ولكنك لن تستطيع أن تبقى ملاحظًا للعمال لفترة كبيرة لتراقب "كلوا ولا مكلوش، بيتكلموا عنك ازاي، بيقوموا من على المكتب أو لأ، قاعدين قدامك على الكتاب "أقصد على جهاز الكومبيوتر" وبيشتغلوا أو لأ" ولن تستطيع أن تمسك يد أحد أو تجلده؛ لتعاقبه على عدم أدائه عمله، فمن الأفضل أن تخلق بداخله حس المسؤلية أو حتى الخوف من العقاب، وليس الخوف من المراقبة، وألا تتعامل معه بمبدأ  أنا أريدك ألا تعمل ولكن دعني لا أراك ولا أعرف ذلك..

أحترم كثيرًا كل المهن وفي مقدمتها العمال لأنهم من أكثر البشر اجتهادًا ولكن انتقادي هو لمنهجٍ إداري ساهم في تعطيل المئات من العقول وتحويل الموظف إلى مجرد آلة ورقم نديرها ونراقبها كيفما شئنا؛ ليخرج لنا مجرد منتج تقليدي يفتقر إلى اللمسة الإنسانية التي تعطي الروح، وستحل محله الآلات عبر السنين..

إذا كنت مديرًا ممن يتبنى منهج ملاحظي العمال فراجع نفسك؛ لأنه إن تمكنت من السيطرة على موظفينك لفترة فلن تتمكن طوال الوقت وتذكر دائمًا أنك لا تستطيع أن تمسك بيد إحدهم وتشغلها، فكل يتحكم في عضلات يده..

ربما يتساءل قارئ هذا المقال: "إذًا ما الحل لهذا النظام الإداري وما البديل لذلك؟"..

أعلم أني لست ممن لديهم خبرة إدارية؛ كي يقترحوا الأسلوب الأمثل للإدارة، ولكني أرشح طرقًا أخرى قد تكون الأفضل؛ لأنه إذا كنت مديرًا فلا بد وأن تضع في اعتبارك أنك تحتاج إلى موظفينك بقدر حاجتهم إليك وربما أكثر قليلًا، وأن سببًا آخر من أسباب نجاحك الإداري هو بقائهم في العمل لأطول مدة ممكنة، وبأكفأ جودة شغل مقدمة، فما رأيك عزيزي أن تشركهم في الإدارة وتشعرهم أنهم أصحاب قرار وليسوا فقط محكومين بقوانين المؤسسة أو قوانينك الشخصية، ما رأيك أن تجعلهم جزءً من تلك العملية الإدارية وتشعرهم أنهم أحرار من حيث المراقبة، ولكنهم مسؤولون من حيث العمل والكفاءة. ما رأيك أن تطلق لهم العنان لإظهار مهاراتهم واستهلاك 70% مما يستطيعون أن يقدموه للعمل؛ لأنه الضغط يدفع أي إنسان لاستغلال ربما 20% فقط من المهارات التي يمتلكها..

الاستثمار في البشر يصنع الحضارات، والاستثمار في الآلآت ينهار مع أول هزة أرضية تضرب تلك الحضارة..

جربوا قليلا ربما لا تخسرون شيئًا أكثر من خسارتكم وأنتم تقدمون نموذج ملاحظي العمال!