تفسير الشعراوي للآية 135 من سورة الأنعام

إسلاميات



{قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ(135)}

والقوم هم الجماعة، وعادة يطلق على الرجال لأنهم أهل القيام للمهمات؛ لأن الشأن والأصل في المرأة الستر والبيتوتة والاستقرار في البيت للقيام على أمره ورعايته. وحين تقرأ القرآن تجد كلمة (قوم) وتفهم أن المقصود منها الجماعة التي تجمعهم رابطة، وأنها للرجال خاصة، والمثال هو قول الحق: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ...} [الحجرات: 11].

وما دام قد جاء بمقابل {قَوْمٌ}: {وَلاَ نِسَآءٌ}، ف {قَوْمٌ} هذه للرجال ومأخوذ منها (القيام للمهمات)، ومأخوذ منها (القيامة). ولذلك الشاعر يقول:
ولا أدري ولست أخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء

يعني أرجال أم نساء. {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} [الأنعام: 135].

و(المكان) هو الحيز الذي يأخذه جسم الإِنسان؛ فكل كائن له مكان، إن وقف له مكان، إن قعد له مكان، والمكان هو المملوك والمخصص لك من الأرض، فحين تقف في مكان لا يقدر آخر أن يقف فيه وأنت واقف، بل يجب أن يزحزحك عنه، وحين تزحزح من هو واقف، فهو يروح إلى مكان ثانٍ، ويمتنع التداخل بين اثنين في حيز لا يسع إلا واحداً، وهذا أمر فطري؛ فتجد الولد الصغير الذي لم يدرك أي شيء ويقدر أن يقف فقط، ثم يريد أن يقعد على الكرسي الذي تجلس عليه أخته أو أخوه، فقبل أن يقعد على الكرسي يشد من يجلس عليه؛ لأنه يعرف بالفطرة أن اثنين لا يوجدان في حيز واحد.

وترى ذلك أيضاً في غير الجرم المرئي، فأنت حين تأتي قارورة وتضعها في ماء لتمتلئ تسمع صوت الهواء الخارج منها في بقبقة؛ لأن الماء لا يمكن أن يدخل إلا أن خرج الهواء، ولأن المياه أكثف فهي تضغط ليخرج الهواء، وهذا ما يؤكد عدم التداخل. أي لا يوجد شيئان اثنان في حيز واحد. ومكانتك هي الموقع الذي تستولي عليه، ولذلك حتى في الجيوش وفي الحرب توضع الخطط من أسلحة مختلفة، لتستولي على الأماكن.

و{اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} هو قول موجه إلى الجماعة الذين عارضوا النبوة ووقفوا منها هذه المواقف، فيقول لهم الحق تهديدا لهم وتيئيسا من أنهم لن يصلوا إلى النيل من رسول الله: اعملوا على قدر استطاعتكم من التمكن، أو أثبتوا على ما أنتم عليه من الخلاف والمناهضة، لماذا؟؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عامل أيضاً: فلن يكون ثباتكم مانعاً لي من العمل؛ أنتم تعملون وأنا أعمل، أنتم تعملون على طاقاتكم، وأنا أعمل على طاقاتي الإِيمانية ومدد ربي الأعلى من الطاقة. {قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 135].

{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار} و(له) تعطي دلالة إلى أن الإِيمان ستكون عاقبة الدار لصالحه؛ لأن الآخرين لن تكون لهم بل عليهم، وساعة ترى (اللام) اعرف أن الأمر لهم لا عليهم. فكأن الظالمين إن تنلهم عاقبة فهي ليست لهم، وإنما عاقبتهم عليهم، ولن يفلح الظالمون.

ويقول سبحانه من بعد ذلك: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث..}.