بين الخوف على الميراث والوفاء.. أبناء يرفضون الزواج الثاني لآبائهم.. وعلماء نفس يحذرون

تقارير وحوارات



الزواج حق شرعي لأي رجل أو امرأة تتوفر فيها شروطه، سواء كان زواجًا للمرة الأولى أو كان ثانيًا بعد وفاة أحد الشركين أو انفصال.

 

في المجتمعات الغربية، يعتبر الزواج الثاني، أمر طبيعي لأي رجل أو امرأة، ما دام الشرط الذي من أجله مستوفٍ، ولكن في الوطن العربي يعتبر أمر غريب يعارض العادات والتقاليد الموروثة، ويروه الأبناء عدم وفاء للأب أو الأم المتوفية، أو المطلق أو المطلقة.

 

سعاد إبراهيم: ترفض زواج والدها بسبب الميراث

قالت سعاد إبراهيم الولي، موظفة بإحدى مكاتب البريد المصري، إنها وإخوتها رفضوا زواج والدهم، عقب وفاة أمهم، بسبب كبر سنه وتخطيه الـ60 عاما، وكانت النتيجة، أنه أصيب بأمراض كثيرة، منها آلام في الظهر، وفقدان للذاكرة، وشعروا جميعًا بالندم، ولكن بعد فوات الآوان، قائلة: "ملعون الميراث اللي يجعلنا نرفض راحة والدنا ونقتله وندمر ما تبقى من حياته بأيدينا".

 

نجوى محمد: رفضنا زواج والدنا من بدوية

نجوى محمد، قالت إن والدها أحب سيدة في الشرقية، في أثناء زيارته لأختها المتزوجة هناك، ولكنهم رفضوا ذلك لأن السيدة التي أحبها، كانت بدوية، ولن تندمج مع عاداتهم وتقاليديهم، خصوصًا وأن طريقة لبسها مختلف تمامًا، وأنهم يخشون أن ينجب منها طفلًا وتحدث مشاكل بسبب الميراث.

محمد منير: الزوجة الثانية نصبت على والدنا

محمد منير، قال إن والده تزوج ثلاث مرات بعد وفاة والدتهم، وجاء زواجه للمرة الثانية بعد مشاكل عدة وخلافات كبيرة، ولكنه أصر على الزواج وبالفعل حدث، ولكن زوجته الثانية كانت تريد المال الذي بحوزته، وحدثت مشاكل بينهما ثم كان الانفصال، وحصلت منه على مبلغ كبير بعد طلاقها، ثم تزوج الثانية وحصل نفس الأمر وهو متزوج لللمرة الثالثة. 


خبير نفسي: أخطر ما يواجه كبار السن

ويقول الدكتور محمود علام، أستاذ النفسية والعصبية بطب قصر العيني الفرنساوي، وكلية الطب جامعة القاهرة، إن رفض الزواج الثاني، أخطر مشكلة اجتماعية تواجه كبار السن في مصر، وخاصة الرجال، وذلك لأسباب مادية ونفسية واجتماعية وثقافية، ويتلخص السبب المادي في خوف الأبناء على الميراث، فالأب يمكن أن ينجب طفلًا يشاركهم في الميراث، وهم يعتبرون والدهم مصدر ربحهم الوحيد، في حين يتلخص السبب النفسي في أن الأبناء ينظرون إلى والدهم الراغب في الزواج بعد تخطيه الستين عاما، على أنه شخصية أنانية يفكر في نفسه فقط، ولا يفكر في أبنائه، وخاصة إذا كانوا يريدون الزواج ولا يقدرون على تكلفته بدون مساعدة الأب، ويتمثل السبب الثقافي في انعدام وعي الأبناء بأن الزواج حق الأب الأرمل؛ لأنه يحتاج لشريك حياة يكمل الحياة معه، باعتبار أن ذلك سنة كونية وطبيعة إنسانية، وهذا ناتج عن ثقافة مجتمعية خاطئة ترى أن الإنسان تنقضي حياته بعد سن الستين، حتى ولو كان حيا على قيد الحياة.

 

وأضاف أن الأمر يصل في بعض الأحيان إلى حد تهديد الأبناء للمرأة التي توافق على الزواج من والدهم كبير السن، بشكل يجعلها تتراجع عن فكرة الارتباط بأبيهم، عملا بمنطق "الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح".

 

وأشار إلى أن رفض الأبناء يكون أكثر حدة في حالة رغبة والدتهم الأرملة في الزواج، وخاصة عندما تكون كبيرة في السن، حيث ينظرون إليه نظرة "فضيحة وعار"، ويفضلون أن تعيش خادمة لهم ولأبنائهم، عن زواجها برجل مناسب تكمل معها حياتها وتشاركه الحياة، كحق طبيعي، يكفله لها القانون والشرع الإسلامي.

 

ولفت إلى أن عدد كبار السن، من الرجال والنساء الذين يعانون من هذه المشكلة كبير جدًا، ويؤكد أنه يستقبل في عيادته رجالًا ونساءً يعانون من أمراض عضوية ونفسية، بسبب حرمان أبنائهم لهم من مواصلة الحياة مع شريك جديد بعد وفاة أمهاتهم، وأنه يعلم حقيقة مشكلتهم من خلال التحدث معهم، بعد إزالة الحرج عنهم بأسلوب الطبيب الصديق لمرضاه، وكثيرًا ما يتصل بالأبناء ويناقشهم في الأمر، لمعرفة وجهة نظرهم وسبب رفضهم، خاصة وأن بعض الأبناء يخافون على والدهم من الزواج من سيدة غير مناسبة، ويخافون من زواج والدتهم من إنسان غير مناسب، ومن خلال النقاش يستجيب الأبناء لنصائحه الطبية النفسية بالسماح للأب أو الأم بالزواج، ولكن التجاوب لا يتجاوز 10% من إجمالي الحالات.

 

وأوضح أن حرمان الآباء الكبار في السن من الزواج من جانب الأبناء، له تداعيات نفسية خطيرة على الأب، منها ، شعوره بالوحدة والإصابة بأمراضها كالقلق والتوتر العصبي، وأحيانًا الاكتئاب الشديد، فضلًا عن أمراض أخرى مثل ضغط الدم والقلب والزهايمر، وهذا يكلف الدولة أموالًا كثيرة لعلاجهم في المستشفيات العامة، بالإضافة إلى اضطرار بعض الرجال والنساء المحرومين من الزواج إلى ارتياد النوادي أو الانضمام لجمعية خيرية للعمل التطوعي، ظنا منهم بأن هذا حل للمشكلة، في حين أنه ليس كذلك، حيث يواجهون مشاكلًا أخرى ويكتسبون عادات سيئة، قد تؤدي ببعضهم إلى الوقوع فى المحظورات والمحرمات.

 

وشدد على ضرورة مناقشة هذه المشكلة من جانب كل المؤسسات الرسمية المعنية في الدولة، كالمجلس القومي لحقوق الإنسان، لتوعية المجتمع كله، بحق الأرمل والأرملة، حتى ولو كانوا كبار السن في تكملة الحياة مع شريك، لأن المسألة هنا ليست مسألة جنس أو إشباع جنسي، مع التأكيد على أن الجنس ليس عيبًا أو حرامًا، ما دام في إطار الزواج.

 

استشارية علاج أسري: الزواج الثاني حق طبيعي

الدكتورة إيمان عبد الله، استشارية الصحة النفسية والعلاج الأسري، قالت إن زواج الرجل الأرمل، كبير السن، حق طبيعي له، ويجب على الأبناء أن يشجعونه على ذلك، بدلًا من أن يحرمونه منه، لموروث ثقافي سيء وتقاليد بالية.

 

وأوردت أن جدها كان رجلا أزهريًا، كبير السن، ويبلغ من العمر 80 عاما، توفيت زوجته، وطلب منها مرارًا وتكرارًا أن تبحث له عن زوجة، وعندما أخبروه بأنه ليس وفيًا لجدتهم، كان يقول، لا.. بل كنت أحبها وأعشقها، وما زالت هي كل حياتي، ولكني أحتاج إنسانة تشاركني ما تبقى لي من العمر، وكان يردد أنه لا يريد أن يقابل الله وهو أعزب، ويضرب لنا أمثالا لبعض صحابة رسول الله، بأنهم كانوا يخطبون لأنفسهم سيدات بعد وفاة زوجاتهم بـ24 ساعة، أو في أثناء جنازات زوجاتهم، وذلك بسبب ثقافتهم المجتمعية والدينية السوية والمتماشية مع الفطرة الإنسانية، وهي الثقافة التي أخذها منا الغرب ويطبقها، ويحل بها مشاكل كبار السن هناك، رجال ونساء.

 

وأردف أن من أسباب رفض الأبناء زواج الأباء للمرة الثانية، تتمثل في أن الأبناء في مصر وبعض الدول العربية، ينظرون إلى الأب نظرة دونية، ويعتبرون مجرد تفكيره في الزواج، بمثابة عدم وفاء لأمهم،  وينظرون إليه على أنه رجل "نسوانجي"، متناسين أن والدهم الأرمل له احتياجات نفسية وجسدية يجب إشباعها، ومنها العلاقة الحميمة، والتي يسبب كبتها أمراض عضوية ونفسية، وهو ما ينطبق أيضا على الأم الأرملة حال حرمانها من الزواج.

 

وأكملت أن حرمان الآباء كبار السن من الزواج، له تداعيات خطيرة، منها تأثر الساعة البيولوجية لأعضاء الجسم، وتوقف هرمون الذكورة عند الرجل، وهرمون الأنوثة عند المرأة، وبالتالي توقف إفراز السائل المنوي في الرجال، والبويضات والتبويض في النساء، يصيب الإنسان، رجل أو امرأة، بأمراض الاكتئاب، ومنها أمراض ما بعد الصدمة، كالطلاق المفاجىء أو موت الزوج المفاجىء، خاصة ما إذا كان هذا الشخص لم يتعود أبدًا على العيش بدون شريك حياة، أو لايقدر على ذلك لأسباب بيولوجية وسيكولوجية خاصة به، فضلا عن أنه يصاب بأمراض السيكوسوماتيك، وهي أمراض منشأها نفسي جسدي.

 

ونوهت بأن الحرمان له تداعيات أخرى، أخطرها اندفاع الشخص المحروم إلى العلاقات غير الشرعية المحرمة لإشباع حاجته العاطفية والجسدية، والاتجاه إلى الزواج العرفي والسري كحل للمشكلة، بحجة أن أولادهم غير راضين عن رغبتهم في الزواج.

 

ونصحت الأبناء بأن يسمحوا إلى آبائهم بالزواج، وبأن يدخلوا في حوار معهم لتلمس سبب رغبتهم، وبعدم التسرع في اتخاذ القرار بحرمانهم منها، ومردفة أن حل المشكلة يقتضي أن يتفهم الأبناء إيجابيات الزواج بالنسبة للأب الأرمل والأم الأرملة، وأن يتفهموا أن الموافقة على زواج أبائهم فيه إكرام لهم ورد جميل تربيتهم لهم في الصغر.

 

وشددت على ضرورة حسن اختيار الزوج المناسب والزوجة المناسبة، مطالبة الدولة بإدارة نقاش مجتمعي حول هذه المشكلة الخطيرة، وأن يقوم الإعلام والدراما التليفيزيونية والسينمائية، بدورهم في تغيير وعي الناس إلى الاتجاه الذي يحرر الأباء من قبضة أبنائهم الرافضين زواج أبائهم الأرامل بمنطق الجحود الإنساني.

 

أستاذ اجتماع: التنشئة غير السليمة سبب الرفض

من ناحيته قال الدكتور رفعت الأنصاري، أستاذ علم الإجتماع، فى كلية الأداب، جامعة حلوان، إن مشكلة رفض زواج الآباء كبار السن للمرة الثانية، بآوامر أبنائهم، ترجع إلى تنشئتهم غير السليمة، وعندما تكون التنشئة سليمة، فإن الأبناء سيدركون أن الحياة الإنسانية تقوم على المشاركة، وأنهم بمجرد وصولهم لسن 18 عاما، صاروا مسئولين عن أنفسهم، وليسوا مسئولين من الأب، مثلما كان يحدث في صدر الإسلام، ويحدث حاليا في الدول الغربية، وأن زواج أبائهم في أي سن حق لهم، ما داموا قد أصبحوا أراملًا، أو طلقوا زوجاتهم، فالرجل الخارج على المعاش وتوفيت زوجته، يكون في حاجة ماسة إلى شريك حياة، ما دام يقدر على ذلك، وهو ما يجب أن يتفهمه الأبناء بدلا من الأنانية التي تجعلهم يحرمون أباءهم من حق طبيعي وشرعي وإنساني، بمبررات وكلام فارغ "هيتجوز هو، ولا يجوزنا إحنا"، "ده هيجيب واحدة تشاركنا في الميراث"، "ده باين اتجنن واتهف في مخه".

 

ورأى ضرورة طرحه مشكلة الزواج الثاني للنقاش من جانب كل الجهات والهيئات المعنية لتغيير ثقافة الناس، بشكل يهييء المناخ الثقافى والمجتمعى لحلها، مشددًا على ضرورة تفعيل المواد الموجودة في الدستور المصري الخاصة بحقوق كبار السن والمرأة وذوي الاحتياجات الخاصة، لأن تفعيلها سيساهم في حل جانب كبير من تلك المشكلة، التي يصفها بأنها قضية مهمة للغاية، ويوضح أن عمل مراكز رعاية لكبار السن، تطبيقا للدستور المصري، سيخلق جوا للتعارف بين الرجال الكبار والنساء الكبار، وبالتالي سيساهم في حل مشكلة الفراغ العاطفي عندهم بالزواج.

 

واختتم بأن عدد كبار السن في مصر، وفي غيرها من الدول العربية، ليس قليلًا، وقد يتجاوز في مصر حاجز الـ3 ملايين مواطن، ناصحًا الأبناء  بعدم الوقوف أمام رغبة أبائهم في الزواج؛ لأن رفضهم يسبب لهم أمراضًا وألاما نفسية كثيرة، قد يعانون منها وتكون قاتلة معنويًا وجسديا لهم، دون أن يعلموا أبنائهم بالأمر، ويؤكد أنهيدرك ذلك جيدا بخبرته العملية كطبيب نفسي.