عادل حمودة يكتب: ثلاثة آلاف نجم إعلامى يجيبون على السؤال الصعب.. لم اندثرت الخصوصية؟

مقالات الرأي



فى كتاب "لا مكان للاختباء" يكشف خبير الأمن الأمريكى إدوارد سنودن عن التجسس على 20 تريليون اتصال تليفونى وإيميل فى العام

الحكومة الأمريكية تجبر شركات جوجل وفيسبوك على تقديم ما لديها من سجلات ومعلومات ببرنامج تطلق عليه "مخبر بلا حدود"

المراقبة تصيب المبدعين بالخوف ويحرم الدول من ابتكاراتهم وأفكارهم الثمينة


كان حلم الصحفى الأمريكى المفلس الذى يعيش فى روما أن ينفرد بنشر أسرار الأميرة الهاربة ليحصل على مكافأة من وكالته الإخبارية يسدد بها ديونه.

يفاجأ الصحفى بالأميرة فى شقته المتواضعة التى اختبأت فيها هربا من الباحثين عنها بل وكانت تنام فى فراشه مرتديه ثيابه.

الصيد الثمين سقط دون تعب بين يديه فلم لا يستغله لتحقيق مجده المهنى؟

يلتقط زميله المصور عشرات الصور للأميرة فى أوضاع مثيرة دون أن تدرى ولكن الصحفى الذى أحبها واحبته يرفض نشر السبق الذى حصل عليه مضحيا بكل ما ينتظره من شهرة وثروة.

وينتهى فيلم «إجازة رومانية» ببطله جريجورى بيك وحيدا بينما تعود الأميرة (أودرى هيبورن) إلى حياتها الملكية.

أنتج الفيلم فى عام 1953 وبعد 8 سنوات خرجت النسخة المصرية المقتبسة منه فى فيلم «يوم من عمرى» التى تحولت فيها الفتاة من أميرة إلى ابنة مليونير.

كانت كل مشكلة «الميديا» فى ذلك الوقت انتهاك خصوصية المشاهير ومتابعة فضائحهم ولم يكن ضمير الصحفى يهتز أمام السبق الذى ينفرد به إلا فى تلك الحالة العاطفية النادرة التى يكشفها الفيلم.

لكن الميديا الآن لم تعد تكتفى بالنجوم والمشاهير وإنما اخترقت أسرار البشر جميعا بلا استثناء بعد التطورات التكنولوجية المذهلة التى جاءت بشبكات التواصل الاجتماعى بكل شرورها وآثامها وخطاياها وجرائمها التى وصلت إلى حد القتل، كما فى لعبة «الحوت الأزرق».

كانت صدفة غير متوقعة أن أشاهد الفيلم الأمريكى تعرضه إحدى الفضائيات الخاصة بعد أن انتهت جلسات «منتدى الإعلام العربى» الذى عقد مؤخرا فى دبى وشارك فيه ثلاثة آلاف من نجوم الميديا وصناعها جاءوا من عشرين دولة ناقشوا التحولات الإعلامية الحادة والمؤثرة التى نعيشها.

أضاءت المناقشات كل ما لدى الخبراء من أنوار الخطر الحمراء محذرين من الآثار السلبية للتغيرات الحادة للميديا على الحريات الشخصية والسياسية فكل ما ننشره بأنفسنا من كلمات وصور وفيديوهات على تويتر وفيس بوك وواتس آب وانستجرام لا يمحى ويوضع فى ذاكرة هذه الوسائل ليستخدم ضدنا ولو بعد سنوات طويلة.

اختارت شركة لوريال لمستحضرات التجميل أمينة خان لتكون أول محجبة تروج إعلانيا لمنتجاتها ولكنها سرعان ما أعلنت انسحابها بعد اكتشاف تغريدة ضد إسرائيل كتبتها منذ أربع سنوات ونسيتها ولكن الذاكرة الإلكترونية لم تنسها.

وأثناء حملته الرئاسية استغلت المباحث الفيدرالية الأمريكية تغريدة شكر من دونالد ترامب للرئيس فلاديمير بوتين عن رحلة قديمة زار فيها موسكو لتفتح تحقيقا حول مدى تدخل روسيا فى وصوله إلى البيت الأبيض.

وتسببت إيميلات منافسته هيلارى كلينتون التى كشفت بعد اختراق بريدها الإلكترونى فى هزيمتها.

إن التليفونات الذكية التى تتصل بشبكات الإنترنت أصبحت جاسوسا يصاحبك فى كل مكان يسجل عليك همساتك ويرصد أنفاسك ليوقع بك فى اللحظة التى يشاء.

وربما لهذا السبب تمنع المؤسسات العليا فى مصر الدخول بها إلى مكاتبها وقاعاتها وتجبر من يحملها على تركها على بواباتها خشية تسجيلات وتسريبات محرجة للمسئولين فيها ولو بحسن نية.

ولو تأملت التليفونات التى يتكلم فيها الوزراء وكبار المسئولين باطمئنان لوجدتها من طرز قديمة غير متصلة بالإنترنت.

وشاعت بين الناس عادة نزع البطارية من تليفوناتهم المحمولة حتى يثرثروا بحرية بعيدا عن المراقبة فوجود البطارية ولو كان التليفون مغلقا يحوله إلى جهاز تنصت يسجل وينقل ما يدور من أحاديث.

ولكن يبدو أن شركات تصنيع المحمول استجابت لضغوط حكوماتها فجعلت البطارية جزءا من التليفون (بلت إن) لا يمكن نزعها وهو ما جعل الناس يضعون تليفوناتهم فى الثلاجة إذا ما أرادوا التحدث دون خوف ولمزيد من الحيطة يرفعون صوت التليفزيون حتى يأمنوا شر التسجيل عن بعد.

ومن جانبها صممت شركات الإنترنت برامج لحماية أجهزة الكمبيوتر من قراصنة الإنترنت المعروفين باسم «أنيموس» الذين نجحوا فى اختراق مواقع محمية فى البيت الأبيض والبنتاجون وكثير من الحسابات فى البنوك الأكثر حرصا وأمنا.

بل إن الإيميلات المشفرة المتبادلة بين الجنرال ديفيد بتريوس (المدير الأسبق لوكالة المخابرات المركزية) وعشيقته الصحفية وكاتبة سيرته الذاتية باولا برودويل لم تنج من الاختراق وفقد القائد المحترف منصبه قبل أن يفقد سمعته.

على أن كل هذه الوسائل لحماية الخصوصية تبخرت فى الهواء عندما خرجت إلى السطح قضية إدوارد سندودن الذى أطلق على نفسه اسم «فيركس» وتعنى باللاتينية «راوى الحقيقة».

ولد سندودن فى كارولينا الشمالية ونشأ فى ميرلاند وسط عائلة متوسطة يعولها موظف خدم فى حرس السواحل ثلاثين عاما.

وحسب كتاب «لا مكان للاختباء» الذى الفه جلين جراينوالد القريب منه فإن سنودن لم يكمل دراسته الثانوية وإن كان مهتما بالإنترنت إلى حد الهوس وساعده على ذلك تمتعه بمعدل ذكاء غير عادى سهل له العمل فى وكالة المخابرات المركزية خبيرا فى تكنولوجيا المعلومات ومنها انتقل إلى وكالة الأمن القومى المسئولة عن التجسس على كل وسائل الاتصال التى يستخدمها الكبار والصغار فى الداخل والخارج وبحكم منصبه أصبح قادرا على اختراق الأنظمة العسكرية والمدنية لكل دول العالم بنجاح غير مسبوق رفع دخله إلى 200 ألف دولار سنويا.

لكنه قرر التضحية بمرتبه ومنصبه بل وحياته عندما اكتشف أن الشركات الكبرى مثل مايكروسوفت وجوجل وفيسبوك تعمل يدا بيد للوصول إلى كافة اتصالات الناس جميعا منتهكة الخصوصية المحمية بالدستور ومضحية بثقة الناس فيها.

بدأت هذه الاختراقات فى عهد الرئيس جورج بوش وما إن رحل عن السلطة حتى وعد باراك أوباما أن تكون إدارته «الأكثر شفافية» ولكنه لم يتردد فى توسيع مجالات التنصت على الشعوب والحكومات بما فيها حكومته وشعبه.

وقع أوباما فى نوفمبر 2012 توجيها رئاسيا يأمر فيه البنتاجون والوكالات المعنية بالاستخبارات للقيام بهجمات إلكترونية شرسة على العالم كله.

وحتى تحمى إدارة أوباما نفسها أصدرت أمرا سريا صادرا من محكمة تسمى «فيسا» يرغم شركات الهواتف الأمريكية وعلى رأسها شركة فيريزون على تسليم جميع السجلات الهاتفية الخاصة لعملائها إلى وكالة الأمن القومى.

وتضاعف شعور سنودن بالكارثة بعد أن وضعت وكالة الأمن القومى برنامجا أطلقت عليه «مخبر بلا حدود» لا يترك لحظة خصوصية واحدة لمواطن واحد على ظهر الأرض بجانب برنامج آخر أسوأ يسمى «بيرسيم» يسمح للوكالة بالحصول على كل ما تريد من شركات الإنترنت التى يستخدمها مئات الملايين من البشر فى العالم بما عليها من وسائل للتواصل بينهم.

شعر سنودن بتأنيب ضمير لم يتح له النوم وهو يشارك فى هذه الجرائم، فقرر أن يجمع ما تحت يده من وثائق مشينة ويضعها فى برنامج شديد السرية ويسافر إلى هونج كونج ليستدعى جلين جرينوالد وهو صحفى مستقل اشتهر بكشف انتهكات الحريات، وما إن بدأ سنودن فى ترسيب ما لديه من معلومات خطيرة حتى عرف النوم طريقه إلى جفونه بعد شهور طويلة من الأرق.

إن شعار وكالات التجسس الأمريكية هو «اجمعوا كل شىء» ولم يكن متاحا لدولة أجنبية الاطلاع على غالبية تلك الملفات سوى دول حلف «العيون الخمس» الناطقة بالإنجليزية ومنها بريطانيا ونيوزيلندا وأستراليا وكانت هناك بالطبع ملفات «ننفورم» أى ليست للتوزيع الخارجى.

والأرقام مفزعة.. على سبيل المثال.. خلال شهر واحد ابتداء من 8 مارس 2013 جمعت وحدة واحدة فى وكالة الأمن القومى بيانات حول ما يزيد على 3 مليارات اتصال تليفونى وإيميل عبر نظام الاتصالات الأمريكى.

ويشكل إجمالى ما جمعت الوكالة فى 30 يوما أكثر من 79 مليار إيميل و134 مليار اتصال تليفونى من مختلف انحاء العالم: «ألمانيا 500 مليون والبرازيل 2.2 مليار وفرنسا 70 مليونا والهند 5.3 مليار وإسبانيا 60 مليونا والولايات المتحدة نفسها 5.3 مليار».

«لقد بنت الوكالة نظاما لديه هدف واحد هو إزالة الخصوصية الإلكترونية فى العالم كله بمراقبة جميع الاتصالات التى يجريها البشر وتخزينها وتحليلها».

والوكالة فرع عسكرى من البنتاجون (أكبر مؤسسة استخباراتية فى العالم) ويجرى معظم عملها المتعلق بالمراقبة عبر حلف العيون الخمس.

وتخزن الوكالة مليارا و700 مليون إيميل واتصال يومى حتى إنها جمعت فى عام 2012 وحده نحو 20 تريليونًا منها.

ولا تستطيع الوكالة التنصت على كل الاتصالات إلا بتعاون من الشركات التى نتعامل معها ونثق فيها.

فى عام 2009 سئل أريك شميدت المدير التنفيذى لجوجل عن اتهام شركته بتسليم ما لديها من اتصالات ومعلومات لوكالة الأمن القومى فأجاب على نحو مسىء: «إذا كنت تملك شيئا لا تريد أن يعلم به أحد فلا تدخل على جوجل» وبطريقة مشابهة فى الاستخفاف قال مؤسس فيس بوك ومديرها التنفيذى مارك زاكربيرج: «إن الخصوصية لم تعد مبدأ اجتماعيا».

والخصوصية فى أفضل تعريفاتها: «أن يترك للناس شأنهم».

والحرمان من الخصوصية يؤدى إلى تقييد حرية البشر فى الاختيار.

وبدونها سيتوقف الإبداع الذى يقوم على رفض الموروث وتغيير العادات.

والأسوأ من التنصت على اتصالات الناس أن يشعروا أنهم تحت المراقبة دائما حتى ولو لم يكونوا مراقبين.. سينتج عن ذلك الشعور المؤلم والمرضى بالطاعة والإذعان.

«لا يدع التاريخ أى شك فى أن الإكراه والسيطرة هما القصد من المراقبة الحكومية وهو ما يجمد مشاعر الناس ويحد من ابتكاراتهم».

حسب تقرير لمنظمة أمريكية أهلية نشر عام 2013 تحت عنوان «نتائج مخيفة» فإن المراقبة الرسمية تدفع كتابا للتوقف برقابة ذاتية من تلقاء أنفسهم وأن كثيرا من الكتاب يفترضون أن اتصالاتهم مراقبة وهو ما غير من سلوكهم بطرق تقلص من حريتهم فى التعبير.

هنا تكون خسارة الدولة أكثر فعندما تفقد الدولة رؤية كتابها الموهوبين والمجددين فإنها لن تسمح إلا للفاشلين الذين سيدفعونها بنفقاهم نحو الهاوية.

إن أهم ما فى منتدى دبى للإعلام أنه يحذر من الكوارث التى تسببها تحولات وتغيرات الميديا قبل وقوعها بخبرة مميزة فى اختيار الخبراء والضيوف وجدول الأعمال بجانب إدارة المناقشات بتنظيم دقيق يتسم بالشفافية والبراعة.