تفسير الشعراوي للآية 103 من سورة الأنعام

إسلاميات



{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ(103)}.

ولماذا لا تدركه الأبصار؟ لأن البصر آلة إدراك لها قانونها بأن ينعكس الشعاع من المرئي إلى الرائي ويحدده، فلو أن الأبصار تدركه لحددته، وأصبح من يراه قادراً عليه، ولصار مقدوراً لكم؛ لأنه دخل في إدارككم. فلو أنك أدركت الله لكان الله مقدوراً لبصرك، والقادر لا ينقلب مقدوراً ابداً، إذن فمن عظمته انه لا يُدْرَك: أنت قد ترى الشمس، ولكن أتدعي أنك أدركتها؟! لا، لأن الإدراك معناه الإحاطة، وحين يقال (أدركه) أي لم يفلت منه، ولذلك عندما سار قوم فرعون وراء موسى وقومه قال أصحاب موسى: {ا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}.

أي لا فائدة؛ لأن البحر أمامنا، إن تقدمنا نغرق، وإن تأخرنا أهلكونا وقتلونا. إذن (مُدرك) يعني محاطا به. فإذا أحاطت الأبصار بالله انقلب البصر قادرا، وصار الله مقدورا عليه. والقادر بذاته- كما قلنا- لا ينقلب مقدورا لخلقه أبدا.

{لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103].

وكل ما عدا الله محتاج إلى الله لبقاء كينونته، وكينونته سبحانه ليست عند أحد؛ لذلك {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} لأنه إن قدر على الأبصار كلها فهو قادر بذاته، والباقي مقدور له؛ لأنه مخلوق له، ومادام مخلوقا له يكون مقدورا عليه ولم يطرأ على المخلوقين شيء جديد يجعلهم قادرين بذواتهم {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار}.

وقد وقف العلماء وقفة كبيرة واختلفوا: هل الإنسان يرى ربه أو لا يراه سواء في الدنيا أم في الآخرة؟ بعضهم قال: لا أحد يرى الله بنص الآية: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} ونقول: لكن هناك آيات في القرآن تقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23].

و(ناظرة) تضمن الرؤية وتفيدها، وأيضاً فالله يعاقب من كفر به بأن يحتجب عنه؛ لأنه القائل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].

فالكافرون محجوبون عن رؤية الله عقاباً لهم. ولو اشتركنا معهم وحجبنا كما حجبوا فما ميزتنا كمؤمنين؟، إذن فالعلماء لم ينتبهوا إلى أن هناك فرقا بين الأداء القرآني وما يقولون؟ وحين يحتج عالم منهم بأن رؤية الله غير ممكنة لأن ربنا سبحانه قال لموسى: {لَن تَرَانِي ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143].

فلماذا لم يلتفت هذا العالم إلى قول الحق: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143].

إذن فالله تجلى لبعض خلقه، أما أن يراه الخلق في الدنيا فلا؛ لأن تكويننا غير مؤهل لأن يرى الحق، بدليل أن الأصلب والأقوى منا وهو الجبل حينما تجلى ربه عليه اندك. فلما اندك الجبل خر موسى صعقا، فإذا كان موسى قد خر صعقا لرؤية المتَجلَّى عليه وهو الجبل فكيف لو رآه؟! إن فهو غير معد له.

لقد اختلف العلماء عند هذه الآية، وتجلَّى خلافهم إلى أبعد حد؛ فمنهم مجيز للرؤية، ومنهم منكر لها، وأرى أن خلافهم في غير محل نزاع؛ لأنهم تكلموا عن الرؤية، والكلام هنا عن نفي الإدراك، والإدراك إحاطة؛ والرؤية تكون إجمالاً، إنما الإحاطة ليست ممكنة، وعلى تقدير أن الرؤية والإدراك متحدان في المفهوم نقول: لماذا يكون الخلاف في أمر الآخرة؟ لو أن الخلاف في أمر الرؤية في الدنيا لكان هذا كلاماً جميلاً، ولكن الخلاف جعلتموه في الآخرة.
إن آيات القرآن صريحة في أن رؤية الحق سبحانه وتعالى من نعم الله على المؤمنين، وهي زيادة في الحسنى عليهم، وحجبه سبحانه عن الكفار لون من العقوبة لهم ونقول- أيضاً-: لماذا لا تقولون إن الإدراك سيوجد في الآخرة بكيفية ليست موجودة في دنيانا؟ لأننا في هذه الدنيا معدُّون إعداد أسباب- وفي الآخرة سنكون معدين إعداداً لغير أسباب.

أنت هنا إذا أحببت أن تشرب تطلب الماء أو تذهب للماء وتشرب، وحين تريد أن تأكل الشيء الفلاني، تقول لأهل البيت: اصنعوا لي كذا أو تشتري ما تريده، إنما هناك في الآخرة بمجرد أن يخطر ببالك ما تشتهيه تجده أمامك، وهذا قانون جديد لا ارتباط له بقانون الدنيا، فلماذا لا يكون في تكويننا في الآخرة أيضاً قانون يمكن به أن نرى الله وفي إطار ليس كمثله شيء؟

إن في الآخرة قضايا يتفق الجميع على انها تخالف قوانين الدنيا ونواميس العالم المعاصر لنا الآن في الأكل والشرب، والتخلص من الفضلات، لكن في الآخرة سنأكل ونشرب ولكن لن توجد فضلات؛ لأنك أنت الان تطهى وتهضم، وفي الهضم أنت تأخذ بعض الطعام ويبقى منه فضلات لابد أن تخرج، لكن الطهي والهضم في الآخرة ب (كن) وليس له فضلات، إنه طعام بقدرة القادر، في الجنة كل ما تريده ستناله دون أن ينفد، وفي الدنيا أي شيء يؤخذ منه ينقص، أما في الآخرة فلا شيء ينقص لأن له مدداً من القيومية.

ويعقب الحق سبحانه وتعالى بعد القضيتين: {وَهُوَ اللطيف الخبير} ولطيف تناسب {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} و{الخبير} يناسب {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} ولطيف لها معنى خاص، فالشيء اللطيف يستعمل في دقيق التكوين- ولله المثل الأعلى- إن الميكروب لم نعرفه إلا مؤخراً لأنه بلغ من اللطف والدقة بحيث لا تدركه العين، لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه، وإن دق الميكروب عن ذلك فلن نراه، وقد اكتشفنا (الفيروس) ونحاول معرفة المزيد عن خصائصه، إذن كلما دق الشيء يلطف ولا يمكن أن نراه، فالشيء إذا لطف شرف وعلا ونقول- ولله المثل الأعلى-: فلان لطيف المعشر، والحق سبحانه لطيف في ذاته ويلطف بعباده.

إنك ساعة ما تسمع (لاطف) فهذا اسم فاعل، مثلها مثل (آكل)، وحين نقول: (لطيف) فهي مبالغة في اللطف؛ لأنه لاطف بكل إنسان وكل كائن وهذا يحتاج إلى مبالغة، ولذلك نقول: رحيم، وهي صيغة مبالغة؛ لأنه يسبغ رحمته على عباده، وأول مظهر من مظاهر اللطف، هو تدبير أمورهم الدقيقة تدبيراً يحقق مصالحهم في وجودهم. إننا حين ندير كوب ماء لكل إنسان ندبر الكثير فما بالنا بتدبير اللطيف بعباده؟

لقد خلق لنا الأرض ثلاثة أرباعها ماء، والربع يابس، لأنه جل وعلا يريد أن يوسع رقعة الماء لأن المياه كلما اتسعت رقعتها، كان البخر فيها أسهل وأكثر، لكن لو كانت المياه عميقة ومساحتها قليلة فالبخر يكون على مستوى السطح فقط، وهنا لا يأتي السحاب بما يكفي الخلق من الماء. لقد سمع الله سبحانه رقعة الماء كي يتبخر الماء ثم ينعقد كسحب في السماء، ويصادف منطقة باردة لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها، وتشرب أنعامنا، ونسقي الزرع، وكل ذلك من لطف التدبير.

ومن مظاهر اللطف في الحق نجد أموراً لا توصف، ولذلك كل واحد من العلماء انفعل لزاوية من زوايا لطف الله على خلقه.. فواحد قال: هو(سبوغ النعم) وقال الثاني:(دقة التدبير) وقال الثالث: إن من مظاهر لطف الحق أنه يستقل كثير من النعم على خلقه، فالنعم التي منحها خلقه قليلة لأن خزائنه سبحانه ملأى وعطاياه لا تنفد ولا يعتريها نقص، ولذلك قال سبحانه: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7].

أي أن نعمه الكثيرة على عباده قليلة، وفي المقابل: يستكثر قليل الطاعة من خلقه أي يعتبرها- تفضلاً منه- كثيرة؛ لأنه هو الذي يجزي الحسنة بعشر أمثالها.

إذن فمظاهر اللطف لا حصر لها، وعلى قدر دقة اللطف تكون دقة مأتاه وإحصائه، فهو اللطيف الذي إذا ناديته لبّاك، وإذا قصدته آواك، وإذا أحببته أدناك، وإذا أطعته كافاك وإذا أعطيته وأقرضته من فضله وماله الذي منحك عافاك، وإذا أعرضت عنه دعاك فهو القائل: (يابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير منهم، وإن دنوت منّي شبراً دنوت منك ذراعاً، وإن دنوت منّي ذراعاً دنوت منك باعاً، وإن أتيتني تمشي أتيتك أهرول) وكلها مظاهر لطف. وهو المنادى: (توبوا إلى الله) والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل: (لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلاة) وإذا قربت من الله هداك.

ويأتي عالم آخر ممن انفعلوا بصفات اللطف، فيقول: الذي يجازيك إن وفيت، ويعفو عنك إن قصرت، وعالم آخر يضيف إلى معاني اللطف فيقول: من افتخر به وأعزه، ومن افتقر إليه أغناه، وعالم ينفعل انفعالاً آخر بمظاهر اللطف فيقول: من عطاؤه خير، ومنعه ذخيرة.

أي أنه لو منع عبده شيئاً فإنه يدخره له في الآخرة، كل هذه مظاهر للطف، وهذا مناسب لقوله الحق: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} إن لطفه سبحانه يتغلغل فيما لا نستطيع أن ندركه، وحين تحلل أنت أي أمر قد لا تصل إلى فهم النعمة، وإن وصلت فأنت لا تقدر أن تؤدي الحمد على تلك النعمة.

وقوله الحق: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} مناسب لكلمة (خبير)، ونحن في حياتنا نسمع كلمة (خبير) فعندما نقابل أي مشكلة من المشكلات نجد من يقول: نريد أن نسمع رأي الخبير فيها، وفي القضاء نجد القاضي يستدعي خبيراً ليكتب تقريراً في أمر يحتاج إلى من هو متخصص فيه وعليم به، إذن فالخبير في مجال ما هو الذي يعرف تفاصيل الأمر، فما بالنا بالخبير الأعلى الذي لا يستعصي عليه شيء في ملكه، وهو الذي يدرك الأبصار، فقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يناسبها (خبير)، وهذا ما يسمونه في اللغة (لف ونشر) وهو ان يأتي بأمرين أو ثلاثة ثم يأتي بما يقابلها، مثال ذلك قوله الحق: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار} [القصص: 73].

فمن مظاهر رحمته لنا سبحانه أن جعل لنا الليل والنهار، ثم قال: {لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73].

لنسكن في الليل، ونبتغي فضله في النهار، وهذا اسمه- كما قلنا- (لف ونشر).

ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ...}.