طارق الشناوي يكتب: لماذا هم في البؤرة ونحن على الهامش؟

الفجر الفني



تشارك كالعادة إيران داخل مهرجان برلين بأربعة أفلام في مختلف التظاهرات، بينها في المسابقة فيلم "الخنزير خوك"، ولها في جوائز المهرجان طوال تاريخه رصيد كبير، بينما السينما العربية مجتمعة تواجدها في الماضي والحاضر لايزال هامشيا.

"الخنزير خوك" من إخراج وتأليف مانى حقيقى، يقع فى إطار «الفانتازيا»، حيث يتكئ المخرج على الإغراق فى الخيال، متجاوزا الكثير من القواعد الصارمة التى تفرضها الرقابة الإيرانية، ولكن بهامش محدود مقنن، يقف فيها على تخوم «التابوهات» ولا يتجاوزها، يحرص فقط على الوصول إلى أقصى ما هو مسموح، الرقابة صارمة فى تطبيق الممنوعات، من بينها العنف والدموية، المخرج مانى حقيقى لم يلتزم حرفيا، ستجد دماء وعنفا، حتى لو كانت تعبر عن خيال المخرج الذى منح البطولة لممثل يؤدى دور مخرج محبط يفكر فى مشروعه السينمائى، ولهذا أضاف هذا الهامش من الخيال الذى يسمح بقدر من الدموية، بينما هناك التزام بحجاب المرأة والبعد عن المشاهد العاطفية المباشرة، وإن كان هذا لم يمنعه من اللجوء أحيانا إلى سلاح الإيحاء، وهى جرأة ولاشك بمقياس السينما الإيرانية.. قبل أن نوغل أكثر فى فيلم «الخنزير» دعونا نُطل سريعا على السينما الإيرانية.

استطاعت إيران أن تتواجد بكثافة وألق عالميا بسينما فى قسط وافر منها خارجة عن نظام (الملالى) واقفة على الجانب الآخر من الجمهورية الإسلامية، بل تصل فى بعض الأحيان إلى أن تصبح رسالتها هى إسقاطها، وفى العادة تجد هؤلاء المبدعين بكثرة فى الخارج مثل المخرج محسن مخلباف كنموذج صارخ لهذا التوجه، يقيم فى باريس منذ سنوات هو وعائلته التى توارثت المهنة، وكان فى البداية من مؤيدى الثورة إلا أنه انضم لفريق المصلحين الذى ينادى بالحرية، فوجد نفسه معرضا للتنكيل به، فلم يجد أمامه سوى أن يهاجر فى انتظار التغيير السياسى، وهناك أيضا سينما خارجة من عباءة النظام، مخرجوها إما عن قناعة أو من أجل استمرار تواجدهم فى إيران، يواصلون العمل بكل القيود وتحت كل المحددات وأشهرهم مثلا مجيد المجيدى، وفى العادة تسند لهم الدولة أفلاما أو تسهم فى إنتاجها وترويجها، فى المسافة الواقعة بين مخرج يخرج عن النظام وآخر يخرج من النظام متبنيا قضاياه، نرصد قائمتى عن ومن، سنجد فريقا ثالثا مغضوبا عليه داخل ايران مثل جعفر بناهى ومحمد رسولوف وهما ممنوعان ولايزالان من ممارسة المهنة منذ 20 عاما أو مغادرة البلاد، ولديهما حكم مبدئى بالسجن 6 سنوات بحجة تقديم أفلام تحرض ضد نظام الدولة، إلا أنهما بين الحين والآخر يمارسان المهنة، ويبقى فريق رابع كان من علاماته عباس كيروستامى هذا المخرج الكبير الذى رحل عن عالمنا قبل أكثر من عام وأقام له العام الماضى مهرجان «كان» تحية خاصة، وأيضا تلميذه أصغر فرهدى، هؤلاء يقدمون أفلاما فى العادة إنتاجا مشتركا مع دول أجنبية: فرنسا وإيطاليا واليابان وألمانيا وغيرها، لا تحمل توجها سياسيا ضد إيران، ولكنها تراهن على قضايا الإنسان، أيضا تلتزم هذه السينما بمحددات لا تقترب منها وإن كانت توحى بها مثل الجنس والعنف الزائد، كما أنها غير ملزمة بوضع الحجاب فوق رؤوس كل البطلات، لأن هذه الأفلام تقدم عادة فى أجواء غير إيرانية، وعلى هذا لا يمكن فرض الحجاب على الشارع الغربى، مثلما هو مفروض أيضا على المرأة فى إيران، رغم أن التمرد ونزع الحجاب المفروض بقوة القانون فى ايران يحدث بين الحين والآخر.

الراحل كيروستامى وتلميذه النجيب أصغر فرهدى الحاصل على جائزتى (أوسكار أفضل فيلم أجنبى) سارا فى علاقتهما مع النظام على المثل الشهير (يا نحلة لا عايز عسلك ولا أخاف لدغتك)، فمن يحصل على العسل عليه أن يدفع الثمن لو خرج عن الخط بمزيد من اللدغات، فهما لا ينتظران شيئا من الدولة، وفى نفس الوقت لا يقدمان أفلاما تحمل موقفا مباشرا ضد النظام، ولهذا يُسمح لأصغر ومن يقف على نفس الخط بالسفر والعودة دون منغصات أو عراقيل، إلا أنهما غير مرضى عنهما من النظام ولهذا لا تسند لهما أعمال سينمائية.

يبقى السؤال، وهو أن التحليل العميق والموضوعى لقوة السينما الإيرانية وتهافت المهرجانات عليها باعتبارها السينما التى ينتظرها الجمهور وليس فقط النقاد والصحفيون، فهى لا تتكئ بالضرورة على توجه سياسى رافض كما يحلو للبعض تفسيره، وإن كان هذا لا ينفى قطعا أن العديد من المهرجانات الكبرى تحتفى بالسينما المعارضة، ليس فقط لأنها معارضة ولكن لما بها من سينما، وهو ما دفع إيران فى فترة حكم أحمدى نجاد للاحتجاج ضد عدد من الأفلام التى تواجدت فى المهرجانات على اعتبار أنه موقف سياسى إلا أن التجربة أثبتت أن المهرجانات تبحث أساسا عن الأفضل.

السينما برحابتها أحالت القيود التى يفرضها النظام الإيرانى بتلك الرقابة الأخلاقية إلى عوامل قوة، وهذا ما يفسر لك أن النظرة العميقة للحياة التى تتجاوز الحبكة وتقفز بالمتلقى بعيدا عن ملاحظة حجاب المرأة هى السائدة، كما أن حضور الأطفال بتلك النظرة البريئة والدهشة الدائمة صنعت مذاقا خاصا للسينما الإيرانية، والتى لا يمكن وصفها لمجرد أن البطل طفل أنها سينما الطفل، ولكنها سينما الإنسان فى كل مراحله العمرية لأن مخرجيها يحرصون على أن تأتى الإطلالة دائما على الحدث بعيون الطفل.

ويبقى الموقف السياسى فى عام 2015، حصد المخرج جعفر بناهى الدب الذهبى فى برلين عن فيلمه «تاكسى»، لم يستطع الحضور لأنه ممنوع ولايزال من السفر، البعض فسر الجائزة سياسيا كنوع من المؤازرة للمخرج الذى استطاع أن يهرّب فيلمه خارج الحدود لأنه دائما للأفكار والأفلام أجنحة، جعفر كان ولايزال ينتقد فى كل أحاديثه غياب حرية التعبير فى إيران، وفيلمه «تاكسى» الذى تميز بروحه التسجيلية من خلال لقاءات المخرج التى أجراها مع زبائن عابرين، حتى من تعرفوا على شخصيته أكمل معهم الحوار. 

بينما فيلم "الخنزير"، رغم خروجه بنسبة ما عن الإطار التقليدى للسينما الإيرانية وتقديمه لحالة كوميدية بروح «الفانتازيا»، فهو يُشعرك بكثير من الادعاء الكاذب، المؤكد سيخرج مساء السبت القادم عند إعلان الجوائز خاوى الوفاض، ويبقى السؤال: كيف تسلل أساسا للمسابقة؟ ربما بسبب قوة الدفع التى تحظى بها السينما الإيرانية، فكان لابد أن تتواجد فى المسابقة الرسمية!!.

المقال نقلا عن المصري اليوم