كلمة بطريرك الكنيسة السريانية الكاثوليكية بمناسبة عيد الميلاد

أقباط وكنائس

صلاة عيد الميلاد
صلاة عيد الميلاد


ألقى البطريرك إغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك الكنيسة السريانية الكاثوليكية كلمة في صلاة عيد الميلاد المجيد 2017 بعنوان "والكلمة صار بشرا فسكن بيننا".

وجاءت نص كلمة البطريرك إغناطيوس كالآتي:
1. مقدّمة
في مستهلّ رسالتنا، ونحن نتطلّع معًا نحو النور الذي شعّ في المذود في بيت لحم، لنعيّد أعجوبة الحبّ الإلهي، بتجسّد كلمة الله في أحشاء مريم البتول، يطيب لنا أن نقدّم التهاني القلبية لكم جميعًا، أيّها الإخوة والأبناء الأعزّاء في لبنان وبلاد الشرق وعالم الإنتشار، بهذا العيد المجيد، عيد انتصار النور على الظلمة، والإتّفاق على الخصام، والسلام على الحرب، والمحبّة على البغض والحقد. ومعكم نضرع إلى الطفل الإلهي، أن يفيض ميلاده العجيب بيننا بالنِّعم والخيرات والبركات، فيضيء نوره وسط ظلمات حياتنا سلامًا وبهجةً ورجاءً، وتبتهج بضيائه قلوبنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا وأوطاننا، وبخاصة في شرقنا الغالي حيث الحروب والمآسي والنزاعات.

2. الميلاد: تأنّس كلمة الله
"والكلمة صار بشرًا، فسكن بيننا، فرأينا مجده، مجدًا من لدن الآب لابنٍ وحيد، ملؤه النعمة والحق" (يو 1: 14). بميلاد الرب يسوع المسيح، يصبح الله إنسانًا، ويسكن بين البشر، ليؤلّه الإنسان. إنه الحدث الأعظم والأبهى في تاريخ البشر وتاريخ الخلاص، على حدّ تعبير يوحنّا الرسول في إنجيله.

في العهد القديم، لم تكن كلمة الله رسالةً يدركها العقل وتُوجَّه إلى البشر فحسب، بل هي حقيقة ديناميكية وقوّة تحقِّق الإنجازات التي يقصدها الله. في سفر التكوين، تمّ الخلق بالكلمة: "وقال الله ليكن... لتكن..." (تكوين 1). "لم تسقط كلمة واحدة من جميع كلمات الخير والأقوال الصالحة التي تكلّم الرب بها" (يشوع بن نون 21: 45) و(1 ملوك 8: 56).

وفي أثناء إبرام العهد في جبل سيناء، سلّم موسى الشعبَ من قِبَل الله ميثاقًا دينيًا وأخلاقيًا يتلخّص في "عشر كلمات" هي الوصايا العشر (خروج 20: 1-17) و(تثنية 5: 6-22). وهذا التصريح بوحدانية الله، المقترن بإعلان مطالبه الأساسية، شكّل أحد العناصر الأساسية التي أتاحت لإسرائيل أن يدرك أنّ "الله يتكلّم".

"فلمّا تمّ ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا لامرأة، مولودًا في حكم الشريعة، ليفتدي الذين هم في حكم الشريعة، فننال التبنّي" (غلا 4: 4-5). في سرّ التجسّد، ميلاد الطفل الأعجوبة يسوع الذي تمّ في "ملء الزمان"، تحقّق الخلاص والفداء للبشر أجمعين، فكلمة الله صار بشرًا، وأشرق مجد الله، وحلّ السلام على الأرض، واستقرّ الرجاء في القلوب، وحظي البشر بنعمة البنوّة لله.

وبميلاده انبلج النور الإلهي في ظلمة العالم، ووهب الحياة للبشرية من خلال البشرى التي أعلنها الملاك لرعاة بيت لحم، حيث سُمعت أناشيد ليتورجية السماء التي تَردّد صداها في ليتورجية الأرض. أُحصي ابن الله في سجلات البشر، لكي يُحصي جميع الناس المؤمنين به في سجلّ الخلاص الأبدي. وُلد في بساطة المذود وفقره، ليؤسّس في العالم نهج التواضع والبساطة والغنى بالله.

يجود آباؤنا السريان في تأمّلهم ميلاد الكلمة الإلهي: "المجد لذاك الصوت الذي أضحى جسمًا، ولكلمة العليّ الذي صار جسدًا".

انّ وطننا الغالي لبنان لا يزال يرزح تحت وطأة أوضاعٍ اقتصاديةٍ متردّيةٍ تثقل كاهل المواطنين اللبنانيين، إضافةً إلى العبء المتفاقم بسبب وجود نحو مليوني نازح على أرضه، لكنّنا نرى في هذه الظلمة فسحةَ أملٍ تضيء لنا للمستقبل كالنجمة التي أضاءت طريق المجوس نحو الرب يسوع. فوطننا تحرّر في الصيف المنصرم بقوّة جيشه البطل من الإرهابيين الذين كانوا يحتلّون جزءًا من أرضه ويتعدّون على سيادته ويثيرون الرعب في نفوس المواطنين. كما أنّ توحُّد اللبنانيين خلف رئيس الجمهورية وتخطّيهم الأزمة الأخيرة أثبت مرةً جديدةً أنّ وطننا رسالة، رسالة حرّية وتعدّدية للشرق والغرب، ونحن نطالب القيّمين على شؤون الوطن ألا ينسوا أنّ هذه الرسالة التي يشكّلها لبنان تبقى ناقصةً ما دام المكّون السرياني الشريك في تأسيس هذا الوطن مهمّش الحقوق، ومستبعَدًا من تمثيله في الندوة البرلمانية والوزارة، وغير ممثَّلٍ كما يجب في الإدارات الرسمية ووظائف الفئة الأولى، وهو الزاخر بالطاقات الخيّرة والمستحقّة من شبابه وشابّاته المؤمنين بلبنان والملتزمين صون حقوقه والدفاع عن استقلاله وحرّيته.

أمّا سوريا الجريحة، ولأنّ الميلاد زمن الرجاء والأمل، نصلّي كما صلّينا ودعونا في السنوات السابقة كي يتوقّف العابثون بمواطنيها وأرضها وحضارتها عن بثّ الكراهية وتأليب المتآمرين على أمنها واستقرارها. لقد قُتل الآلاف وتهجّر الملايين، وتهدّمت البُنى التحتية بفعل الصراعات المجرمة التي تستمرّ منذ العام 2011. وإنّنا إذ نهنّئ الشعب السوري وحكومته بالإنجازات التي تمّت، في دحر الإرهابيين وتوحيد البلاد وإحلال الأمن في المناطق المحرَّرة، نضرع إلى الرب لتثمر الجهود الخيّرة التي تُبذَل، وتصل المؤتمرات واللقاءات التي تُعقَد، إلى إنهاء الحرب وإعادة الوحدة إلى الشعب السوري الحبيب التوّاق إلى السلام والأمان وإعادة البناء في الحجر والبشر، لتولد سوريا واحدة لجميع السوريين.

وإلى العراق الحبيب، نتوجّه في عيد ميلاد الربّ يسوع، ونحن نرى أرض الرافدين وقد تحرّرت من التنظيمات الإرهابية، فنفرح ونحن نسمع أجراس كنائسنا في سهل نينوى وإقليم كوردستان وكلّ العراق، مبشّرةً بولادة المخلّص وبخلاصها من التكفيريين والمجرمين. إنّنا ندعو الحكومة المركزية وحكومة الإقليم والمجتمع الدولي إلى إرساء الأمن والسلام في العراق، وإلى العمل الجدّي لتشجيع من هاجر ونزح كي يعود إلى أرض الآباء والأجداد، حرًا، آمنًا، محترمًا، في وطنٍ متّحدٍ، وتحت رعاية الدولة وسلطتها.

وإلى الأراضي المقدسة، نتوجّه مصلّين إلى طفل السلام كي يحلّ السلام في أرض السلام، خاصةً في ظلّ التطوّرات الأخيرة، سائلين الرب ألا تؤدّي إلى مزيد من المآسي والويلات بحق أبنائنا الموجودين في الأراضي المقدسة. فبالحكمة والتروّي تبقى القدس مدينةً للسلام والبناء لا مدينةً للحرب والدمار.

وإلى مصر، نسأل الرب يسوع أن ينشر أمنه وسلامه في ربوعها، وأن يحيا مواطنوها بالمحبّة والوئام، ويتعاضدوا من أجل ازدهار وطنهم، مهما اختلفت انتماءاتهم وتوجّهاتهم.

وإنّنا نجدّد المطالبة بالإفراج عن جميع المخطوفين، من رجال دين ومدنيين وعسكريين، وبخاصة مطراني حلب مار غريغوريوس يوحنّا ابراهيم وبولس اليازجي، والكهنة باولو داللوليو، واسحق محفوض، وميشال كيّال. كما نضرع إلى الطفل الإلهي أن يتغمّد جميع الشهداء برحمته الواسعة، ويمنّ على الجرحى بالشفاء العاجل، ويعزّي كلّ مفجوعٍ بفقد عزيز.

قلوبنا وأفكارنا تتوجّه بصورة خاصة إلى أبنائنا الذين يكابدون آلام الإقتلاع والنزوح والهجرة، من العراق وسوريا، إلى لبنان والأردن وتركيا، وإلى ما وراء البحار والمحيطات، مؤكّدين لهم تضامننا الأبوي واستعدادنا الدائم لتأمين حاجاتهم ومساعدتهم بكلّ الإمكانات المتاحة.

وها هو قداسة البابا فرنسيس يشدّد في رسالته لمناسبة اليوم العالمي للسلام للعام 2018، بعنوان "مهاجرون ولاجئون: رجال ونساء يبحثون عن السلام"، على ضرورة "أن نعانق بروحٍ من الرحمة جميعَ الأشخاص الهاربين من الحروب والمجاعات، ومن يُرغَمون على ترك أرضهم بسبب التمييز والإضطهادات والفقر".

وإنّنا نتوجّه بشكلٍ خاص إلى العائلات التي تعاني الحزن لفقدان أحد أفرادها، وجميع الذين يغيب عنهم فرح العيد، من فقراء ومعوَزين ومهمَّشين ومستضعَفين، سائلين لهم فيض النِّعَم والبركات والتعزيات السماوية.

ويسرّنا أن نتوجّه بأطيب التهاني الأبوية بمناسبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد إلى جميع إخوتنا وأبنائنا وبناتنا السريان في لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدّسة والأردن ومصر وتركيا وأوروبا وأميركا وأستراليا. نحثّهم جميعًا على التمسّك بالإيمان بالرب يسوع، والتعلّق بكنيستهم وأوطانهم والإخلاص لها، حتى يكونوا على الدوام شهودًا لنور الميلاد وسلامه أينما حلّوا.

خاتمة:
ليبنوا عالمًا يعمّه السلام والأمان والمحبّة. فيهتف الجميع ملء الفم والقلب والروح: وُلِدَ المسيح! هللويا! وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعًا نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، آمين. كلّ عام وأنتم بألف خير.