ظاهرة "الشللية الثقافية" تثير جدلا وتساؤلات حول معنى الإبداع

الفجر الفني

فاروق جويدة
فاروق جويدة


تثير ظاهرة "الشللية الثقافية" جدلا وتساؤلات حول معنى الابداع وعلاقته بالانتماءات السياسية او الأهواء والمصالح فيما تفرض الظاهرة نفسها على اهتمامات مثقفين بارزين مثل الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة الذي طرح رؤيته مؤخرا بشأن هذه الظاهرة. 

و لعلها ظاهرة لا تفرق بين يمين ويسار فيما طالت بسلبياتها ومثالبها مبدعين يقفون في هذا المعسكر أو ذاك أو يصنفون سياسيا باعتبارهم من اليسار أو اليمين بل وأحيانا ممن لا يحبون لأنفسهم مثل هذه التصنيفات والقوالب !.

وقال فاروق جويدة في طرح كتبه مؤخرا بجريدة الأهرام وأثار جدلا في الأوساط الثقافية :"من وقت لآخر تطل علينا ظاهرة فكرية وسلوكية قديمة وغريبة وهي الشللية التي كانت سببا من أهم أسباب تراجع دورنا الثقافي".

واعتبر جويدة أن ظاهرة الشللية "انتشرت مثل الوباء بين أعداد كبيرة من المثقفين وترتبت عليها نتائج خطيرة في اختفاء رموز كبيرة أو صعود أسماء لا تستحق" مضيفا :"من وقت لآخر يظهر لنا هذا الشبح المخيف في صورة معارك وهمية أو تصفيات فكرية أو خلق أجواء من المنافسة المريضة التي لا تقوم على مبدأ ولا تحمل أفكارا حقيقية".

وإذا كان هذا الكاتب والشاعر المصري الكبير قد رأى أن الشللية قسمت النخبة الثقافية زمنا طويلا وهي دائما تترك خلفها حالة من الفراغ الثقافي وقد أخذت أشكالا كثيرة فقد يصل الأمر إلي حد العداء مع المبدع حتى بعد رحيله عن الحياة الدنيا كما يتبدى مع أسماء لمبدعين كبار في الحياة الثقافية المصرية والعربية مثل عبد الرحمن الأبنودي ومحمد الفيتوري وصالح جودت فضلا عن نزار قباني.

وينعي بعض عشاق ابداعات نزار قباني على كثير من النقاد اختصاره او اختزاله كشاعر للغزل او منحه لقب "شاعر المرأة" معتبرين ان صاحب "هوامش على دفتر النكسة" و"متى يعلنون وفاة العرب" اكبر بكثير من هذا التصنيف الضيق.

فنزار قباني الذي قضى يوم الثلاثين من ابريل عام 1998 عن عمر يناهز ال75 عاما كان في الواقع أحد أهم المبدعين العرب الذين شخصوا عيوب الشخصية العربية ومثالبها بقدر ما أثرى وجدان قاريء أشعاره رغم تعرضه على مدى رحلته الإبداعية الطويلة لهجمات من تيارات شتى بعضها كانت لأسباب سياسية وإن تخفت وراء مقولات مبتسرة مثل اتهام هذا الشاعر "بالإباحية".

ومنذ سنوات الشطر الأول من خمسينيات القرن العشرين تعرض نزار قباني الذي كان يعمل ضمن السلك الدبلوماسي لسوريا لمتاعب بسبب قصائده بلغت حد مطالبة بعض البرلمانيين السوريين بإقصائه من وظيفته الدبلوماسية.

ومن الدال أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر هو الذي انصف الشاعر نزار قباني عندما فرض نوع من الحظر في مصر طال دوواينه وكلماته التي تغنت بها كوكبة من نجوم الغناء جراء قصيدة "هوامش على دفتر النكسة" التي كتبها بعد حرب الخامس من يونيو 1967 وأمر عبد الناصر مساعديه بإلغاء هذه الإجراءات العقابية التي تضمنت منع هذا الشاعر الكبير من دخول مصر.

ولم ينتبه بعض المنتمين لتيارات رجعية في خضم هجومهم على نزار قباني أنه أحد أهم الشعراء العرب الذين نجحوا في تطوير جماليات اللغة العربية بقدر ماجعل الشعر عبر 35 ديوانا صديقا لرجل الشارع العربي ومنح لحظة سعادة للمواطن البسيط الذي تطحنه هموم الحياة اليومية.

ويقول فاروق جويدة :"منذ زمن بعيد ونحن نتحدث عن الشللية ما بين الفكر والسياسة والثقافة وحتى الابداع" معتبرا أن بعض التيارات السياسية "عبثت بالواقع السياسي المصري وغيرت الكثير من ثوابته".

وأوضح من منظور تاريخي أن ظاهرة الشللية الثقافية حدت ببعض الرموز والأسماء الكبيرة للابتعاد عن الساحة حفظا لكرامتها واحتراما لتاريخها وكان من هذه الأسماء كتاب وشعراء لهم دور كبير في نهضة هذا الوطن.

ومع أن جويدة لم يذكر أسماء بعينها فإن الأمثلة كثيرة ومن بينها الشاعر المصري الراحل صالح جودت الذي وصف "بشاعر الرومانسيين" وصنف سياسيا باعتباره في "معسكر اليمين" وتعرض لهجمات ظالمة لإبداعاته بدوافع سياسية. 

وفي كتاب صدر بعنوان "قيثارة مصر..صالح جودت" تطرق المؤلف محمد رضوان لهذه المسألة المثيرة للأسف فيما كان صالح جودت قد فقد وظيفته بالاذاعة عام 1953 مع صديقه الشاعر الدكتور ابراهيم ناجي جراء مكايدات سياسية مع أنهما اصحاب مواقف مشرقة في مواجهة الفساد والطغيان والاحتلال قبل ثورة 23 يوليو 1952.

والشاعر والكاتب صالح جودت الذي ولد في الثاني عشر من ديسمبر عام 1912 وقضي يوم الثالث والعشرين من يونيو عام 1976 تعرض حتى على مستوى شعره لهجمات حادة من بعض المنسوبين لمعسكر اليسار والذين نظروا لابداعه "من منظورهم السياسي الذي لايتطابق بالضرورة مع المنظور الابداعي".

وكما قال الأديب والناقد الراحل كمال النجمي فإن الخصومة السياسية حالت دون أن ينال صالح جودت ما يستحقه "كشاعر ذي شاعرية حقة من دراسة وتكريم لشعره مع أنه لم يكن مغمورا من بداية حياته الشعرية إلى نهايتها".

وأوضح النجمي أن صالح جودت كان بين سنوات الخمسينيات والسبعينيات من القرن العشرين "يمينيا بالمعنى السياسي المتداول الآن وكان النقد أقرب إلى اليسار وبعضه كان يساريا بحتا وغلب عليه هذا الاتجاه واستعر العداء بين من يقف هناك ومن يقف هنا من حملة الأقلام".

وكما ورد في كتاب "قيثارة مصر" لمحمد رضوان كان التجاهل من بين الأساليب التي اتبعها النقاد المتغلبون على الصحف في تلك الفترة فتجاهلوا على سبيل المثال شعراء وأدباء كانوا يستحقون الدراسة مثل علي أحمد باكثير وعبد الحميد جودة السحار وعبد الحليم عبد الله وغيرهم. 

وهكذا لم يجد صالح جودت في القليل الذي كتبوه عنه إلا كلمات صحفية وهي في الحقيقة نوع من "الشجار والنقار وغمز لمواقفه الفكرية وللجوهر الفني لشاعريته وشعره" فيما يؤكد محمد رضوان في كتابه أن بعض أصحاب الاتجاهات اليسارية من النقاد ظلموا صالح جودت وشعره وناصبوه العداء حتى بعد رحيله.

ووصف الدبلوماسي والشاعر الراحل احمد عبد المجيد المبدع صالح جودت بأنه كان يهتم بالحب قبل الحبيب فهو "عاشق الحب" فيما وصف صالح جودت نفسه في قصيدة له ليقول: "أنا قلب محير دائم الخفق..قليل الرضا كثير الوثوب..كل ثقب به حكاية حب..بدموعي وحرقتي مكتوب"!. 

وصالح جودت صاحب الستة دوواين من الشعر أهدى ديوانه الأول الذي صدر عام 1934 وهو لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره الى ملهمته الأولى "صاحبة العيون الزرق والشعر الذهبي" فيما تتجلى رومانسيته الحالمة في قصيدة "معك" التي يود فيها لو غاب هو وملهمته بعيدا عن عيون الناس التي هي الجحيم الحقيقي على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر.

واذا كان صالح جودت صاحب دوواين "ليالي الهرم" و"اغنيات على النيل" و"حكاية قلب" و"الحان مصرية" و"الله والنيل والحب" فضلا عن الديوان الأول الذي حمل اسمه قد جمع بين الثقافة العربية والثقافة الأوروبية فهو في نظر بعض من تصدوا للنقد بمنظور الهوى السياسي "ضعيف ثقافيا وشعريا" فيما استمر هذا العداء حتى بعض رحيله !.

غير ان محمد رضوان يقول في كتابه "قيثارة مصر" : سيبقى صالح جودت" علامة مضيئة مشرقة في تاريخ ادبنا العربي رغم انف الحاقدين الذين يحاولون اسدال ستائر النسيان على اسمه وتراثه الأدبي الخالد".

وفي المقابل، فإن قامة شعرية اخرى تصنف سياسيا ضمن معسكر اليسار وهو الشاعر الراحل محمد الفيتوري الذي قضى يوم الرابع والعشرين من شهر ابريل عام 2015 لم تحل مكانته الخالدة في ديوان الشعر العربي المعاصر وريادته الشعرية المجددة دون تعرضه لهجمات مدفوعة بدوافع سياسية.

والفيتوري الذي يجمع مابين دماء سودانية وليبية ومصرية كان افضل تعبير فى تكوينه ومسيرته فى الحياة والابداع عن مدى التداخل والتفاعل الثقافى العربي فيما صنف سياسيا باعتباره في معسكر اليسار وهو صاحب دواوين و روائع في الشعر مثل "اغانى افريقيا و"عاشق من افريقيا" و"اذكرينى باافريقيا" و"معزوفة لدرويش متجول" و"شرق الشمس غرب القمر" و"قوس الليل قوس النهار"و"عريانا يرقص فى الشمس".

ويوم الحادي والعشرين من شهر ابريل عام 2015 قضى الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي لتودع قصيدة العامية المصرية شاعرها الأعظم الذي حقق فتوحات غير مسبوقة لهذه القصيدة وحلق بها لآفاق لم يتصورها احد قبله ومع ذلك فانه لم يسلم من هجمات التيار الظلامي الارهابي لدوافع بعيدة عن معايير الابداع.

ولم يجانب الصواب من اعتبر شماتة البعض وتجريحهم للشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي عند وفاته "دليلا على خسة طبع الشامتين وانحرافهم عن صحيح الدين" بقدر ماتثير هذه الظاهرة البغيضة تآملات حول هذا "الغل الدفين" الذي تمكن من نفوس هذه الفئة فأفقدها صوابها وجردها من الأخلاق ونزع عنها انسانيتها. 

وفي سياق تناوله التاريخي لظاهرة "الشللية الثقافية" قال الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة انها تحولت في مراحل سابقة "لمجموعات شللية تحافظ على مصالح بعضها البعض" وقد سيطرت هذه الجماعات حينئذ على كل منافذ الثقافة المصرية "وكانت قادرة على ان تحجب من تريد وان تفرض من لايستحق".

وأضاف :"تشكلت جماعات ثقافية لم تخف أهدافها ومصالحها وأيضا الأفكار التي تنتمي اليها" لافتا إلى أن هذه الجماعات "غلبت لغة المصالح فلم تعد القضية قضية فكر أو ثقافة كما سيطرت على كل الفرص التي يمكن أن تتاح لأصحاب المواهب الحقيقية".

ومضى فاروق جويدة قائلا :"وأصبح من أهم أسباب الظهور أن تكون من توابع شلة معينة سواء كانت ترفع لواء التقدمية أحيانا أو التأخرية في أحيان أخرى" مشددا على أن هذه الشللية الثقافية "أهدرت الكثير من أصحاب المواهب الذين سقطوا ضحايا الإهمال والتهميش وغياب المصداقية" فيما رحلت رموز كثيرة دون أن تنال حقها من العرفان والتكريم في الوقت المناسب.

وأوضح أن ظاهرة الشللية الثقافية تشوه "التنوع في الأفكار والرؤى والمواقف الذي يزيد الحياة ثراء" فيما وسع من نطاق الرؤية لهذه الظاهرة من منظور عالمي ليقول :"لم تعد الشللية قاصرة على حدود الأوطان والنخب والجماعات لكنها تحولت الى ما يشبه المؤسسات الدولية وأصبحت الشعوب الآن تعاني عمليات اختراق وتجنيد بالأفكار والأموال والمصالح وأصبحت هناك أغراض مشبوهة لتشويه عقول الشباب من أقصى درجات التطرف إلى أقصى درجات الانحلال".

وتابع :"هناك جماعات وراء فكر الإرهاب كما أن هناك جماعات أخرى وراء فكر الإلحاد وهناك مسميات كثيرة لأفكار مختلفة أصبحت ترى العالم قرية صغيرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وجميعها فرق وأحزاب وأفكار وعقائد..أنها أنواع من الشلل الدولية التي نجد من يمول ومن يوجه". 

وإذا كانت الروائية الأمريكية النوبلية توني موريسون قد رأت إن "السياسة كامنة في كل نصوصنا شئنا أم أبينا" فإن المبدع الحقيقي لا يستمد حضوره من شلة ثقافية كما لايستمد سلطته إلا من الإبداع وقدرته على التعبير عن بلاغة اللحظة.