منال لاشين تكتب: عبدالناصر.. قديس الغلابة

مقالات الرأي



■ رفض عبدالناصر رفع سعر السكر والزيت والأرز 3 ملليمات «عشان الناس غلابة»

■ جعل مجانية التعليم الباب الرسمى للحراك الاجتماعى للطبقة المتوسطة والفقيرة

■ كان يرتدى البيجامة الكستور وبدلًا من غزل المحلة ويفصل أحذيته بوسط البلد

■ لم يجد مالًا لشراء حلق ألماظ لابنته منى


كل رئيس وكل زعيم يحلم بنصر عسكرى.. نصر يرفعه إلى عنان السماء ويدفع مواطنيه وشعبه لرفعه على الأعناق حيا أو ميتا، هذا الحلم لم ينته منذ آلاف السنين، فحتى الآن يحلم ويسعى كل رئيس أمريكى بانتصار عسكرى فى حرب خارج بلاده، فلا كرامة لرئيس مهزوم والزعيم الذى يخسر حربا عسكريا يخسر حب واحترام شعبه.

إلا هو إلا الزعيم والريس والأب، يظل عبدالناصر هو الاستثناء الذى دخل التاريخ.. مات مهزوما عسكريا محبوبا شعبيا.. جنازته دخلت التاريخ بوصفها الأكبر عالميا.. صعق خصومه من حجم الجنازة أو بالأحرى حجم الحب والعشق والحزن والضياع الذى شعر به المصريون.. لم يفهم خصومه فى الغرب أنه انهزم عسكريا، ولكن بعد أن حقق انتصارا اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا.. كانت هزيمة 67 لحظة حزينة مؤلمة، ولكنها كانت مجرد لحظة فى عمر شهد بل دشن انتصارات عديدة.. عصر أعلى قيمة المواطن الغلبان والطبقة المتوسطة.. زعيم حفر اسمه بالنزاهة والبساطة والانحياز المطلق للعدالة والفقراء والطبقة المتوسطة.. عصره كان عصرا ذهبيا لهم فقد حصلوا على حقوقهم دون حتى أن يطالبوا بها، وبالطبع دون أن يعايرهم هو أو حكوماته بهذه الحقوق.. هذا رجل لم تعلق بتاريخه أو سيرته العطرة شائعات عن استغلال نفوذ أو فساد.. رئيس وزعيم أكبر دولة فى المنطقة بنى بيته بقرض من بنك مصر.. بعد رحيله حاول خصومه تشويه صورته فلم يجدوا سوى هذه القصة، فحين مات الزعيم قاموا بتحليل المواد الموجودة فى معدته فوجدوا بقايا تفاح.. أكرر تفاح.. قال الخصوم إن التفاح أمريكانى وأن الرئيس ترك شعبه يأكل البرتقال والموز وكان يأكل التفاح.. سرعان ما رد المسئولون بالرئاسة ردا رسميا لتوضيح القصة، فالتفاح ليس أمريكانيا ولكنه لبنانى.. وقد وصل لمعدة الزعيم لأن الرئيس اللبنانى كان فى زيارة لمصر.. وأحضر معه هدية للرئيس صندوق تفاح لبنانى.. تصوروا أن يكون محور الشائعات عن الزعيم تناوله التفاح.. رغم كل الهجوم والانتقادات والاكاذيب لم يجرؤ أحد على اتهامه فى نزاهته وسمعته المالية، فقديس الغلابة بدأ بنفسه وأسرته وحياته ثم عائلته الكبرى مصر.. هذا رجل أبى أن يرفع سعر السكر والزيت (3) مليمات.

1

ميزانية الزعيم

كان عبدالناصر يراجع موازنة الدولة قبل إصدارها بقانون، مثله مثل أى رئيس ولكنه أبدا لن ولم يتصرف مثل أى رئيس.. كانت عيناه وقلبه وعقله على الفقراء والطبقة المتوسطة الفقيرة.. ويرفض رفضا تاما علاج عجز الموازنة على حساب هذه الطبقات باختصار كان يرفض أن يدفع هؤلاء المواطنين فاتورة الإصلاح الاقتصادى.. لم يشعر أو يتعامل الزعيم مع شعبه على أنهم عبء أو مجرد أرقام عليها أن تحمد ربنا أن الحكومة تساعدهم أو بالأحرى تعايرهم ليل نهار باللقمة والمياه والكهرباء.. بل تعامل عبدالناصر مع كل الخدمات التى تقدمها الحكومة باعتبارها حقا أصيلا للمواطن وليس منحة أو هبة من الحاكم يتخلى عن تقديمها وقتما يشاء..

فى إحدى سنوات حكم عبدالناصر اجتمع الريس مع وزير الخزانة «المالية» ورئيس الحكومة لبحث عجز الموازنة.. وكان وزير الخزانة قد قام بزيادة سعر الزيت كام مليم لسد عجز الموازنة.. ولكن عبدالناصر رفض.. وقال له: إلا الزيت الست لما تتزنق بتجيب بطاطس أو باذنجان وتقليهم لأولادها... وأنهى حواره بحسم: ابحثوا عن حاجة تانية إلا الزيت.. ووجدوا حلا آخر وذهبوا به لجمال عبدالناصر.. والحل كان زيادة سعر الأرز.. ورفض عبدالناصر قائلا: الأرز احنا لما الناس تتزنق معندهاش غير الارز عشان تأكل.. وفى هذا الاجتماع اقترح وزير المالية أن تقوم الحكومة بزيادة سعر السكر، فصاح عبدالناصر: السكر لأ.. واضاف: الفلاح يأكل مش وبصل تحرق قلبه ثم يحبس بكوب شاى بكام ملعقة سكر..

لم يردد عبدالناصر الكلام الفارغ الذى سمعناه كثيرا بعد وفاته.. كلام من نوع أن الناس الغلابة تستهلك سكر كثيرًا أو تضع فى الشاى خمس ملاعق سكر.. كلام من مسئولين يتجاهلون أن الفقراء لا يعرفون الحلوى والجاتوه أو الفاكهة، لذلك يحصلون على احتياجاتهم من السكر عبر الشاى فقط..

الفوارق بين هؤلاء المسئولين وبين الزعيم عبدالناصر كثيرة أهمها أنه لم ولن ينفصل عن الناس العادية، لم ينس أصله، لم يعرف يوما الترف والبذخ.. ظل لآخر يوم فى حياته يأكل مثل كل الناس.. بامية وأرز ولحم.. لم يتذوق أو يعشق الأكل الغربى، ولم يكن أكولا.. وكانت الجبن القريش وجبته المفضلة..

فى متحفه الذى افتتح أخيرا يوجد ملابسه.. بيجامات كستور وشبشب عادى وأحذية كان يفصلها.. وبدل من مصانع المحلة.. كل ما استخدمه عبدالناصر كان من صنع مصر.. وممن كانت الأغلبية العظمى من الطبقة المتوسطة تستخدمه فى ذلك الزمان.. رئيس بدرجة موظف.. رفض حياة الأثرياء لم يعقد صدقات معهم.. ولذلك خلا عصره من زواج السلطة بالثروة..

2

أبناء الزعيم

خلافا لرؤساء ومسئولين جاءوا بعده لم يسع عبدالناصر أن يزوج بناته من ابناء الأثرياء والأسر الغنية.. ابنته الكبرى هدى أحبت زميلا لها فى الكلية ابن موظف، فزوجها الزعيم لمن أحبت بعد أن اطمأن لأصلة وأخلاقه.. ابنته الثانية منى تزوجت أيضا من ابن أحد الموظفين..

فى زواج منى أو الترتيب لها حدثت هذه المشكلة.. منى تريد من والدها حلق الماس.. وهو يرفض فهو لا يملك المال الكافى لشراء الألماس.. ويريد أن يشترى لها حلق ذهب.. والبنت مصرة على الماس.. وهنا يتدخل الصديق المشير عبدالحكيم عامر لحل الازمة الأسرية.. ويشترى لمنى هدية الزواج حلق الماس.. رئيس وزعيم أمة ليس لديه المال لشراء حلق مجرد حلق من الماس الحر..

كان عبدالناصر يقضى مع أبنائه وقتا قليلا.. وفى أحد الأيام سمع أصغر أبنائه يسخر من الفقراء اللى بيركبوا الأتوبيس، فطلب من أحد الموظفين بالرئاسة أن يصطحب الابن فى جولة طويلة بالاتوبيس.. أراد الزعيم أن يعلم ابنه أنه مجرد طفل مصرى وليس على رأسه ريشة لمجرد أنه ابن رئيس الجمهورية..

هدى أول فرحته كانت طالبة متفوقة، ولكنها لم تحصل على ترتيب يؤهلها لاختيارها معيدة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. وعرضوا على عبدالناصر حلا لهذه المشكلة.. حلا تصوروا أنه لا يؤذى أحدا.. وكان هذا الحل هو أن تقوم الكلية بتعيين عدد أكبر من المعيدين حتى يتم تعيينها، وبذلك لا يحرم أحدا ممن سبقوها فى الترتيب من فرصة التعيين.. ولكن عبدالناصر رفض هذا الحل.. وطالب وزير التعليم بمعاملة ابنته مثل كل الطلاب.. وبالفعل لم تعمل هدى بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية إلا بعد حصولها على الدكتوراه وكان عبدالناصر قد توفى وترك السلطة والدنيا كلها.. وبالمثل فإن ابنه خالد عين معيدا فى كلية الهندسة لتفوقه وبعد وفاة أبيه بسنوات..

لم يكن التحاق ابنته منى بالجامعة الأمريكية مجرد اختيار، ولكن منى لم تحصل على مجموع بالثانوية يؤهلها لدخول الجامعات الحكومية.. وكان الحل الحاقها بالجامعة الأمريكية التى لم تكن فى ذلك الوقت تشترط مجموعا كبيرا.

وحتى الثروة التى أصابت بعض ابنائه بعد ذلك جاءتهم بعد وفاته بسنوات طويلة.. منى من خلال عمل زوجها أشرف مروان بالبيزنس وعبد الحكيم وعبد الحميد عندما كبرا وعملا بالبيزنس أيضا..

3

دولة العدل

كان عبدالناصر يواجهه العشرات من المؤامرات، ولكنه لم يتخذ من هذه المؤامرات مبررا لحرمان المواطنين من حقوقهم سواء فى التعليم أو العلاج أو المعاش أو العيش عيشة كريمة.. بعد الثورة بنحو شهرين أصدر قانون الإصلاح الزراعى ووزع على الفلاحين المعدمين الأراضى.. وجعل التعليم الجامعى مجانيا لكل الناس ولكنه لم يكتف بذلك بل اتاح التعليم للجميع من خلال بناء المدارس والجامعات فى كل ربوع مصر.. والمجانية ليست سببا لتدهور التعليم كما يشيع أو يكذب البعض.. ولكن السبب فى تدهور التعليم هو تجاهل الدولة بعد عبدالناصر لإصلاح التعليم وملاحقة التطورات العالمية ونشر المدارس والجامعات لتقليل الكثافة.. وأصدر قانون المعاشات والتأمينات الاجتماعية وقانون العمل.. وقد صنفت منظمة العمل الدولى القوانين بوصفها افضل القوانين فى العالم لصالح الموظفين والعمال واصحاب المعاشات.. وهى قوانين تم العصف بها واحدا بعد الآخر بعد رحيله.

لم ينظر عبدالناصر إلى الكهرباء بوصفها نعمة لا يستحق الشعب الفقير أن يتمتع بها.. بل حق لكل مواطن فكان قراره ببناء السد العالى لتوفير الكهرباء للمواطنين والمشروعات.. وبالمثل صارت المياه النقية حقا للمواطنين.. وليست منحة تعايرهم بها الحكومة أو تضن بها عليهم..

وضع عبدالناصر قوانين وقواعد تضمن للمواطنين العلاج فى مستشفيات الدولة بكرامة ومقابل ضئيل، فالعلاج حق لا ينتظر الظروف الموائمة أو الوقت المناسب.. لو أراد عبدالناصر أن يحرم الناس من حقوقهم لوجد الف مبرر ومبرر.. الصراعات الخارجية وضرورة بناء الدولة وإقامة المشروعات الاستراتيجية والقومية، ولكنه ومنذ الربع ساعة الأولى من عمر الثورة حزم أمره.. وقرر أن يمنح الناس حقوقا حرموا منها لأزمنة طويلة..

4

عقدة المشروع القومى

على الرغم من إنجازات عبدالناصر الاجتماعية فإنه لم ينشغل بذلك أو بالأحرى يكتفى بذلك عن بناء الدولة.. لأن عبدالناصر أدرك بثقافته وفهمه للتاريخ حقيقة مهمة بل حاسمة، فلا يوجد تعارض بين الاهتمام بالبشر والاهتمام بالمشروعات القومية والصناعية التى خلقت ملايين الوظائف للمصريين، فالتشغيل كان من أهم شواغل أو أهداف عبدالناصر.. ومع ذلك ظل عبدالناصر عقدة لكل من جاءوا بعده.. كان بناء السد العالى مشروعه القومى.. من أجله واجه العالم والقوى الاستعمارية الكبرى بتأميم قناة السويس.. وبعد هذه الخطوة التى ثبتت أركانه كزعيم دولى أصبح كل رئيس يبحث عن مشروعه القومى.. كل رئيس يحلم بالمجد الذى ناله عبدالناصر.. لم يكن السد العالى أو تأميم القناة سوى درة التاج، فلم يكتف عبدالناصر بتأميم المصانع الموجودة بل أضاف إليها أكثر من 300 مشروع صناعى وزراعى وعمرانى.. كل هذه المشروعات تصب فى مصلحة المواطن مباشرة سكنه وطعامه وتعليمه وعلاجه ووظيفة له ولأبنائه.. لم تكن المشروعات فى عصره اقتصادية أو اجتماعية فقط.. هو من اطلق أكبر المشروعات الثقافية معاهد الأوبرا والباليه والفن الحديث ورعى الفنون الشعبية والسينما.. هذا الزعيم لم ينس الفن والثقافة والكتاب وتعاملهم معهم كرغيف العيش.. حق لكل مواطن.. هذا الزعيم بدأ الحلم النووى، فى الحقيقة من الظلم الكتابة فى سطور عن مشروعات عبدالناصر.. ويكفى أن أقول إنه لم ولن يترك مجالا لم يطرقه بمشروعاته ولا انجازاته، ولذلك أتعب الزعيم جمال عبدالناصر كل من جاءوا بعده، فلا يوجد أرض لم يطرقها ولا مجال لم يعمل عليه ولا طبقة لم يرعها.. .صارت عقدة المشروع القومى تطارد كل من جاءوا بعده حتى بليت بمصر برئيس خلعه الشعب.. رئيس اعتبر أن المترو مشروعا قوميا.