تفسير الشعراوي للآية 5 من سورة المائدة

إسلاميات

الشيخ محمد متولي
الشيخ محمد متولي الشعراوي


{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}.

سبحانه يبدأ الآية بتكرار الأمر السابق: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}. وأعادها حتى يؤكد على أن الإنسان لا يصح أن ينظر إلى الأمر الطيب إلا من زاوية أنه محلل من الله.

وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللات، وأسلوب التعامل مع الصيد. نأتي هنا لوقفة، فسبحانه يقول: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا؟ إن بعضهم يأكل الخنزير. لا، بل الحلال من طعام أهل الكتاب هو الطعام الذي يكون من جنس ما حلل الله لكم، ولا يستقيم أن يستنكف الإنسان من أنه طعام أهل كتاب؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من الإنسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين، ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم لله، يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من الاتصال لأنهم ارتبطوا جميعا بالسماء، ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الأرض بالسماء.

إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب لا، ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل في الإسلام فهو حلال. ولا يصح أن تمنع واحداً من أهل الكتاب من طعامك؛ لأن الله يريد أن ينشئ شيئا من الألفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالإله وإن اختلفوا في تصوره.

وضرب لنا سبحانه المثل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أول مجيء الدعوة الإسلامية، واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار، ولا يؤمن بالإله وهو معسكر فارس؛ ومعسكراً يؤمن بالإله وهو معسكر الروم؛ كانت هناك قوتان في العالم: قوة شرقية وقوة غربية. وعندما يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق الله، فلابد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين معه مع الذين آمنوا بإله وبنمهج ورسالة، ولا يكون قلبه مع الملاحدة الذين يعبدون غير الله.

ولنر العظمة الإيمانية في الرسول عليه الصلاة والسلام. نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون به كرسول أولى عنده ممن يكفرون بالله. ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة أولا لفارس. وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم؛ لأنهم أقرب إلى معسكر الإيمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بالله، وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث، ولذلك يضربها الحق مثلا في القرآن ليعطينا عدة لقطات، وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين في جانب من عنده رائحة الإيمان، فيقول سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 1-5].

وتبدأ هذه الآيات بخبر عن هزيمة الروم، ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين. ويوم نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر الله. وتنظر القوة الإسلامية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا جامعا مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمتين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري، هذه القوة الإسلامية تتعاطف مع الروم وتحزن- القوة الإسلامية- لأن الفرس قد غَلَبت. فيأتي الحق بالخبر اليقين وهو سَتَغْلِبُ الروم.

وبالله من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظيمتين؟ إنه حكم لا يستغرق يوما، حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر، إنه حكم يستغرق بضع سنين. فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين؟ لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجازف بهذا الحكم، وهو لا يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها، لكن الأمر يأتي كخبر موثق من الله: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 3-4].

وهذا كلام موثق، لأنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبدًا، وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه الآية، قال لقد أقمت رهاناً بأن الروم ستنتصر بعد ثلاث سنين، وطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمد مدة الرهان لأن الله قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر- رضي الله عنه- فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلت مائة قلوص (ناقة) إلى تسع سنين. كأن هذا الأمر قد لقي الوثوق الكامل من المؤمنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر.

لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مع الذين يؤمنون بكتاب وبرسول، ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب حتى تكون هناك صلة بيننا وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}.

وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} [الممتحنة: 8-9].

فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فلا نساوي بين ملحد مشرك ومؤمن بصلة السماء بالأرض وإن كفر برسول الله. وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل الإنساني. فالذي يحل للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلالا في منهج الإسلام. ويجب أن ينتبه المسلم إلى أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه الامتناع عن كل ما هو محرم في ديننا ولياكل من طعامهم ما هو حلال لدينا.

فلا يشرب المسلم خمراً، ولا يأكل المؤمن لحم الخنزير.

والطعام كما نعلم وسيلة لاستبقاء الحياة. وها هوذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل؛ فقد أحل الله لنا أن نتزوج من بناتهم {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ}.

والمحصنة لها معنيان: وهي إما أن تكون الحرة في مقابل الأمة، وإما أن تكون المتزوجة؛ لأن الإحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلاطا غير شريف. وكانت الحرة قديما لا تفعل الفعل القبيح. وكان البغاء مقصورا على الإماء؛ لأن الأمة لا أب لها ولا أخ ولا عائل، وهي مُهْدَرة الكرامة. ولذلك نجد أن هنداً زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلت: يا رسول الله أَوَ تزني الحرة؟! كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية؛ لأن الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها.

والمحصنة أيضاً هي المتزوجة. ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل الكتاب، والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن. وبعض العلماء يقول: عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر، لأن الدين الواحد يعطي الأمان العهدي، أما الزواج من كتابية فيجب أن يحدد الإنسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك. فالإيتاء هو أن يسمي الإنسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود. ويستطيع أن يجعل الإنسان المهر كله مؤخراً. والشرط أن يكون الرجل محصناً أي متعففاً.

ويحدد الحق: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} أي صدائق لهم دون زواج، والسفح هو الصب. والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل، والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج، والخدن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على الأنثى. وإياك أن تفكر في أمر إقامة علاقة زواج متعة، بل لابد أن يكون الإقبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي لا الزواج الاستمتاعي.

ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين}؛ لأن فائدة الإيمان أن يستقبل المؤمن الأحكام ممن آمن به إلها وينفذها. فإن سترت شيئا من أحكام الله التي آمنت بها فقد كفرت بالإيمان. والحق لا يضره أن يكفر الناس جميعاً؛ لأنه هو الذي خلق الخلق بداية وهو متصف بكل صفات القدرة والكمال.

إذن فالعالم كله لا يضيف إلى الله شيئا، فقبل أن يخلق الله الإنسان كانت كل صفات الكمال موجودة لله. وكل ثمار الطاعة والعبادة والإيمان إنما تعود على الإنسان. فإن جاء الإنسان إلى الأحكام التي شرعها الله له، وستر حكما منها فكأنه كفر بقضية الإيمان. وإن أنكر جزئية من جزئيات الإيمان، فهذا لون من الكفر، ويا ليت من يفعل ذلك أن يقول: (إن هذه الجزئية صحيحة ولكن لا أقدر على نفسي).

ففي هذه الحالة يكون الإنسان مؤمنا عاصيا يستغفر الله أو يتوب، أما الكفر فلا: والكفر بالإيمان يؤدي إلى حبط العمل. وهذا دليل على أن الحق يخاطب إنسانا يلتزم في بعض الأشياء ولا يلتزم في البعض الآخر. وهنا يوضح الحق للإنسان: إن ما أديت من خير في أعمالك سيذهب بثوابه ويحبط جزاءه ما منعت تنفيذه من أحكام الله، وجاء الحق بكلمة (حبط) التي تدل على أن العمل بطل وذهب ذهابا لا يعود. فالماشية حين تأكل طعاما لم ينضج بعد وإن كان من جنس ما تطعم مثل البرسيم في بدايته ويسمى (الرِّبة)، هذا اللون من الطعام عندما ترعى فيه البهائم يحدث لها انتفاخ في البطن وتموت.

والعرب تسمي هذا الداء الحُباط. فالحَبَط إذن هو انتفاخ البطن في الماشية التي تأكل أكلا غير مناسب لها. ويظن صاحبها أنها قد سمنت بينما هي تموت في الواقع. وكذلك يكون العمل على غير ما شرع الله. والحق بدأ قضايا الإيمان في هذه السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1].

فكل عقد إيماني يتعلق بالوحدانية لله وبالبلاغ عن الله، وكل عقد عُقد بين المؤمنين بعضهم بعضا، وكل عقد عقده الإنسان بينه وبين نفسه؛ هذه العقود مطلوب الوفاء بها، ومن يكفر بهذه الأشياء فقد حبط عمله. وحبط العمل يأتي نتيجة أن الإنسان أنهى عمله وختمه بهذا اللون من الكفر وظن أنه عمل عملا صالحا. لكن العمل يحبط تماما كما تذهب البهيمة لترعى شيئا لا يتناسب معها فينتفخ بطنها. فيخيل للرائي أن ذلك شبع وأن ذلك عافية، ثم لا تلبث أن تنفق وتموت. كذلك عمل الذي يكفر بالإيمان، يظن أنه عمل شيئا ولكن ذلك الشيء متلف له. والآيات القرآنية تكلمت عن هذا المعنى كثيرا؛ فالحق يقول عن الكافرين بالله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39].

ونعلم أن السراب هو شيء من انعكاسات الضوء يخدع الرائي السائر في الصحراء فيظن أنه ماء، ويسير إليه الإنسان فلا يجده ماء، هكذا يكون عمل الذي يكفر بآيات الله. إنها أعمال تبدو متوهمة النفع. وقول الحق سبحانه: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي أن مثل هذا الإنسان يفاجأ بوجود الله، كأن مسألة وجود الإله لم تكن بخياله من قبل، والإنسان لا يأخذ أجره إلا لمن عمل به. فهل عمل الواحد من هؤلاء لله حتى يأخذ منه أجراً؟. لا. لم يعمل لله، ولذلك نجد أن بعض السطحيين في الفهم يقولون: كيف لا يجزي الله الجزاء الحسن هؤلاء العلماء الذين اخترعوا العلاجات للأمراض، والعلماء الذين ابتكروا الأشياء التي تنفع الناس؟ كيف لا يحسن الله جزاءهم في الآخرة؟
ونقول: لقد فعلوا ذلك ولم يكن الله في بالهم، كان في بالهم الإنسانية، وقد أعطتهم الخلود في الذكرى وأقامت لهم التماثيل ومنحتهم أوسمة ووضعت فيهم المؤلفات لتمدحهم.

هم قد عملوا للناس فأعطاهم الناس. وهؤلاء الكافرون بتقدمهم في العلوم؛ مسخرون للإنسان المؤمن؛ فالمؤمن يستفيد من الكهرباء، وينتفع بها المسلمون ليقرأوا القرآن والعلم والذكر. ويستفيد المسلم من الطائرات فيذهب بها إلى الحج وزيارة المدينة المنورة، وينتفع بها كذلك في شئون دنياه، وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب حتى لا يكونوا أذلة وعالة على غيرهم. والحق يسخر علم الكفار للمؤمنين، ولا يثاب الكفار على هذا العمل من الله. ولذلك يقول الحق عن أعمالهم مرة: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39].

ومرة أخرى يقول الحق: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18].

وها هوذا سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 103-105].

إذن فالإنسان الذي يستر الإيمان بعضه أو كله، هو إنسان حابط العمل، وهو في الآخرة من الخاسرين؛ لأن النجاح في الآخرة نتيجة لعمل الدنيا. ومادام قد عمل لغير الله في الدنيا فلابد أن يكون من الخاسرين في الآخرة.
وقوله الحق: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يوضح لنا ضرورة ألا نخدع ويغرر بنا لأن بعضاً من الكافرين يكسب بعضاً من الشهرة والجاه والثروة نتيجة اختراعاتهم؛ فكل ذلك أمور فانية، وهم مستسلمون لسنة الله، فإما أن يفوتهم النعيم وإما أن يفوتوا النعيم. والحساب الختامي يكون في الآخرة، فالكافر وإن أخذ شيئاً من الكسب في ظاهر هذه الحياة الدنيا فهو خاسر في الآخرة.

وبعد ذلك ينتقل الحق ليربط لنا كل قضايا الدنيا رباطاً وافياً. فبعد أن يتكلم عن مقومات الحياة وعن مقومات النوع بالإنكاح وغيره، يوضح: كل هذه نعم أعطيتها لكم وأريد أن آخذ بأيديكم بعد أن بينت لكم فضل هذه النعم عليكم؛ لتلتقوا بصاحب كل هذه النعم. هو سبحانه يريد أن يأخذنا من مشاغل الدنيا لنلقى المنعم. وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم سبحانه فلابد أن تعد نفسك لهذا اللقاء؛ لأنها ليست مسألة طارئة؛ فلابد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني.

إن الإعداد البدني يكون بالطهارة. والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة. والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة.

وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم. ولذلك نقول: إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم؛ فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم. وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم؛ ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه. وإذا ما أراد الإنسان أن يلقى الله في الأوقات التي بين الصلوات؛ وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله؛ لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

مثال ذلك أن الإنسان حين يصلي فهو يحتاج إلى قوة. والقوة تتولد في الجسم نتيجة تناول الطعام. إذن عملية صناعة الطعام أمر واجب وكل ما يترتب على ذلك عملية واجبة. ولذلك عندما يأتي واحد ويقول: أريد أن أنقطع للعبادة وأعتزل حركة الحياة. لنقل له: افعل ذلك بشرط واحد هو ألا تنتفع بحركة متحرك واحد في الحياة، ولا تتناول أي طعام، ذلك أن الرغيف الذي يقدمه لك إنسان هو من عمل بشر كثيرين لم ينقطعوا عن الحياة. ولنقل أيضاً: لماذا ترتدي هذا الجلباب؟. إنه نتيجة حركة حياة بشر آخرين، فهناك من زرع القطن وآخر حلج هذا القطن وثالث حوله إلى غزل ورابع نسجه وخامس قام بتفصيل هذا الجلباب. ولتنظر إلى ما خَلْف كل واحد من آلات. وإياك أن تنتفع بحركة واحد مشغول بالأسباب مادمت قد قررت الانقطاع عن حركة الحياة.

إن الشغل بالأسباب عبادة؛ لأن العبادة لا تتم إلا به. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولذلك فَتَعَلُّم المهارات المفيدة للحياة هو فرض كفاية؛ والفرض الواجب على الإنسان: احد اثنين: إما فرض عين وهو الأمر المكلف به الفرد ولابد أن يؤديه ولا يجوز أن يؤديه أحدٌ نيابة عنه؛ كالصلاة، وإنا فرض كفاية: وهو ما لا يتم الواجب إلا به لذلك كان واجباً، فكل منا يريد الطعام.

لذلك لابد من تقسيم العمل، فهذا يزرع وهذا يصنع، فلابد من زراعة القمح ولابد من إقامة المطاحن ولابد من إقامة الأفران. ولابد من مهندسين يصممون هذه الآلات. وكل ذلك أمور تسهل للإنسان أن يمتلك القوة لأداء الصلاة؛ وأن يقف بين يدي الحق ليؤدي الصلاة. إذن فكل ذلك أمر واجب، وهو فرض كفاية. أي أنه فرض إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به بعضنا يكون الإثم على الجميع.

ومثال آخر هو الصلاة على الميت هي فرض كفاية، فمن يصلي على الميت فهو يؤدي عنا، وإن لم يصل أحد على الميت يكون الإثم على كل مسلم، هكذا تتسع رقعة الإثم.

وكل الأعمال التي لا يتم الواجب إلا لها فهي واجب، ولذلك فهي فرض كفاية، إن قام به البعض سقط الطلب عن الباقين، وإن لم يقم به البعض فالإثم على الجميع.

وما موقف ولي الأمر في هذا؟. على ولي الأمر أن يفرض القيام بفرض الكفاية على أحد الناس، وإلا تعطلت الواجبات التي نقول عنها: إنها واجبات دينية. فحين يذهب المسلم إلى السوق فلا يجد خبزاً؛ يضعف ولا يملك الفكاك من المجاعة؛ ولن يقدر على الصلاة أو العمل لينتج أو يجد ادخاراً يكفيه أن يحج إذن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما حثنا على أداء الصلاة في يوم الجمعة يقول: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].

هو سبحانه يخرجنا من العمل إلى الصلاة، ولم يخرجنا إلى الصلاة من فراغ، لنلتفت إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق: {وَذَرُواْ البيع} وحين يذر الإنسان البيع، فهو يذر الشراء من باب أولى؛ لأن البيع والشراء وجهان لعملية واحدة. والخلاف فقط أن المشتري قد يشتري السلعة وهو كاره لأن يشتري؛ لأنه يستهلك نقوده فيما يشتريه، أما البائع فيريد أن يحصل على ثمن البيع فوراً، وغالبا ما يحصل على ربح من وراء ذلك، وتلك هي قمة الكسب. فكسب الزارع- على سبيل المثال- يأتيه بعد شهور من الزراعة. وكسب الموظف يأتيه أول الشهر. لكن البائع يحصل على الكسسب فوراً. ولذلك يأمرنا الحق أن نذر البيع إذا سمعنا نداء الصلاة يوم الجمعة، وماذا بعد انتهاء الصلاة؟.

ها هوذا الحق يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

إذن فلا يقولن أحد أنا منقطع طوال حياتي للصلاة. فلن يستطيع أحد أن يذهب إلى الصلاة ما لم يكن يملك مقومات حياته. ومقومات الحياة تقتضي أن يضرب الإنسان في الأرض. ولابد أن يبتغي الإنسان من فضل الله. إذن، فالسعي في الأرض هو عبادة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ويريد الحق سبحانه وتعالى ألا يعزل قضية تتعلق بمقومات الحياة طعاماً وإنكاحاً عن الصلاة. فيأتي الحق سبحانه وتعالى بشروط الوضوء استعداداً للصلاة بعد أن يتحدث عن أحكام تحليل الأطعمة وتحريم بعضها، وبعض من أحكام النكاح، وذلك لنعرف أن مسئوليات الإيمان كلها مترابطة، فلا يصح أن نعزل عملاً ونقول: هذا عمل تعبدي وذاك عمل غير تعبدي.

والمؤلفون عندما يضعون الكتب في الفقه ويخصصون أقساماً في هذه الكتب للعبادات وأقساماً للمعاملات، فهذا التقسيم تقسيم تصنيفي تأليفي، لكن كل ما يطلبه الكون لينصلح فهو عبادة لخالق هذا الكون، بدليل أنه قال: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} وهذا أمر.

ويتلوه أمر آخر: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض}.

إن الإنسان لا ينفذ أمراً ويهمل أمراً آخر، ولكن عليه بمقتضى الإيمان أن ينفذ الأمرين معاً، فإن تأخر الإنسان في أي من الأمرين فهو مذنب؛ لذلك يخبرنا سبحانه- من بعد الحديث عن النعم التي أنعم بها علينا- بما أحل لنا من بهيمة الأنعام، وبما قص علينا من الزواج من المحصنات؛ ها هوذا يدخلنا إلى رحابه بالاستعداد للصلاة لأنه واهب كل النعم. ويأمرنا بالاستعداد للصلاة وأن يعد كل واحد منا نفسه لها.

وهذا الإعداد يؤهل المسلم ليلقى الحق فقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ...}.