خطيب الحرم المكي: من الخذلان السعي لجلب البلاء والخوض في الفتن والشبهات

السعودية

السعودية - أرشيفية
السعودية - أرشيفية


أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور صالح بن محمد آل طالب، المسلمين بتقوى الله حق تقاته والاجتهاد في العمل والكف عن المعاصي،

وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: أيها المسلمون، فوق كلِّ حاجةٍ حاجةُ النفوس إلى مولاها، هو ربُّها وخالقها الذي سواها قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}، النفوسُ إليه مفتقرة وبين يدي جلاله وعظمته منكسرة، وحاجتها إليه فوق حاجتها إلى الطعام والشراب، بيده مقاليد الأمور.

 

وأضاف: هو الغني الوهاب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، نادى عباده فقال: "يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا مَن كسوته؛ فاستكسوني أكسكم"، ولهذا كان الدعاءُ هو العبادة، وكان نصفُ سورة الفاتحة خالصاً في الدعاء.

 

وأردف: أكملُ الخلق وأعلمهم بربه محمد عليه الصلاة والسلام، وهو أخشاهم وأتقاهم، وهو أفصحهم لساناً، وأصدقهم بياناً، كلامه بعد كلام الله أحسنُ الكلام، وهديه أحسن الهدي، وهو أنصح الناس للناس، ما ترك خيراً إلا دلهم عليه، وهو أعلم الناس بما يحتاجه العبد في سؤاله من ربه، وما يصلحه في دينه ودنياه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه؛ فقد كانوا يتعلمون منه الدعاء كما يتعلمون السورة من القرآن.

 

وتابع: في دعواته وجوامع كَلِمِه من توحيد الله وتعظيمه والرغبة إليه، والوفاءِ بحاجات العبد في الدنيا والآخرة؛ ما يدعو إلى التزام تلك الدعوات والابتهال بها وتدبر معانيها والحياة بها، وما يكون معه الانصراف عنها إلى غيرها من الأحزاب والأدعية غبناً وخسارة على صاحبه؛ فكيف إذا كانت تلك الأدعية والأحزاب مخالفة لسنته وهديه.

 

وقال الدكتور "آل طالب": من عظيم دعائه الذي صح من سنته؛ ما رواه الترمذي وغيره عن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله علمني شيئاً أسأله الله، قال: (سل الله العافية)؛ فمكثت أياماً ثم جِئت فقلت: يا رسول الله علمني شيئاً أسأله الله، فقال لي: (يا عباسُ، يا عمَّ رسول الله سل الله العافية في الدنيا والآخرة).

 

وأضاف: إنه لدعاء عظيم، علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس، وقد كان يُنزله منزلة أبيه، ويرى له من الحق ما يرى الولد لوالده، وفي تخصيصه بهذا الدعاء بعد تكرير العباس سؤالَه بأن يعلمه شيئاً يسأل الله به؛ دليلٌ على أن الدعاء بالعافية لا يساويه شيء من الأدعية، ولا يقوم مقامه شيء من الكلام الذي يُدعى به ذو الجلال والإكرام، وفيه تحريك لهمم الراغبين على ملازمة هذا الدعاء، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم دعاؤه بالعافية لفظاً ومعناً في نحو خمسين حديثاً.

 

وأردف: مَن رُزِق العافية فقد حاز نفائس الرزق؛ فهي مفتاح النعيم، وباب الطيبات، وكنز السعداء، والخير بدونها قليل ولو كثر، والعز بدونها حقير ولو شرف، والعافية لا يعدلها شيء من أمر الدنيا بعد الإيمان واليقين؛ لأن عافية الدين فوق كل عافية. يدرك قيمتها مَن فقَدَها في دينه أو دُنياه قال صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله العافية فإنه لم يُعطَ عبدٌ شيئاً أفضلَ من العافية).

 

وتابع: أعظم العافية سلامة العبد من الذنوب وفي التوبة وصدق الإنابة، وإذا وقع العبد في شيء من الذنوب فليستتر بستر الله، وفي الحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون) متفق عليه، ومن جاهَرَ بالذنوب وأعلن الفسق فقد حُرِم العافية قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}؛ ولهذا كان تحول العافية من أعظم المصائب التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ منها، ويقول: (اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك).

 

وقال خطيب الحرم المكي: الله تعالى يُرخي على الناس ستره، ويسبغ عليهم عافيته، والمخذول من استجلب بالتغيير الغِيَر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}.

 

وأضاف: العافية في السلامة من حقوق الناس، وأن تلقى الله وليس أحد يطلبك بمظلمة في عرض ولا مال، كتب رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما أن اكتب إليّ بالعلم كله؛ فكتب إليه ابن عمر: "إن العلم كثير؛ ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء المسلمين، خميص البطن من أموالهم، كافَّ اللسان عن أعراضهم، لازماً لأمر جماعتهم، فافعل والسلام".

 

وأردف: مع اعتماد الناس على وسائل التواصل الحديثة كم يحسن الورع والكف عن أعراض الناس، ومن عوفي فليحمد الله، والسلامة لا يعدلها شيء، {لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً}، {ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا}.

 

وتابع: العافية في السلامة من الفتن، أن يخوض الإنسان فيها ولو بشطر كلمة، بعد إذ نجاه الله منها. وفي حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن السعيد لَمَن جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولَمن ابتلي فصبر فواها".

 

وقال "آل طالب": من الخذلان أن تسعى لجلب البلاء وقد نجاك الله منه، وأن تخوض في الفتن وقد عافاك الله منها، وأن تكون سبباً لفتن الشبهات أو الشهوات، وتَهتِكَ سترَ العافية والمعافاة الذي أسبغه الله عليك وعلى مجتمعك، قال تعالى: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.

 

وأضاف: من العافية عافية الأوطان والديار والأمنُ والاستقرار، (لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية) العافية في اجتماع القلوب، ووحدة الكلمة، وفي الولاية الشرعية التي تخاف الله وتتقيه وترعى مصالح الناس.

 

وأردف: من العافية أن يصبح العبد آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، يدعو في صبيحة كل يوم دعاء العافية الذي رواه ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يُصْبِحُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ استُرْ عَوْرَاتي، وآمِنْ رَوْعَاتي، اللَّهمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَينِ يَدَيَّ ومِنْ خَلْفي، وَعن يَميني وعن شِمالي، ومِن فَوْقِي، وأعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحتي)، احفظوا هذا الدعاء وعلّموه أولادكم وأهليكم، قال زيادُ بنُ أبي سفيانَ يوماً لبعض جلسائه: مَن أَنعَمُ الناس عيشاً؟ قالوا: أنت أيها الأمير؛ فقال: لا؛ ولكنه رجل مسلم، له زوجة مسلمة، لهما كفاف من عيش، قد رضيت به ورضي بها، لا يعرفنا ولا نعرفه.

 

وتابع: من عظيم دعاء النبي صلى الله عليه و سلم: ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن بُسر بن أَرطاة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو (اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة)، قال ابن كثير في تفسيره: هذا حديث حسن؛ مشيراً إلى أن في هذا الدعاء إقرار بالعجز وتسليمُ الأمور إلى الله؛ فإنه الذي يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علامِ الغيوب. وأضاف أن العبد لا يزال في يومه وليلته يلج في أمور لا يدري عن عواقبها، ويفتتحها وهو لا يدري عن الختام، من أمور دينه ودنياه؛ فليسأل الله أن يُحسن عاقبته في الأمور كلها؛ فربما سَرّه ما كان يحذره، وربما ساءه ما كان يرجوه.

 

وقال "آل طالب": إذا أحسن الله العاقبة كان النجاح والتوفيق حليفَ العبد في دنياه، وكان له الفوز في الآخرة؛ فيجيره الله من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة؛ فينبغي اللهج بهذا الدعاء في كل نازلة تنزل بالأمة، وعند كل حادثة تطرق أو ملمة، دعاءً بأن يحسن الله عاقبة الأمور، ومصائر الحوادث، ومنها الثبات على الدين عند الفتن، والسلامة منها ومن الزيغ.

 

وأضاف: من عظيم دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر).

 

وتابع: صلاح الدين مع عدم صلاح الدنيا واستقامةِ معايش الناس صلاحٌ ناقص، والصلاح كل الصلاح أن يصلح الله للعبد دينه ودنياه، دينَه الذي هو عصمة أمره، ودنياه التي فيها معاشه، ويتممَ له الصلاح في آخرته التي إليها معاده؛ فيكون له الفوز بالجنة والنجاة من النار {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور}، ومنه يؤخذ وجوبُ السعي في تحصيل أسباب صلاح الدين والدنيا، ومنعِ كل سبب يؤدي لفسادهما.

 

وقال "آل طالب": نظرة الإسلام إلى الدين والدنيا هي العدل والميزان، نبراسها من قول الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، فلا رهبانية في الإسلام، إنه الدين والدنيا، وإنه المسجد والسوق، والمصحف والحرث {فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور}، {فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون}.

 

وأضاف: من عظيم الدعاء ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنِزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حُسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً، وأسألك لساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب).. وهذا الدعاء نِعم الكنز، وهو حقيق بأن يُحفظ ويقتنى؛ لأنه الذي يبقى ولا يفنى، قال تعالى: {الْمَال وَالْبَنُونَ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَات الصَّالِحَات خَيْر عِنْد رَبّك ثَوَابًا وَخَيْر أَمَلًا}، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه خيراً كثيراً، ثم سأل الله العزيمة على الرشد وهي الرغبة في الخير والنشاط إليه والصبر عليه والثبات، ومن رأى كثرة الناكصين عن الحق، وضعفَ الهمم في الخير، عَلِمَ قدر الحاجة لهذا الدعاء، ثم سأل الله شكر النعمة وحسن العبادة، وهما مما علّمه النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً فقال: (يا معاذ، والله إني لأحبك؛ فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، ثم قال: (وأسألك قلباً سليماً، ولساناً صادقاً)، ولا ينجو في الآخرة إلا أصحاب القلوب السليمة، وقال تعالى: {ولا تُخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم}، وصدق اللسان دليل صدق القلب وأمارة عليه