رنا عبدالقوي تكتب: شرم الشيخ للمسرح الشبابي وإضاءة الصورة المظلمة

الفجر الفني

رنا عبدالقوي
رنا عبدالقوي


لأن الماضي متصل بالحاضر والمستقبل، بدأت فعاليات الدورة الثانية من "مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي" الذي يرأسه المخرج المسرحي الشاب مازن الغرباوي، ويديره الفنانة والممثلة وفاء الحكيم، ويديره تنفيذيًا الدكتورة إنجي البستاوي، ويرأسه شرفياً سيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب، الدورة التي امتلأت أيامها ولياليها بالفعاليات، مهداه لروح الفنان المسرحي المُلقب بالفارس النبيل (كرم مطاوع) وفاءًا لما قدمه للمسرح وللفن، بليلة افتتاح أحيتها فرقة الموسيقي الخاصة بوزارة الشباب والرياضة، وغناء المطرب التونسي (لُطفي بوشناق) بتكريم مجموعة من فناني مصر والوطن العربي، منهم الكاتب المسرحي المصري شاذلي فرح، والكاتب الشاب المصري محمود جمال، والفنانة اللبنانية رانده الأسمر، والفنان نضال الشافعي، والفنان سامح حسين، والفنانة التونسية شاكرة رماح.

 

وتوالت الفعاليات، التي انتهت منذ أيام قلائل، طيلة ثمانية أيام بين ندوة تكريم باسم الراحل (كرم مطاوع) أهدت فيها فنانة النحت المصرية (نسمة دياب) تمثالاً لرأس الفنان الراحل، وندوات علي مائدة مستديرة، تدور حول (مسرح الفضاءات المفتوحة، المشهد المسرحي الجديد في العالم، مسرح الشارع، وندوة عن المخرج المسرحي خالد جلال)، كما ضمت الفترة الصباحية من أيام المهرجان مجموعة من الورش قام بها مجموعة من فنانو العالم، اقبل عليها العديد من الشباب، مثل (ورشة عرائس ودمي "ايميليا بتلوجيوسكا" من بولندا، ورشة إعداد الممثل "شادي سرور" من مصر، ورشة الإخراج "دكتور حمادي الوهايبي" من تونس، ورشة إعداد الممثل "جوهانا جريسر" من فرنسا، ورشة مسرح الشارع "إسلام سعيد" من مصر، ورشة السينوغرافيا "فيصل العبيد" من الكويت) وأثمرت الورش عن نتاج هام ومذهل قُدم بعضهم في اليوم الأخير من المهرجان، كعرض مسرح الشارع للفنان المصري إسلام سعيد الذي وفرت له إدارة المهرجان مع الأجهزة الأمنية أن يتحقق في الشارع متخذاً ممشي خليج نعمة فضاءاً له، وبعضهم قُدم في ليلة الختام كعرض ورشة إعداد الممثل للفنانة الفرنسية جوهانا جريسر، وعرض ورشة العرائس والدمي للفنانة البولنية ايميليا بتلوجيوسكا.

 

ومن مكاسب الدورة الثانية للمهرجان، توقيع بروتوكولات تعاون ثقافي بين كل من (مصر وروسيا، مصر وفرنسا، مصر وأسبانيا)، وتم اختيار لجنة التحكيم بحيث تجمع شخصيات فنية من مختلف الدول والثقافات، فتألفت من (دكتورة سميرة محسن رئيساً من مصر، دكتورة أثير علي كامل من أسبانيا، بوبولينا نيكاكي من اليونان، داوود حسين من الكويت، دكتورة شادية زيتون من لبنان)، واستحدثت هذه الدورة من المهرجان لجان مثل، لجنة تحكيم النقاد الشباب، والتي كان أعضائها (الناقد والكاتب باسم صادق، والناقد والكاتب رامي عبدالرازق، والناقدة والكاتبة رنا عبدالقوي)، ولجنة تحكيم الجمهور التي تألفت من مجموعة من شباب الجامعات، ومسابقة أفضل شخصية مسرحية شابة، كان التصويت لها الكترونياً، ومسابقة أفضل نص مسرحي لمؤلف شاب.

 

وشارك في الدورة الثانية من المهرجان، والتي كانت تونس هي ضيف الشرف بها، عروضاً من مختلف الدول، منهم (كندا ، تونس، روسيا، فرنسا، البحرين، سلطنة عمان، كوريا الجنوبية،المكسيك، أسبانيا، إيطاليا، الكويت، مصر).

 

ولأن الفن لا ينفصل عن الواقع، والفنان لا يعيش في برجاً عاجياً، أتت العروض مهمومة بقضايا الإنسان في وسط هذا الكم الهائل الحروب والأطماع السياسية وضياع الإنسانية وسط بحثها الدائم عن السلطة والنفوذ، لنري العرض الكندي التونسي (الشقف) وهي كلمة تعني (القارب) بالتونسي متناولاً قضية هامة من قضايا المواطن العربي اليوم وهي قضية الهجرة والبحث عن موطن بديل عن الوطن الأم، فهذا القارب يضم أكثر من جنسية، لبنانية وسورية وتونسية وآخرون من دول مختلفة، جميعهم يقلون نفس القارب للهجرة، ولكل منهم أسبابه للرحيل، وخلال السير في عرض البحر يواجهون كوارث ومعوقات طبيعية يضطرون للعمل معاً علي مقامتها والتغلب عليها، كما يقوم بعضهم لبعض الوقت بالتفكير في ذاته فقط حتي وان ضحي بالأخر وآماله، في إشارة هامة الي تفرقة شعوب الوطن العربي.

 

كما أتي العرض العراقي (موت صالح للشرب) طارحاً نفس القضية، ولكن من الزاوية السورية، متخذ صورة الطفل السوري (آلان كردي) والتي أصبحت أيقونة تشرد الطفولة السورية و طغيان ولا إنسانية أصحاب السلطة والنفوذ منطلقاً للتعبير عن حجم المأساة التي يحياها الشعب السوري، ولوضع المشاهد في نفس حالة الضغط التي يمر بها المهاجرون عبر البحر ومواجهتهم للموت غرقاً، كان العرض علي الشاطي حيث يجلس المشاهدون، وأما الممثلون فيأتون من البحر سابحين، لتجسيد محاولات النجاة من موت ألم بالكثيرين.

 

وللتماس مع قضايا المرأة المعاصرة والتي لا ينفصل حاضرها عن ماضيها وماضي الأخريات، جاء العرضين المسرحيين (ميديا) الفرنسي التونسي، و(الفراشة) لكوريا الجنوبية طارحًا ما ألم بامرأة الماضي من تعذيب و تجريح لأنوثتها وعذوبتها، فـ(ميديا) الأسطورية اليونانية التي تغربت عن وطنها مع من أحبت بقدر ما ضحت وأعطت بقدر ما خدعت وضُحي بها، وأنثي اليوم المغتربة من بلاد الشرق إلي بلاد الغرب بقدر ما تمنح من حب ودفئ بقدر ما تخدع و يتم التعامل معها كوسيلة للمتعة الجسدية فقط، والـ(الفراشة/ المرأة الكورية) والتي عانت ويلات الحروب والاغتصاب والخطف والاحتلال الياباني في عام 1940 من القرن الماضي هي ذاتها التي تعاني في كهولتها وفي صورة حفيداتها من الذكريات التي تركت بداخلها جرح وآلام لا يداويها الزمن، كما أتي العرض الاسباني (فيديريكو .. رمق بين الشفاه) الذي تعرض لنساء أعمال الكاتب المسرحي الاسباني (لوركا) من خلال المرور علي أعتاب مقدرات ومأسي بطلات نصوصه (يرما، عُرس الدم، بيت برناردا آلبا، غناء الخوندو، شاعر في نيويورك) ليصل الماضي بالحاضر وبالمستقبل في حياتهن.

 

ولاحتلال القضايا السياسية المكانة الأكبر من اهتمام الفنان علي مستوي العالم أتت عروض من نوعية الكباريه السياسي، كالعرض التونسي (ثورة دون كيشوت)، الذي تناول زيف الإعلام العالمي،والحروب الالكترونية وثورة الاتصالات التي شاركت في إثارة الرأي العام للشعوب، كما أتي عرضاً سياسياً ذكياً من إيطاليا باسم (المزرعة) هذا العرض الناطق بالانجليزية وليس الايطالية، ليصل لأغلب الشعوب ويصل لأكبر قدر من الثقافات، تأكيداً علي عمومية رسالته، جسد العالم من خلال مزرعة حيوانات، تضم كافة الحيوانات علي مختلف قوتها وأحجامها، تقوم طيلة الوقت بالتناحر والتصارع للحصول علي الطعام والشراب، ثم السلطة والحكم، ويتعرض العرض لقضايا الديموقراطية والديكتاتورية بإقامة انتخابات ليتزعم أحدهم المزرعة.

 

وتنوعت العروض المشاركة في المهرجان، لتضم عروضاً مسرحية موسيقة وكرنفالية، كالذي قدمته المكسيك عن النص الشيكسبيري (حلم ليلة صيف) والذي خرج تماماً عن إطار المسرح التقليدي - التجسيدي، بأن شارك الجمهور في عملية المسرحة منذ اللحظة الأولي للعرض، واعتمد علي الرقص والموسيقي ذات الإيقاع المنبه للجمهور والذي دفعهم للتفاعل الحي، والماسكات والملابس الرمزية، وشاشة الفيديو بروجيكتور لإعطاء بعض المعلومات للمتفرج، حيث لم يعتد علي الحوار المسرحي بقدر اعتماده علي الأداء الحركي الموحي بالمعني الموصل للفكرة، كما أتي العرض الروسي (الحب في كوب ماء) مغايراً للتقليدية في العرض وفي الطرح، حيث اعتمد علي التعبير الحركي، والتكنيك الفني المختلف، واستخدام شاشة فيديو بروجيكتور ليتبادل معها الممثلون الأداء بين المُصور سابقاً والحي.

 

بجانب التقاطها للخيوط أفكار وقضايا مُلحة، نجحت العروض العربية في تشكيل صورة مشهدية وجمالية متقنة ومختلفة، فالعرض العماني الكوميدي (النوخذة) الذي شكل فضاءً مغايراً لقارب يتوسط البحر يُقله الأنس ويحيطه الجان، من خلال ديكور وإضاءة منفذون بحنكة ووعي بآليات العرض المسرحي، كما أتي العرض الكويتي (محطة 50) بديكور وأزياء ومهمات مسرحية تؤكد علي اهتمام ووعي صناع العمل بأدق التفاصيل التي تحيط بالممثل لتعطيه القدرة علي الدخول لأعماق الشخصية التي يؤديها، وأما العرض البحريني (الهشيم) والذي يمس نقاط ضعف الشخصيات ومخاوفها وأسباب خيبات آمالها وانتظارها الدائم بلا جدوي، فقد وضع المشاهد من خلال الإضاءة الخاصة، والديكور الذي اعتمد علي عامود إضاءة واحد فقط، وأزياء الشخصيات تحت ضغط شديد هو ذاته الذي يقع تحته الشخصيات الدرامية ليدخلنا في إيهام المشاهدة، ليُختتم المهرجان بالعرض المصري (الإنسان الطيب) الذي جسد صراعات العالم علي السلطة والسيطرة علي أفكار ومقدرات أفراد المجتمعات، فصاغ مخرج العرض هذه المعاني بصريا وسمعياً بحساسية شديدة جداً مما عمل علي إيصال المعني دون حوار درامي كلاسيكي ولا أحداث درامية ذات الفورم التقليدي.

 

لتتم فعاليات ثمانية أيام وليالي بتوزيع الجوائز من لجنة تحكيم المهرجان الرئيسية ولجنة تحكيم النقاد الشباب ولجنة تحكيم الجمهور، ولكن ترحل الدورة الثانية تاركة لنا أثر عروض مسرحية من العالم تُبقي في النفس والذهن لتثير بداخلهم العديد من الأسئلة، حول مستقبل البشرية وآمالها وطموحها لعيش غدٍ أفضل، علي أمل بلقاء قريب بعد شهور قليلة مع عروض أخري جديدة قد تفاجئنا بأسئلة أخري، ويبقي أن الحراك الذي يفعله مهرجانات مسرحية دولية كمهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي علي المستوي الثقافي والاقتصادي والسياحي هو الأثر الأهم والذي يجب أن يقاتل من أجله جيلاً يحاول أن يضئ الصورة المظلمة.